التشكيل الإخراجي ونظرية الانتقال المفاهيمي/ يوسف السياف
ان الجمال مفهوماً معرفياً ينضوي تحت طائلة الأشياء التي تشمل مظاهر الحياة والمتغيرات اليومية, بما فيها من رؤى وأسس مفاهيمية وحياتية من شأنها تُكوين صورة بصرية للعديد من المواضيع المرغوبة, والتي تزايد الاهتمام بها عبر مفاهيم الميديا والتطورات التكنوافتراضية التي أصبحت قائمة على ركن أساسي في عالمنا الراهن, مما أوجب على الفن أنْ يكون موضعاً للإلهام الجمالي ومصدراً رئيساً في الميادين العامة, بحيث يشكل اتساعاً في كل البؤر الاستطيقية, فكل ما قدمه الإنسان من إبداع لابد من أن يتسم بالجمال الذي خضع لعدة تعريفات, وهنالك مقاربات مفاهيمية ما بين الفلسفة والفن كمرحلة لا منتهية ضمن الطائلة الانتقالية والحركية المتسعة يوماً بعد آخر في حيز الانتقالات, غير أن الباحث يجد تعريفا يقارب وجهات النظر الاستطيقية ومتغيرات مفهوم (الإخراج) الانتقالية المعاصرة تحت مسمى (جماليات الإخراج) بوصفها (مجموعة الخصائص الفنية والفكرية والمفاهيمية لعناصر العرض المسرحي ومكوناته التي تنتظم بالإنسجام والهارمونية والتناسق على مستوى الشكل والمضمون. انطلاقاً من السؤال الجمالي (ما هو الجمال في العرض المسرحي العراقي ؟) إذ إنَّ كلّ أشكال الفنون تكشف عمّا هو جميل وتفكر به تفكيراً ملحوظاً, لتتعدد وتتنوع الجماليات داخل العرض المسرحي بشكل خاص, حاملة الجمال ومنتجاته الرؤيوية في حيز الاشتغال, وبِظهور مفهوم (الإخراج) نتيجة البحث الدائم والمستمر من قبل المشتغلين في الحقل المسرحي لمنح العرض سمات وخصائص جمالية , الأمر الذي استدعى وجود شخص يمسك بخيوط الإبداع جمالياً وينظمها, نتيجة تأثر الفن المسرحي والعوامل المحيطة به، سواء كان الأمر تكنولوجيا أو رؤيويا، لكن الأمر المهم في هذه النضيدة المعرفية هو (كيف يمكن توسع الرؤى بحسب المرجعيات المعرفية للشخص المسرحي وخصوصا في المخرجين العراقيين الذين درسوا في الخارج)، الأمر الذي يعطي خصوصية بين (مخرج) وآخر, حيث يفرض العرض المسرحي وجوداً شخصياً وقيادياً ينظم مكونات العرض، ويشكّل فضاءه رؤيةً جمالية عبر العديد من الأسس والتطلعات النظرية والتطبيقية، وهذا الأمر يكون عاملاً انتقالياً بين البنية والمفهوم البصري, على الرغم من أنَّ دور (المخرج) موجود قديماً لكنّه متشابك بالمهام تحت مسمى آخر.
إنَّ (الإخراج) قد تطوّر وأخذ مدياتٍ أوسع بعد أنْ طغت كفته على كفة التأليف, فقد أخذ المفهوم يتشكّل تدريجياً عبر مراحل انتقال المسرح من عصر إلى آخر, وحاول توظيف التقنيين في العرض المسرحي, وأصبح بإمكانه ان يطرح رؤاه الجمالية في العملية (الإخراجية) كنوع من الوحدة والانسجام والتكامل بين الشكل والمضمون, اذ انها نتاج لمرجعياته الفكرية والفنية التي تتمثّل من خلال فعل القراءة المؤثّرة للنص المسرحي من أجل اكتشاف معانٍ جديدة, ولعل المسرح العراقي منذ بدايات ماري جوزيف ونعوم فتح الله سحار كانت تحاكي بشكل أو بآخر الرؤى الجمالية للبيئة العراقية وتمثلت في تكوين أسس المسرح العراقي وهذا الشيء أعطى الآخر قراءة مفاهيمية جديدة ضمن الاطار العام، ثم خلق بوناً جمالياً بين المرسل والمستقبل, وتطويع أداة الممثل بالمزاوجة ما بين الأداء اللفظي والأداء اللالفظي تارة وبين الحركة والسكون تارة اخرى، لإضفاء بعداً جمالياً إلى شكل العرض المسرحي ومضمونه, للوصول إلى الأداء التمثيلي الصادق رغم المراحل البدائية التي مر به، من خلال إطلاق العنان لخيال الممثل كإيقونة حاملة حية للجمال وتحرير احاسيسه وخلق هارمونية بين الشخصية ومعطياتها وعناصر العرض المسرحي الأخرى.
