واقعية العرض المسرحي السحرية/ د . كريم عبود
فاضل خليل – أنموذجا –
الواقعية بمعناها الاصطلاحي الجمالي هي ” الارتكاز أجمالا الى معطيات الواقع الموضوعي من حيث اجتماعية الإنسان والاستناد أليها لتكون المنهج الفكري الذي ينطلق منه الفنان في نظريته الفنية الى العالم وهي نظرية رؤيوية تتجه اتجاهات أسلوبية جمالية في إحدى المدارس الفنية المعروفة “(1) وتأخذ النظرة الفنية الموضوعية من الواقع مستويات جدلية وشمولية متعددة تصور فيها رؤيا الفنان للعالم والواقع بصورة سكونية تنتمي الى المحاكاة التقليدية وأخرى ديناميكية تنقل تفاعل الفنان مع الواقع وانعكاس هذا الواقع على الإنجاز الفني بلغة تتناقض في التأويل و التفسير.. والأسلوب مع الواقع لتعكسه نقديا في رؤية معينة واشتراكيا في رؤيا أخرى وسحريا في رؤيا ثالثة وعليه فأن ” قضية الواقعية قضية معرفية وذلك عندما يدور الحديث حول إمكانية الفن بوصفه شكلا من أشكال الوعي البشري في عكس الواقع الموضوعي والجدير بالذكر إن الواقع الحقيقي استطاع دائما أن يجد انعكاسه في أي عمل من أعمال الفن وحتى في أكثر الصور الفنية واللوحات أتصادقا بالخيال “(2)
أن البحث مستمر عن جديد الإبداع الفني في المسرح العراقي الذي تخلى عن التعامل مع الواقعية بمفهومها التقليدي ونموذجه في المسرح الغربي . بل برز في التجربة المسرحية العراقية تياران أساسيان للرؤيا الجمالية للعرض المسرحي الواقعي . التيار الأول تمسك بمفهوم الواقعية الطبيعي فأخذ يقلد ويحاكي وينقل الواقع ويؤسس عليه أطروحاته الفنية في العرض المسرحي . آما التيار الثاني فقد أخذ يبحث له عن صيغ واقعية خاصة اتجه أليها بعض المخرجين العراقيين المجربين الذي امتزجت ثقافاتهم بأصول اجتماعية وإنسانيه أصيلة عكست في تركيبها الجدلي حقيقة الواقعية الجديدة ، ومن ضمن هذه المحاولات التجريبية في الواقعية تندرج تجربة المخرج ( د . فاضل خليل ) بمقدمة المحاولات في التجريب والاكتشاف لإنتاج عرض مسرحي يخرج بإبداعه عن التقليد لينجز الفعل المبتكر .
لقد أسس المخرج رؤياه الفنية الواقعية من منطلق أيمانه بالواقع الذي يشكل عنصر وجوده الاجتماعي والأيدلوجي ، فاخذ من الحرب موضوع لعرضه المسرحي ولكنه لم يعتمد في تشكيل رؤيته الإبداعية على الفهم الغربي للواقعية كمذهب في الأدب والفن ، بل جاءت واقعية لتستبدل المعالجات النابعة من البحث عن وسائل تعبير فنية واعية تستطيع إن تكشف عن الواقع بلغة الأسطورة والحلم وبأسلوب فني يساعدنا على تلقي الواقع بطرق مبنية على السحرية بعيده عن المحاكاة النقلية .. وعليه فأن تجربة الواقعية السحرية للمخرج ((فاضل خليل )) تتضمن منطلقات وفرضية مفادها.
فرضية التجربة :
هل يستطيع العرض المسرحي إن يكشف عن الحقيقة الداخلية للواقع من خلال التناول الإبداعي للمادة الفنية وعن طرق ذات الفنان المتفاعلة مع معطيات الواقع بحيث تقوم عملية الكشف على إنجاز عرض مسرحي يرتقي بخطابه الفني متجاوزا المحاكاة السطحية معبرا عن روح العرض السحرية .
