اللاتوقع الحركي في العرض المسرحي المفاهيمي ” تحول ” / د. ماهر عبد الجبار الكتيباني
ينتمي العرض المسرحي المفاهيمي” تحول” للمخرجة البلجيكية “سارة ديبي” الى ما يعرف بفنون الاداء وقد عمل منفذوه على تسخير الجسد الانثوي واستثمار الصور والاشكال التي تتحقق من غير قصدية، ولا يمكن ادراكها الا بتحفيز الفكر الحر فضلا عن تفعيل تطبيق التخيل الذهني. وهو بحسب رأيي من اهم العروض المبتكرة التي شهدها مهرجان بغداد المسرحي الدولي الثالث 2022. تصلح هذه المدونة التشكيلية المغايرة ان تقدم في فضاءات مختلفة بل بإمكانها أن تحقق مبدأ المسرح البيئي، كما ويمكن ان تعرض على مسرح العلبة بالشكل الذي قدمت على مسرح الرشيد. ويتطلب اكتمال نص العرض وعيا متلقيا نبها صافيا نزيها، فهو ينطوي على مجموعة من التحولات التي تتسق جدلا مع مفهوم اللاتوقع الحركي الذي يفعل خاصية التفكير ويساعد على تحريك الخيال ومفارقة الوعي التقليدي التلفيقي.
نسير مع مكون العرض “تحول” بدءا من المكان الخالي الا من لوحة مربعة بيضاء تم تثبيتها على الخشبة، مع ممثلتين تقومان بفعالية تعبيرية في نسبة كبيرة منها تعتمد على الارتجال الحركي. والارتجال يمكن ادراجه في سياق العروض التلقائية “الديلارتية” مع الاخذ بنظر الاعتبار الاختلاف في الاسلوب والمضمون لكن بشكل اخر يتصدر الارتجال الحركي عملية التشكيل الصوري. وعلى الرغم من التناسق النسبي في الحركة لكن يلاحظ حرية المكونات البشرية في السلوك الادائي من خلال جسيدين انثويين فاعلبن وجسد ذكوري ثالث يتحرك على حدود اللوحة يجلب دلاء الالوان ويؤطر جغرافية الفعل بها.
يمكن القول ان العرض اتاح صورة من صور التأليف المشترك وهي واحدة من معطيات “الدادائية” فضلا عن اللعب المضاعف الذي تقوم به الممثلتان وهن يرقصن بشكل حي في عالم “غروتسكي” من اللعب الطفولي التلقائي. التلقائية في جوهرها تمحو الاستبداد على مستوى سيطرة او سطوة المخرج كما ترى ذلك “فيولا سيبولين” في كتابها “الارتجال المسرحي” فالعفوية والتلقائية واللعب بالألوان التي تتبدى في فضاء اللوحة/ الخشبة.
ظهر الجسد الانثوي منضبطا ايقاعيا، يتحرر من قيود القصدية التماثلية تدريجيا عبر الانغماس بالألوان التي تدلق وتفرشها الحركية المتتابعة، مثل هذه الفعالية لا يمكن ابدا ان تخضع لمنظور درامي تقليدي، هي ترسم حكايتها عبر الجسد المبتل باللون الذي لا ينطوي على قواعد بل هو مغايرة عفوية لكل منهج يتيح للمتلقي ان يكون جزءا فاعلا فما تراه هو وهم التصور بل وهم ما تشاهده اذ لا حدود فاصلة ما بين فكرة واخرى او جسد واخر، وتلك فكرة مفاهيمية تؤكد الدهشة التي يفرزها اللاتوقع الحركي عبر الرسم العشوائي بالجسد ونثر الالوان من الوعاء وتشكلاته في الفراغ بحد ذاته شاحن للمخيلة بأكثر من صورة فوتوغرافية بالغة الدقة والبراعة لربما تعجز ارفع فرش كبار التشكيلين ان تنتج ما ينافسها. تحاكي تلقائية الاداء التداعي الحر الفرويدي والآلية في التجسيد التي نادى بها السرياليون عبر مبادئهم في عدم اخضاع الوعي للقيود التي تحد نشاطه. فعملية فرز وتحديد ما يمكن ان ينتجه الفنان ضرب من الخيال في عرض “تحول”