تتعدد الطروحات المسرحية والمعالجات (الإخراجية) وآليات الإشتغال إذ تتبلور بحسب المفهوم الشعوري بشكل أكثر وضوحاً نتيجة تطور امكانيات (المُخرج) في إظهار جماليات التشكيلات السمعبصري وتمليك القيمة الجمالية داخل فضاء العرض, إِلَّا أن تلك الطروحات تنطلق من زاوية منظورها العلائقي لجماليات (الإخراج) المسرحي الخاص بموضوعها الفني والجمالي من جهة, ومن خاصيتها المتباينة لموضوع تنظيمي وبنائي لتقديم العرض المسرحي بشكله الجمالي الغني بالمعايير الفنية والفكرية من جهة أخرى, سواء كان ذلك على مستوى التقنيات المسرحية التي تساهم في تكوين السينوغرافيا, او على مستوى النص المسرحي, اذ لا يقف الجمال على البعد البصري بل يشمل المحتوى النصي بما فيه من معطيات يحملها المؤلف ويطرحها, وبذا تنعكس هذه الرؤى لتعطينا أداءات لفظية أو جسدية تتشكل عبر نموذج المحيط البصري.
وبطبيعة الحال أَنْ (الإخراج) المسرحي له جماليات ذوقية قبل أَنْ تكون له جماليات حسية, وذلك من خلال التمظهرات الجمالية التي بدورها تبرز للجمهور ذلك البعد الجمالي الذي يوفر الإحساس والشعور بتلك المعارف التي أدَّت إلى تغيّر المفاهيم داخل المجتمعات, إذْ حدث تحوّل بكلّ مفاصل الحياة على الصعيد العلمي والعملي, وبطبيعة الحال أثرت هذه التحولات على البنية النصية والبصرية، وفي ظلّ التطورات التي شهدها عصر التنوير، والتي بدورها انطلقت لتأسيس مجتمع جديد متأثراً بكلِّ ما أفرزته المابعديات كمفهوم يرمي الى التجديد كمحاولة للوصول إلى أُسلوب فني متميز تنوع عناصره الجمالية ومصادره داخل محيط العرض, نتيجة تطور رؤية (المخرجين) ومعالجاتهم لمجمل مكونات العرض سينوغرفياً, من خلال إعادة بناء الأطر التقليدية وتوظيف التقنيات الحديثة لتأخذ حيزاً جمالياً, وبذلك تتعدد جماليات(الإخراج) بتعدد عناصره ومدلولاته.
لا يمكن أنْ تتحقّق الدهشة إلّا بتوحّد الفكر الجمالي بين عناصر العرض المسرحي, للوصول إلى رؤية جمالية تخدم الشكل والمضمون, مما ادى ذلك الى النفور من مفهوم الايقونة الواحدة والذهاب الى تبني مَبادِئُ متناقضة من خلال دمج أساليب مشتّتة ومتنافرة, وإدراج الممثلين والتقنيين والمتلقي ضمن مسافة زمنية واحدة, ويكون الممثل والتقني كـ(المُخرج) فهم منتجو عملية بناء العرض المسرحي بأكمله من مبدأ الابتكار والطرح والتفسير والتحليل وليس التنفيذ والطاعة العمياء، بالإضافة الى اعطاء الجانب السردي مساحة أوسع في الاختزال, وإضفاء أبعاد جمالية تستطيع بناء علاقة تشكيلية تضم جميع مكونات العرض المسرحي وفق معيار جمالي يشتغل على رصد وحشد شبكة من العلاقات الجمالية وتكريس وجودها.