تحليل الفرضية:
الواقع المعاش بكل تفاصيله اليومية صار جزء لا يتجزأ من محور التجربة .. أنه واقع الحرب التي عاشها الفنان , صارت الطلقات والاستشهاد الموت وصور المعركة والقصف المدفعي علامات ودلالات للتجربة في ذهنه يجب أن تستحيل ذات يوم الى عرض مسرحي فني الواقع مادتها ، هكذا كان التأسيس النظري للتجربة السحرية عند المخرج ( فاضل خليل ) و من هذا المنطلق تم اختيار صيغة التعاون مع المؤلف ( فلاح شاكر ) من خلال عرضين مسرحيين هما ( مائة عام من المحبة ) و ( في أعالي الحب) أستنبط الكاتب أفكار النص من الواقع وصاغها بلغة استندت الى توظيف التراث الأسطوري والاشتغال على مفرداته وبعثها بلغة فنية واقعية جديدة تحكي قصة الحب أياما ومواقف وشخوصا , فالنص جاء ليتحرك على ثلاث مستويات:
1- أسطوري
2- إسقاطي
3- حلمي
وهذه المستويات تتطلب بني جمالية فلسفية تتفاعل فيها ذات الكاتب المسرحي تفاعلا واعيا عميقا لتكشف عن صميم علاقات واقع الحب لتصل الى معالجات موضوعية مساحتها الشعر و الشاعرية والسحر ومستوياتها, أسطورة, إسقاط, حلم. لتنتج معالجات إبداعية تصور الواقع المعاش .
مساحة التجريب الخاصة بتحويل بنيه النص الأدبية الى بنية العرض الفنية كانت محاورات تأسيس الفرضية لتبنى في محطات التجربة المتفاعلة بين شخوص مبدعي العرض الذي تقودهم رؤيا المخرج السحرية للكشف عن حقيقة العالم المصور في النص واقعيا . لقد استحالت ذات المخرج في هذه التجربة بتفاعلها مع الواقع الموضوعي الى ذات إبداعية تشكلت عن طريق ” عملية اتصال وجداني واع بين الفنان وبين الواقع الموضوعي بحيث تحول الواقع في أثنائها من مناخه الزمني والمكاني خارج الذات الى مناخ الموقف الإنساني داخل الذات ومنه يتخذ الواقع صورته الفنية الجديدة “(3) .
البذرة التأسيسية في هذه الصورة الفنية الجديدة النص , الذي أستنطق الواقع أدبيا من خلال العودة الى أسطورة شعبية أسقطها على الواقع فوظفت حكايات ألف ليلة وليلة , وقصص الجان . ودعم الفن الحاضر بواقعيته ويوميته بفعل مثالي يمثل واقع سحره لتتوسع التجربة وتأخذ مجالاتها في المعالجات الأسقاطية وبطريقة تعبيرية ووسائل فنية حلميه شاعرية ارتفعت بها لغة النص الأدبية للمؤلف .
