في انتظار الميت الذي مات (الجزء الثاني)/ أ.د مجيد حميد الجبوري
قراءة تحليلية في نص وعرض مسرحية (ميت مات)
3– الرؤية الإخراجية:
نجحت الرؤية الإخراجية للنص أعلاه في تقديم عرض أنيق؛ بإيقاع منضبط؛ أكتسب توتره الدرامي؛ لا من خلال كثرة الحركة؛ وزيادة الانفعالات النفسية المحتدمة؛ بل أكتسيها من عوامل أربعة رئيسية هي: سكونية الحركة، وسكونية الأحداث، وسكونية الشخصيات، وغرابة الفكرة؛ ومن خلال هذه العوامل الأربعة نجح العرض بتقديم فهم عميق ووعي ثاقب ورؤيا معاصرة وجديدة لفكرة الانتظار التي تشغل البشرية كلها؛ وفي الوقت نفسه فقد أفسحت تلك العوامل؛ المجال واسعا أمام التأويلات المختلفة التي يمكن أن تتوالد منها. لذا فأن العرض الذي كان مخرجه هو مؤلفه وهو (الدراماتورج) له؛ أضاف علامات زادت من مساحة التأويلات؛ وعمقت من الأفكار الفلسفية التي أشتمل عليها النص؛ وأهم تلك العلامات المضافة التي حملت كل علامة منها دلالات خاصة بها؛ هي:
1/ إحالة مكان الأحداث من محطة قطار مهجورة الى صالة عرض أنيقة في متحف للحضارات.
2/ تحويل الشخصيتين الطاعنتين في السن الواردتين في النص الى تمثالين ساكنين في صالة عرض أنيقة بمتحف.
3/ إن التمثالين أعلاه كان يتحركان ويتكلمان – في العرض – بحرية وطلاقة تامتين؛ وأن الذي يكون في محيطهما لا يرى حركتهما؛ ولا يسمع أحاديثهما.
4/ أضاف المخرج شخصية ثالثة في العرض؛ هي شخصية عامل التنظيف الذي يقوم – بين الحين والآخر – بتنظيف الصالة، والعناية بمظهر التمثالين ونفض الغبار عنهما والمسح على جسديهما.
5/ قامت الشخصيتان – في النص – بتبادل أماكن جلوسهما مرتين؛ غير أن العرض الأول للمسرحية في بغداد أكتفى بمحاولة واحدة؛ أما العرض الذي قدم في البصرة؛ فقد جرت فيه محاولة فاشلة واحدة لتبادل الأماكن عجزت الشخصيتان عن تنفيذها؛ فبقيت الشخصيتان في مكاني جلوسهما؛ وفيما عدا محاولة وقوف واحدة تأتي في نهاية المسرحية؛ فأن الشخصيتين في العرض لم تتحركا من مكاني جلوسهما مطلقا أثناء العرض المقدم في البصرة. وحتى هذه المحاولة بائت بالفشل؛ بسبب نسيان الشخصيتين كيفية السير؛ وهي المحاولة نفسها؛ التي تم بيانها في تحليلنا للنص.
6/ قدمت الرؤية الإخراجية – في العرض – نهاية مغايرة للنهاية الواردة في النص؛ إذ أن النص ينتهي بقرار الشخصيتين الأقدام على الموت؛ في حين أن العرض؛ يمضي الى أبعد من ذلك؛ فبعد هذا القرار؛ يعلن العرض؛ بواسطة مكبر للصوت اعتذارا لزوار المتحف صادر من إدارة المتحف بعدم مشاهدة هذين التمثالين بعد الآن؛ لاضطرار الإدارة لنقل هذين التمثالين الى مخازن المتحف لأغراض الصيانة.
إن المتغيرات أعلاه؛ التي أضافتها الرؤية الإخراجية في العرض؛ حملت دلالات زادت من العمق الفكري والفلسفي للنص؛ ومنحته مستويات مضافة من المعاني تفوقت في دلالتها على ما جاء به النص من معانٍ ومضانٍ؛ نبينها على الوجه الآتي:
أ – إن إحالة المكان من محطة قطار مهجورة الى متحفٍ حديثٍ للحضارات؛ حملت دلالة أشارت الى أن ما يجري من أحداث؛ هو حاضر آني ماثل أمامنا؛ وأن هذه الأحداث لا تجري في مكانٍ منعزل مهجور؛ بل تجري في مكانٍ؛ يمكن أن يوئمه الزوار في كل حين؛ وبذلك فأن العرض جعل المتلقين هم قسم من هؤلاء الزوار؛ وبالتالي فهم أصبحوا – بشكل غير مباشر – ضمن لعبة العرض وورطة الشخصيتين.
ب – أما تحويل الشخصيتين الى تمثالين؛ يرمزان الى مكانة المخلِصين؛ فهذا يدل على أن هذين المخلِصين؛ هما مجرد صنمين رسخا في عقول الأجيال حتى حملا ضربا من القداسة وأصبحا تابواً يحرم المساس به؛ في حين أنهما لا يزيدان عن صنمين عاجزين عن الحركة؛ وبحاجة لمن ينقذهما ويخلصهما من انتظارهما الأزلي.