اعتمدت أغلب مسارح العالم الاتجاهات الصورية التركيبية ومفهوم (المُخرج) السينوغراف وأسلوب اللغة المشهدية واعتماد العناصر التشكيلية أمثال (صلاح القصب، وجبار جودي، وأنس عبد الصمد…), من أجل تحقيق وصول المعنى المطروح إلى المتلقي, اذ نجد أَنَّ اغلب (المُخرجين) يقومون بتأليف عرضهم على أنقاض شذرات نص المؤلف الاصل او جمع نصوص متعددة والخروج بنص واحد معد او مؤلف ضمن فكرة جمالية سردية، بالاضافة الى تدوين الملاحظات (الاخراجية) على مبنى النص لتحويل ذلك السرد الادبي الى سرد تشكيلي, إلا ان اغلب الرؤى (الاخراجية) المعاصرة اقترحت مفاهيم جمالية تعتمد في جوهرها على المزاوجة بين الفلسفة والمسرح مما أعطى مزية في النموذج البصري، إلا أن المسرح العراقي ظل مترفعا عن الفلسفة من دواعٍ متعددة أهما محابة المتلقي وتقديم ما يحاكي مفهوم البساطة اضافة إلى المسرح التجاري / الهابط الذي دمر ما يمكن الاشارة إليه سابقا، فالتشكيل الجمالي ظل مرهوناً ضمن فضاءات معروفة بتسمية البرج العاجي المتنوع والمتنغم بهارمونيا عالية الجودة مع المثقف والبحث عن صيغ جديدة أقرب إلى سحر التشكيل وجمال السينوغرافيا, والتوجه نحو إقصاء المتلقي البسيط لكسب تلقي عالٍ, معتمدين بذلك على اسلوب أو اتجاه فكري أو فلسفي معين .
وبهذا الانتقال المفاهيمي لمفهوم (الإخراج) من منطقة الجمود إلى منطقة حرة تنتمي إلى عبثية العصر، وذلك من خلال تجسّيد فضاءه المسرحي بهجر اللغة والتمرّد على النص، والتعويض بأداء الممثلين الأقرب إلى التشكيل والنحت, وتحطيم الأساليب الأدائية التقليدية والمسرح الدرامي, وتحطيم سيادة الأدب والتعبير عن المضمون عبر الفنون البلاستيكية (فنون التشكيل), وعبر تشويه الممثل على الرغم من اختلافهما في الرسالة الفكريّة والطروحات, إذ لجأ (مخرجو) المسرح العراقي المعاصر إلى مواكبة التجارب العالمية والطروحات الفكرية والفلسفية, وما وصل إليه المسرح في كل بقاع العمورة, فلا يمكنهم أن يتخلوا عن تنظيرات (مخرجي) المسرح العالمي, وبدأ الاهتمام بشكل العرض المسرحي ومضمونه, فضلاً عن بحثهم الدائم عن خصوصية وتأصيل للمسرح العربي/ العراقي والنظر إلى الواقع ومعالجته نتيجة الأزمات التي رافقت المجتمعات في ظل التقلبات السياسية والاقتصادية, فتعددت جماليات (الإخراج) في المسرح العراقي في ظل التطورات التكنورقمية المعاصرة التي انطلقت من الجمال الذي يحاول أَنْ يروّض معاناة اللغة (الاخراجية) والفعل المرئي, من خلال اقتراح أساليب جمالية جديدة تجابه النص وتتعقّبه في حلوله, ومحاولة جمع عنصري اللغة والصورة بعرض مسرحي محورُهُ الرئيسي هو الرفض والاحتجاج لكلِّ أشكال العنف والقهر والتهميش، والعودة إلى معاناة الحرب وما خلفته من تراكمات أثّرت بكلِّ جوانب الحياة.
سرعان ما تفاعل المسرح العراقي الما بعدي مع المتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي دهمت الواقع العراقي, ويمكن تلخيصها بمجمل الإسهامات التي تناولت مفهوم ضرب التابوهات وطرح الخطابات الجرئية والشخصيات المغايره لما هو سائد لاسيما الاعتماد على الجسد, واللجوء الى الفضاءات المفتوحة وتأثيث البيئة التي تخرج عن المفهوم الايطالي لمسرح العلبة.