المحتوى المنظور الذي قاله تحول سمعيا وحركيا وتشكيليا وفكريا يدين القضايا الحساسة التي تعان منها المجتمعات في وضع ينذر بالخطر الجسيم الازمات السياسية، والاقتصادية والأوبئة والصراعات الراديكالية، الحروب، المجاعات، التغيرات المناخية، الاضطهاد، والقسوة والعنف، الحرية المفقودة هي الرسائل التي اطلقها خطاب العرض لاسيما أن “تحول” تعني في جوهرها المضيء التحول من المنطق المختل الى اللامنطق المنتظم، المنطق الذي يمنهج افتعال الازمات واللامنطق الذي يدين ويسخر بمرارة من كل انتهاك تتعرض له البشرية، اللعب بالجسد ودلق الالوان والرسم المشترك في عرف فنون الاداء يتطلب تدخلا ومشاركة من قبل الحضور المتفاعل وهذا ما حاولت الممثلتان ان تدفع المتلقي للانغماس في اللعب المباشر داخل بؤرة العرض، عبر تركهما لوحة العرض دخولهما الى مقاعد المتلقين وايهامهم بانهما سيدلقان الدلاء عليهم، وهذا السلوك الاستفزازي من الاهداف الاساسية لمثل هذه العروض التفاعلية التي تستهدف توريط المتلقي، فالمعنى لا يكتمل الا بالاقتراحات التي يبديها الحضور، ومن حيث ان لغة العرض هي اللعب الطفولي على مساحة اللون المدلوق فان طبيعة المتلقي العراقي وربما العربي لا تمنحه الجرأة الكافية للتدخل المباشر والرسم مع الممثلتين وتعزيز مفهوم اللاتوقع في تأصيل الكتابة من خلال الجسد المحايد.
يتواصل اللعب على الخشبة مع التنوع والتحول في المؤثر الصوتي والموسيقي والمكون الضوئي الذي جاء معززا لإيقاع الحركة الراقصة في بعض الاحيان، والمتأمل للمؤثر الموسيقي يجد نموا في مدارجه الصوتية التي توحي بملاحقة وهروب ومواجهة وتخفي وغارات وغموض وتوتر وثورات ودوي انفجارات وابنية متهالكة وغابات محترقة وتسول وتيه كلها جاءت ضمن نسق موسيقي متواتر وليس انعكاسي تقليدي.
يبتعد المضمون الفكري والحسي للعرض المسرحي “تحول” كثيرا عن فكرة المطالبة بحقوق المرأة في مقابل السطوة الذكورية فالمجتمعات الاوربية غادرت هذا الامر منذ عقود. ان مسرحية تحول تقرع جرس انذار للخطر الكوني الذي ينتظر كوكب الارض سواء بالمتغير المناخي او الصراعات الدموية بين الشعوب وفرضية نفاد قدرة الارض وموتها التدريجي. طرح خطاب هذا العرض بأسلوبه المغاير فكرة العودة الاحتفالية لأصول المسرح الذي يعتمد على حرية التصرف وعفوية انتاج الصورة ومن ثم انطوى على روح المفاجئة لان التلقائية تعني اللاتوقع ومن هنا فان مدة تأمل المتلقي حتى يرى ما تسفر عنه تلك الحيوية الحركية وذلك التشوه اللوني الذي غلف جسدي الممثلتين يتحقق ادراكه بالحدس ما يعني رفض التصنيف والتحديد المباشر بل تغذي الخيال بمادة منشطة يرسلها العرض غير التقليدي في رحلة تغريب للمكونات الجسدية والمادية التي تشكل مصدر الهام للمتلقي وفي ختام العرض يتم تحرير لوحة العرض من على الخشبة ورفعها كما يرفع العلم لتحتل مساحة السايك الخلفي كشاشة عرض دونتها الاجساد بعفوية طفولية. وقد اضحت لوحة فيها من المنحدرات والاخاديد والخطوط وتداخل مع هيكلها الممثلون الثلاثة الذين تمركزوا اسفلها وسط المسرح ما منح اللوحة ابعادا تكوينية ودلالية مضاعفة . وعلى وفق ما تناولته في قراءتي لهذا العرض، اجد انه من العروض المهمة التي تشتغل على ان يكون المتلقي مندهشا مراقبا متأملا ومشاركا في كتابة النص الخاص بالعرض .
*د. ماهر عبد الجبار الكتيباني/ العراق