القدريات ما بين مطرقة المجربين، وسندان المارقين/ بقلم: حسام الدين مسعد
شكسبير في جبل الأولمب (نموذجاً) للكاتب والمخرج العراقي (منير راضي)
حين طالعت عنوان النص المسرحي “شكسبير في جبل الأولمب “لمؤلفه الكاتب والمخرج العراقي “مير راضي ” توقفت كثيرا لأطرح السؤال علي نفسي، ما الذي يدفع كاتب في مطلع القرن الثالث والعشرين، أن يغوص بقرائه في الإرث الشكسبيري الذي خلفه لنا الكاتب الإنجليزي قبيل ثمانية قرون؟ هل هناك ضرورة حتمية لوضع الإرث الشكسبيري في مناخ الأسئلة؟ أم أنها الضرورة الما بعد حداثوية التي تنطلق بصرخة معرفية في وجه المؤسسات المالكة للخطاب، والقوة، والمعرفة في العالم؟ ام أننا أمام كاتب حداثوي ينطلق في نصه من فرضية جديدة، وغير مألوفة يستقرأ فيها الراهن العالمي بإستمرار محاولاً ضد الحقيقة الراسخة بتصويرها خطأ يمكنه تصويبه؟.
-إن التساؤلات التي طرحتها على عقلي المحدود تضخمت كثيراً حين شرعت في القراءة الأولي لنص الكاتب العراقي منير راضي، لكن سؤالاً واحداً ظل عالقاً بذهني كقارئ طيلة زمن القراءة، وانا اتذوق مفردات النص اللسانية محاولاً فك شفراته، وباحثاً عن الوجودية الراهنة للشخصيات التي استدعاها الكاتب في نصه “شكسبير في جبل الأولمب “، الذي اعتمد فيه منذ اللحظة الأولي علي كسر المألوف والمعتاد في الفضائيين، فضاء التشخيص، وفضاء التلقي، إذ يشير “راضي” في ومضة العرض [خشبة المسرح عبارة عن حوض دائري ….]، وهنا تلك الإشارة تقود القارئ المتلقي أن طبيعة التشخيص لن تكون في فضاء تقليدي له فتحة واحدة تمكن النظارة من المشاهدة خلالها بمنظور أحادي يشابه فتحة البروسينيوم في الفضاء التقليدي، بل أن هذا الحوض الدائري له دلالات عديدة في التلقي (حلبة الصراع التاريخية / حلقة النقاش الحجاجية / الدائرة المفرغة التي تعمدنا فيها الي تجاهل المشكلات فتراكمت، ولم نستطع إيجاد حلول لها)، لاسيما أن الاستدعاء لشخصيات شكسبير في ومضة” منير راضي ” كان يخيم عليه الحالة الضبابية الممتزجة بعدة ألوان من الدخان، وبقع ضوئية تتوزع علي هذا الشكل الدائري، ليجلس داخل كل بقعة أحدي الشخصيات المستدعاة (عطيل، هاملت، قيصر، جولييت، الملك لير، بروميثيوس)، والتي تعرف نفسها للقارئ المتلقي في برولوج شديد الإختزال، لكن تظل حيرة القارئ في أجوبة التساؤلات التي يلقيها “راضي” عليه تشكل تغريباً قد ينحي به الي العجز عن فك التشفير، فيسأل نفسه عن الهجنة، والمزج الذي دعا المؤلف لاستدعاء كل هذة الشخصيات في مشهد واحد، وهل هناك رابط يربط بينها ؟أم أن القدريات التي تخيلها المؤلف العراقي هي مجموعة من الاستجابات التي يشرع بها في بحر التحدي المفترض والذي ينطلق منه لضحد خرافة ويليم شكسبير ؟
ـ إن الفرضية التي ينطلق منها المؤلف العراقي في نصه “شكسبير في جبل الأولمب “هي التحدي لتصويب الخطأ المعرفي الذي وقع فيه الكاتب الإنجليزي “وليم شكسبير “،والذي اختلف فيه كثيرون بما فيهم مؤلف هذا النص، الذي سبق له أن أنتج نصاً موسوماً” أنا ماكبث” يحاكم فيه شكسبير علي مغالطاته التاريخية مستدعيا المؤرخ الإنجليزي “هوليشند”، وها هو يعيد الكرة ثانية لكنه يستدعي هذه المرة كتاب عصر النهضة المعاصرين لشكسبير (كريستوفر مارلو، و بن جونسون، وتوماس ميدلتون)، والذين تربطهم بشكسبير علاقات وطيدة تؤكد الفرضية التي انطلق منها “منير راضي” وهي أن شكسبير سارق، ومارق في تراثه المسرحي، إذ أن استدعاء “كريستوفر مارلو” وهو من تعلم منه شكسبير طريقة معالجة سلوك الشخصيات، ونوعياتها، ف”مارلو” كان يركز على الضمير الإنساني، وعلى المونولوج المسرحي كما كان كذلك شكسبير الذي تعرف على مارلو عام 1591 ، وقبل عامين من مقتل “كريستوفر مارلو “الذي قال عنه “ريتشارد بانيز ” [المتحدث الأكثر خطورة يجب أن يتوقف]، لكن هل هذا الاستدعاء لشخصية “مارلو” حجة علي شكسبير ام قرينة علي عظمته ككاتب مسرحي؟