إن انطلاق الرؤية الإخراجية لتأسيس فعل التحول الجمالي من النص الى العرض هو فعل يجعل المادة في حالة الفعل ليجسد عرضا مسرحيا يعد إنتاجا جديدا تخضع فيه التجربة الإخراجية بمحاورها في التحول الى قيم المعالجات السحرية والحليمة لتكون هي العناصر التي تبني الرؤية الواقعية السحرية في العرض ، من هنا تم تجاوز التقنية التقليدية في التجسيد ليبني المخرج تقنية فنية في الأداء وتوظيف الفضاء تستند الى تحقيق أعلى درجات التعبير عن الواقع , وهي تبحث عن استنطاق خفايا الواقع لتنتج عالما عميقا يحمل في ثناياه حقيقة الشخصية الباطنية وهي تتحرك في حدود عالمها . انه عالم الحرب ، وهذا الاستحضار للواقع عن طريق الأسطورة جاء بواقعية العرض السحرية في تجربة المخرج (فاضل خليل) ليرسم مساحات تجريب على المستويات الآتية :
1.الفضاء المسرحي:
تجربة الفضاء في الواقعية السحرية تجربة متحررة تتجاوز الفضاء النصي المقترح من قبل الكاتب وتتحاور رؤية المخرج بجدل خيالي مع فضاء العرض السحري.فتحمل علامات هذا الحيز التشكيلي المكاني رموز أسطورية .علامات قادرة على استفزاز اللاوعي ألجمعي باشتغالها الدلالي في فضاء العرض .علامات مصدرها الواقع ومساحات تجسيدها عوالم السحر والفنتازية .القمقم مرتكز ها ومحورها في التشكيل عالم خرافي ينهض منه البطل وهو عائد ليجسد حالات الزمن المتداخلة بين الماضي والمستقبل .الكرسي يتحرك في هذا الفضاء الحر كمفردة تحمل دلالات توليدية تحويلية عديدة فهو أريكة للنوم وساتر حربي وأثاث منزل هذا التحول والتوليد أعطى للمفردة الفضائية إمكانية مكثفة في البث والدلالة ونقلها من واقعها ألاستعمالي التقليدي اليومي الى واقع الاشتغال الإبداعي لتشكل في الفضاء علامة فاعلة مثيرة وسحرية .هكذا يعمل المخرج في تجربته على بقية عناصر الفضاء من ضوء وملابس ولون وإكسسوارات بهدف تعميق التجربة الواقعية وتأصيل سحرها في التجسيد.
2.التمثيل:
عرض الممثل منظومات حركية وصفية متنوعة انتقل فيها الثنائي المتوازن (إقبال نعيم ، هيثم عبد الرزاق) في أدائهم ليعرضوا مستويات عديدة الازمان الأدائية للشخصية .
ا. زمن الشخصية ألان .
ب. زمن الشخصية في الوهم المفترض .
ج. زمن الشخصية في الماضي .
د. زمن الشخصية في الواقع الأسطوري
ان هذه الأزمان المتداخلة والتي تشغلها مساحة العرض تبدو من الواجه التحليلية أزمانا متقاطعة ولكن الأداء التجريبي الذي مارسته رؤيا المخرج في توظيف قدرات الممثلين الحسية والمادية جعلت منها زمنا واحدا هو زمن الأداء التمثيلي السحري . الأداء في العرض تميز بإيقاع متنوع انطلاقا من تنوع الازمان المؤشرة وانساق التعبير الفني عنها . فما لبث الممثل يعرض شخصية مسرحية تقليدية بل جاء العرض بمستويات متعددة انتقالية يكسر فيها الممثل منظومات التعبير الحركية والصوتية في أدائه ليبحث عن الزمن والشخصية بهدف كشف سر المواقف السحرية .انه أداء مؤسس على تجربة حرة في التعبير عن الواقع .صارت جميع علامته الأدائية مواطن للاستقرار الذهني.لاتقف عند حد البنى التقليدية المتصاعدة في بناء الفعل والإحساس به بل إن البنية الدائرية للفعل وتوليداتها الدلالية والانتقالات الزمنية أعطت للتمثيل صورة البحث التجريبي عن أداء فني مسرحي يتلاءم مع منطلقات بناء صورة الفضاء
المسرحي المرتكزة على تغير وتجاوز التقليد والبحث في التجربة والتجريب عن عوالم السحر الجديدة .
3-التلقي:
استنبطت مفاهيم الواقعية السحرية مساحة التجريب مع المتلقي من الأطروحات الجمالية لنظرية التلقي التي فتحت الأبواب أمام الذات المتلقية للدخول الى تفسيرا لمعنى بهدف استكمال حقيقة وجود المنجز الإبداعي فالتلقي يعني ” إدماج وعينا في مجرى النص ” (4) والنص هنا هو نص العرض المسرحي الذي يسعى بكل عناصره الإرسالية مجتمعه أن يثير ويحلل مديات التلقي التقليدية لدى مشاهدي العرض ليبني تجربته في التعامل مع الفضاء والممثل حدودا جديدة للتلقي قائمة على صياغة مجموعة من الافتراضات , توجه المشاهد لخلق نوع خاص بالتلقي يتلاءم وأسلوب التجربة الإخراجية في التأويل والتفسير للواقع الحياتي .