ج – أما كلام الشخصيتين وتحركاتهما التي تجري بحضور الآخرين؛ دون أن يشعر بها الأخرون؛ فهي دلالة على أن زمن هذين الصنمين هو غير زمن زوار المتحف الحاضرين؛ ويمكن أن تدل – أيضا – على أن ما تتكلم به هاتين الشخصيتين أو تتحرك أزاءه؛ هو وهم وليس حقيقة؛ أو أنه لغو أو ثرثرة لا جدوى ولا نفع فيهما.
د – على أن أضافة شخصية عامل التنظيف الذي يقوم بحمل التمثالين في نهاية العرض وأخراجهما من خشبة المسرح؛ تُعد دلالة مضافة تشير الى أن الفكر الحضاري المعاصر؛ سوف (يكنس) هذه الأصنام وينظف عقول البشرية منها.
هـ – أما تبادل أماكن الجلوس التي وردت مرتين في النص؛ فكان القصد منها محاولة الشخصيتين للتغيير مرتين؛ غير أن تبادل الأماكن لم يسفر عن أي تغيير؛ في حين أن العرض الأول الذي أكتفى بإجراء التبادل مرة؛ فأنه أراد الإشارة الى أن الشخصيتين مع رغبتهما بالتغيير؛ لكنهما يفشلان بالتغيير حتى وإن غيرا من أماكن تواجدهما؛ أما العرض الذي أستغنى عن أجراء أي تبادل في الأماكن؛ واكتفى بإعلان الشخصيتين عن رغبتهما بتبادل الأماكن؛ دون تنفيذ تلك الرغبة؛ ففي ذلك دلالة؛ على أن رغبة التغيير ولدت ميتة ووأدت قبل أن تنفذ.
و – إن النهاية الصادمة للمتلقين التي تشير الى نقل التمثالين الى المخازن لأغراض الصيانة؛ فذلك يعني أن فكرة (انتظار المخلِص) لم تعد صالحة للتداول؛ بعد أن عفى عنها الزمن؛ ولم يعد لها أي معنى؛ وأن البشرية بحاجة لصياغة فكرة جديدة؛ تخلص البشرية من آلامها وأوجاعها غير فكرة (المخلِص المنتظَر) (بكسر اللام وفتح الظاء).
4 – التمثيل:
إن التمثيل في هذه المسرحية ؛ أوجد في العرض معادلة مغايرة في أسلوب الأداء التمثيلي؛ فبدلا من ارتكاز الأسلوب الأدائي على حركة وجسد الممثل وصوته؛ وعلى طاقاته الانفعالية والشعورية؛ فإن أسلوب الأداء التمثيلي في هذا العرض أرتكز على الروحانية الداخلية للممثل؛ وعلى صفاء ونقاء ذهنية الممثل؛ إذ أبتعد الأسلوب التمثيلي عن الأداء الحركي والجسدي؛ وعن إطلاق المديات الصوتية والتلاعب بالدرجات الصوتية؛ فضلا عن ابتعاده عن التشنجات العاطفية والمشاعر المبالغ في تدفقها؛ وأرتكن الى السكون والهدوء المصاحب برقة الصوت المعبر عن وجدانية الممثلين؛ لا وجدانية الشخصيتين؛ لذلك حق للبعض وصف أداء الممثلين بـ(الأداء الصوفي) . وهذه المفارقة بين وجدانية الممثلين ووجدانية الشخصيتين؛ تطلبت من الممثلين تركيزا عاليا؛ واجتهادا مضاعفا؛ ما جعل من مهمتهما الأدائية في منعطف طرق خطير؛ فإي وقوع في لون صوتي واحد أو درجة صوتية واحدة سيؤدي الى ملل المتلقين وعدم تواصلهم مع العرض؛ وأي ترهل في حركة جسدية أو إيماءة أو إشارة – مهما كانت صغيرة – أو تعبير بالوجه – مهما كان غير ملحوظ – قد يوقع العرض في الرتابة؛ وخلاصة القول أن ممثلي العرض الرئيسيين كانا يسيران على نصل سيف حاد أو في ممرٍ ضيق بين نارين؛ وعليهما العبور وسط هذه المخاطر؛ لتقديم عرضٍ مثير؛ وأعتقد – كما أعتقد جميع من شاهد العرض – أن الممثلين قدما عرضا مثيرا عنوانه السكون والهدوء اللذين يغطيان كل ضجيج هذا الكون وتعقيداته.
أخيرا فأن عرض مسرحية (ميت مات) قدم نموذجا مثاليا لعرض مسرحي حداثوي أعتمد إثارة الفكر واستفزازه أكثر من اعتماده إثارة العواطف واستفزازها؛ فبالرغم من البساطة التي يبدو عليها أسلوب الخطاب اللغوي للنص؛ إلا أن العرض جاء مليئاً بلحظات التأمل الفلسفية العميقة؛ التي تجعل المتلقي مضطرا لإعادة تأمل لحظات العرض؛ ليجد فيها ما يستجد من دلالات تكمن تحت هذا السطح الظاهر؛ والمتظاهر بسطحيته؛ إنها قد تبدو حيلة أسلوبية اجترحها صناع هذا العرض؛ ولكنها بثت رسالة عميقة المعاني والدلالات التي تعيش في ذاكرة المتلقي ووجدانه زمنا طويلا.