ـ إن البحث في بدايات شكسبير كمؤلف والتي تنتهي مرحلتها الأولي في العام 1594 ، والتي لا نستطع تحديد بداياتها، لكن بعد هزيمة أسطول الأرمادا الإسباني عام 1577 ، ولرغبة الجمهور بتمجيد البطولات والتعلم من عِبَر التاريخ. كتب شكسبير في هذه المرحلة مسرحيات عدة تصور الحقبة ما بين أعوام 1200 – 1550 من تاريخ إنكلترا، وتحديداً الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عائلتي لانكستر ويورك، مثل ثلاثيته «الملك هنري السادس” ما بين عامي 1590 ـ 1592 ، «والملك رتشارد الثالث» عام 1593 ، التي صور فيها النتائج السلبية لحكم ملك ضعيف، وتغطي هذه المسرحيات الأربع المرحلة الممتدة منذ حكم هنري السادس وحتى هنري السابع وبدء حكم سلالة تيودور، التي تنتمي الملكة إليزابيث إليها، وتسمى بحقبة حرب الوردتين، ويشبه أسلوب شكسبير فيها أسلوب مسرح العصور الوسطى، ومسرح الكاتب الروماني سينيكا ومسرح توماس كيد العنيف، ويظهر هذا في دموية بعض المشاهد في المسرحيات الأربع، ومن خلال اللغة الخطابية الطنانة، بل وظهرت هذه الخاصية في مأساة «تايتُس اندرونيكوس» عام 1594 ، حيث صور شكسبير الانتقام والقتل بتفاصيل دموية مرئية على الخشبة فجاءت أقل نصوصه صقلاً ونضجاً.
كتب شكسبير في هذه المرحلة أيضاَ عدداً من النصوص مثل «كوميديا الأخطاء» عام 1592، وهي مسرحية هزلية تتبع أسلوب الملهاة الرومانية التقليدية من حيث الالتباس في هوية الشخصيات والتشابه بينها، والهرج والمرج الذي ينتج عن ذلك، و«ترويض الشرسة»عام 1593 ، التي ركز فيها على الشخصيات وتصرفاتها وانفعالاتها وسلوكها كخط أساسي للمواقف المضحكة والمحملة بالمعاني في الوقت نفسه، ومسرحية «سيدان من فيرونا»عام 1594 ، التي تحكي عـن الحب الرومنسي، و«خـاب سـعي العشاق عام 1594 ، التي قدم فيها صورة سلبية عن الحب وما يرافقه من تغيرات وتحولات في شخصيات وسلوك العشاق وما يصدر عنهم من تصرفات صبيانية.
ـ لذا فإن استدعاء “كريستوفر مارلو” الذي توفي في 30 مايو 1593 ،وقبل أن يشرع شكسبير في مرحلة الكتابة الثانية لنصوصه لا ارى أن الكاتب العراقي قصد منها سوي التأكيد علي ما رسخ في ذهن المتلقي من أن شكسبير تعلم من “مارلو” طريقة معالجة سلوك الشخصيات، بل أن “مارلو” الذي كان يختلف عن شكسبير في معرفته للشارع الإنجليزي، واعتقاده أن القوة رمز الوجود يختلف في كتاباته عن وليم شكسبير ، فكتابات “مارلو”سببت ردات وزلزالات عنيفة بين أوساط المثقفين، فهو صاحب القلم الناري، وممجد لعاطفة عصر النهضة تحت شعار العلم اللامحدود، بل أن مسرحيته “يهودي مالطة” مأخوذة عن تجربته الذاتية كجاسوس للملكة اليزابيث ينقل الأخبار عن الكاثوليكيين، فضلا عن سوء سمعته بسبب اتهامه بالإلحاد في عام 1592 ،فهل لو نصبنا أنفسنا قضاة في محاكمة منير راضي لشكسبير، أو أن آراؤنا جميعاً تتساوي في هذا الفضاء العمومي النقاشي، والحجاجي الذي خلقه المؤلف العراقي، فهل نقبل بشهادة” كريستوفر مارلو”،وهل يتوافر في شخصه شروط شاهد العدل؟ الذي يستطيع أن يسوق المؤلف العراقي علي لسانه في نصه الآتي:-[أراد كاتبها هنا …..أن يلخص بعض أبرز سمات ذلك المسار باختياره نتفاً من هنا، وأخرى من هناك جمعها وولف بينها ……كل هذا لم يكن بشكل واضح ومقنع ،هناك نفق يضج فيه عويل طويل ،،،] .