تلتقي أطروحات ( هانس روبرت ياوس) الخاصة بالمفهوم الإجرائي الذي أطلق عليه ( أفق التوقيع ) مع تجربة التلقي في عروض الواقعية السحرية إذ يمثل هذا الأفق ” الفضاء الذي تتم من خلاله عملية بناء المعنى ورسم الخطوات المركزية للتحليل ودور القارئ في إنتاج المعنى عن طريق التأويل “(5)
يمر مشاهد العرض المسرحي باعتباره متلقي للدالة البصرية والسمعية بثلاث مراحل رئيسيه هي:
1- التجربة السابقة المكتسبة لدى المتلقي ( الحياتية )
2- معرفة الأفكار في المنجزات الإبداعية السابقة
3- خلق التعارض بين عالمين، عالم التجربة الحياتية وعالم والتجربة التخيلية
واستنادا الى هذه المراحل يبرز ( أفق التوقع ) بهدف بناء أفق جديد يمثل مسافة جمالية بين المفترض في عالم التجربة اليومية والمكتسب من فعل تغير الأفق .وهذه المعايرة الجديدة في التجربة يصل أليها قارئ العرض عندما يقارن بين الواقع اليومي الذي استنبطت منه تجربة العرض الفني والواقع التخيلي الذي وصفناه بالسحري , وهو واقع المعالجات الإخراجية التجريبية الذي قام بها المخرج ضمن تصورات عالم التخيل الإبداعي , وبهذا فالواقعية السحرية في العرض لم تبق في حدود إنجاز تقنيات المرسل بل حققت متغيرا جماليا في ذهن ووعي المتلقي تمثل بالقراءات الجديدة للعرض القائمة على أفق جديد للتلقي يزيح هذا الأفق بتوقعاته المكتسبات التقليدية في المشاهدة وتأثيراتها ليبني تجربة جديدة تستند في أطروحاتها الى القراءات السحرية للواقع الإبداعي المتخيل .
إشارات:
1- الواقعية السحرية في العرض المسرحي العراقي محاولة تجربيه في قراءة الواقع الموضوعي قراءه إبداعية , ناتجة عن تفاعل ذات المخرج مع الواقع اليومي وخلق واقع فني إبداعي جديد يتميز بالسحرية , يفجر المادة النصية الأسطورية ليبدع منها حلما تشكيليا يعبر عن حقيقة الواقع الدفينة بكل مرجعياتها وبلغة فنية مبدعة منطلق من فرضية المعالجة في التجربة لتنتج هذا الصرح الإبداعي من خلال عرض واقعية سحرية في الرؤيا والمعالجة .
2- الفضاء و الممثل , المتلقي .. هي عناصر التجريب الأساسية في العرض . لم تعد هذه العناصر تشتغل بقوانين التقليد والمألوف بل أخذت لها حيزا جديدا في التجربة للتحول الى علامات سحرية تغير من نمط العلاقات الأدبية والمكانية لتبني صيغ تلق منتمية بجمالياتها إلى واقع القراءة السحرية . وفي هذه الإشارات تكمل حقيقة الجديد في هذه التجربة على المستوى إرسال العرض وتلقيه
المصادر
1- ميشال عاصي . الفن والأدب (بيروت : مؤسسة نوفل 1980) ص211 .
2- د.جميل نصيف التكريتي . المذاهب الأدبية ( بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة ، 1990) ص 219 .
3- حسين مروة . دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي (بيروت: مكتبة المعارف ،ب ت) ص 105
4- وليم راي . المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية .ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز (بغداد :دار المأمون 1987) ص .
5- د.بشرى موسى صالح . المصدر السابق ،ص 20 .
** د . كريم عبود (العراق – البصرة)