حاول (القصب) أنْ يوضح الكوانتم والصورة بالعديد من التجارب التي مكنته إلى تأثيث فضاء خاصا به، بحيث يحاكي المتلقي بفرض عدة معاني مختلفة, وعدم البقاء تحت سلطة معنى واحد, فهو يدعو المتلقي عبر علاماته الصورية ومجموعة الإشارات التي يطرحها العرض، للدخول إلى فضاء العرض وتأويله, أراد (القصب) أَنْ يرسّخ فكرة البحث عن ما وراء المضمون والاعتناء بالصورة والابتعاد عن السرد الحواري في النص, ومن ثم إعادة إنتاج النص ليجعل من المتلقي إنساناً واعياً يستطيع أنْ يفكَّ شفرات العرض ليؤسّس معياراً جديداً للنص لا سيما مسرحية (هاملت), وذلك عندما ابتعد عن تجسيد النص والإكتفاء بمضامينه المحدّدة به وإنَّما أعاد صياغته من خلال منحه إشارات ومناطق خفية جديدة محدثاً فجواتٍ عميقة فضلاً عن إنَّه إقترح قراءة مغايرة مختلفة بالحذف والإختزال.
يجد الباحث أن التشكيلات البصرية ضمن الفضاء الانتقالي للفعل الجمالي عند (المخرج) المسرحي لا سيما العراقي كانت لها الدور الواسع والحقيقي في هذه التعددية (الاخراجية), مما كونت مرحلة كبرى في التثاقفات المعرفية، وهنا يشكل الحافز الأساس في انثربولوجيا الصورة معيناً كائناً في العديد من الأطر، وهذا الشيء كونه التراكم المعرفي والرغبة الملحة في تطوير نظرية (الإخراج)، لذا ظهرت لنا مدارس ونظريات واتجاهات ورؤى محاكية للمسرح الغربي من شأنها بيان المحمول المعرفي لكل (مخرج) جمالياً,
عبر تبني مفهوم (المتعة) كأحد أهم المفاتيح الرئيسة التي تحدّد معنى الجمال في العرض المسرحي لكونها محملة بالمعاني وعامرة بالدلالات, والقدرة على إبراز الجماليات من خلال إظهار الخير والشر والفضيلة والرذيلة والنقاء والتهتك، داخل شكل ومضمون العرض المسرحي, وتحقّق الجماليات في العملية الإخراجية نوع من الوحدة والإنسجام والتكامل بين الشكل مع المضمون, اذ ان جماليات الرؤيا الإخراجية هي نتاج لمرجعيات المُخرج الفكرية والفنية التي تتمثّل من خلال فعل القراءة المؤثّرة للنص المسرحي من أجل اكتشاف معانٍ جديدة, والمساهمة في تفعيل حضور المتلقي من خلال اشراكه في الأحداث بخلق مسافة جمالية بين المرسل والمستقبل, والقدرة على تطويع أداة الممثل بالمزاوجة ما بين الأداء اللفظي والأداء اللالفظي وبين الحركة والسكون, وكذلك المزاوجة ما بين اللغة العامية واللغة الفصحى تارةً واللغة اللفظية والّا لفظية تارةً أخرى لإضفاء بعداً جمالياً إلى شكل العرض المسرحي ومضمونه, واطلاق خيال الممثل وتحرير أحاسيسه وخلق هارمونية بين الشخصية والعناصر المسرحية الأخرى, وتكييف فضاء العرض المسرح جمالياً لإحتوائه المكونات السمعبصرية والحركية كافة بإنسجام وتكامل وهارمونية, وبالاضافة الى استخدامت التقنيات المعاصرة لإضفاء أبعاد جمالية لقدرتها على بناء علاقة تشكيلية تضم جومع مكونات العرض المسرحي, اذ ان المعيار الجمالي في العرض المسرحي يشتغل على رصد وحشد شبكة من العلاقات الجمالية وتكريس وجودها من خلال توظيف المُخرج لمفاهيم المعرفة والحكمة والحرية والإرادة.
وعبر ما تقدم يلحظ الباحث أن مسرح م بعد 2003 امتاز بالعديد من التجارب والرؤى والمفاهيم ذات الأثر الواضح إذ أنها استلهمت من المكونات الرقمية لتكون ذات حافز جديد بالنسبة للمخرج، فلم يعد هنالك تقاعس عن توفير متطلبات العمل بل راح المخرج يحقق مفهوم بصريا مضافا للعملية النصية، وبذا لا يمكن اقصاء احد دون آخر، لذا لدينا في المسرح العراقي المعاصر نماذج اخراجية تنافس مفهوم العديد من المطروحات الفلسفية والبصرية للمسرح العربي والعالمي.