ـ أما الشاهد الثاني “بن جونسون” والذي يقال عنه أن أغلب أعماله كانت في الأصل هي اعمال “الكونت إدوارد” والذي استخدمه “بن جونسون، وشكسبير” لينشر أعماله تحت اسميهما، لكن الفارق بين جونسون، وشكسبير كبير إذ عمد الأول في كتاباته علي استخدام أبرز لهجات الطبقات الدنيا، وأساليبها في رواياته بعكس الثاني الذي كانت أغلب نصوصه تعكس واقع نُبلاءُ البلاط الملكي.
ـ لكن “بن جونسون “عاصر شكسبير في كل مراحل كتاباته، وشاركه في الزيف الذي قصده “منير راضي” بأن تبني ما يقال عنهما بشأن واقعة الكونت “إدوارد”، لكن هل يجدر بالمؤلف العراقي أن يسوق علي لسان “جونسون” واصفاً شكسبير […أنه ذاكرة معطلة نبش فيها شاعر ملعون فصيرنا الي جينات عاقة ]،وهل نبش شكسبير في الحب الذي أصبح ذاكرة معطلة في الراهن اليومي للقارئ، فتولد عنه عقوق الأبوين ،هو نبش لشاعر ملعون أم أن نبشه ظل خالداً؟ أم أن” منير راضي “أراد أن يحاكمه علي صحة نبشه الذي اصبحنا نعاني منه ما بعد حداثوياً؟
أنني أري أن المؤلف أراد أن يرد علي شكسبير، فساق لنا شهود مارقة، وسارقة، فجنسون تم سجنه من قبل لعدم وفائه بدين كان عليه، بل أنه لم يستطع الصبر علي الفقر، والمرض، بل وهجا الوان عديدة من الدجل والخداع كانت قد غزت لندن، ويبدو أن استدعاؤه في هذا النص كان من أجل الهجاء لوليم شكسبير، فلن يتاح لمنير راضي فرصة هجاء شكسبير سوي علي لسان اعتاد استخدام أبرز لهجات الطبقات الدنيا، وأساليبها في كتاباته.
ـ أما “توماس ميدلتون” والذي استدعاه المؤلف العراقي كضحية تمت سرقتها من قبل شكسبير حيث أن مسرحية “العبرة بالخواتيم ” يقال انها لم تكن وليدة ابداع شكسبير وحده، وإنما شاركه فيها “توماس “،وذلك وفقاً للتحليل الأدبي المعمقة لمفردات النص المسرحي، والنظم البلاغي، حيث تتضح البصمة الأسلوبية المميزة “لميدلتون”،لكني أري أن هذه الشراكة بينهما تعزي الي النهج التعاوني الذي تميز به كتاب ذلك العصر في إخراج العمل الأدبي .
ـ لقد قرأت نصاً مسرحياً استطاع مؤلفه أن يمزج بين المألوف ،وغير المألوف، وينطلق من فرضية جديدة تستقرأ الواقع، والراهن العالمي، وتطلق صرخة تشككية في وجه المؤسسات المالكة للخطاب والقوة والمعرفة، هذا فضلا عن أنه نص استطاع خلق فضاء عمومي نقاشي، وحجاجي، خاطب مؤلفه القارئ بلغة بليغة، ورشيقة تحمل دلالات عديدة، وقراءات مختلفة للصراع المعرفي، والسياسي، والاجتماعي الراهن بين الشرق، والغرب، من خلال هدم القديم التراثي بوضعه في مناخ الأسئلة، والبناء علي الحديث المعرفي الذي يسعي لتصويب الخطأ القديم ،لكن يظل السؤال العالق بذهني كقارئ هل “زيوس ” رئيس آلهة الأولمب وجد في الواقع سلفاً أم هو قدرات تخيلية لمؤلف ؟ أننا بحاجة إلي تصويب هذا الخطأ المعرفي لكن كيف ؟بالقدريات التخيلية أم بالبحث العلمي الدقيق ؟ هذا السؤال مطروح على القارئ كي يعلم أن مطرقة التجريب لا تصنع علي سندان المارقين إبداع .