“المشترك لا يرد” عمق الفكرة وبساطة التجسيد/ د. ماهر عبد الجبار الكتيباني
ضمن فعاليات مهرجان المسرح العراقي الوطني دورة “سامي عبد الحميد” عرضت مسرحية “المشترك لا يرد” قدمتها “فرقة لكش” المسرحية من قضاء الشطرة في محافظة ذي قار عن مسرحية “رجل برجل” تأليف “برتولد بريخت” اعداد وتعريق “علي هاشم الشطري” اخراج “طالب خيون الزيدي” تمثيل “حسن فلاح ورشاد محمد واحمد كمال وعلي رضا واحمد تركي وعباس علي” . بدءاً من الضروري الإشارة الى الشكل الفضفاض الذي ظهرت فيه خشبة المسرح فقد اكتظت بالمفردات لاسيما النشرة الضوئية الملونة على مقدمة الخشبة التي أستمرت تعكس الضوء المتناوب حتى نهاية العرض مع ملأ المكان بمجموعة بالونات ملونة. كل ذلك فقط للإيحاء بمزاج واجواء احتفال. يحتوي الشكل العام كذلك على عدد من الكراسي صفت على جانبي المسرح، وسلة مهملات كبيرة بعجلات وبندقية وعربة. والمفارقة أن تلك القطع لم توظف من اجل خلق صورة مبهرة يتفاعل معها الممثل وتثير التأمل، كما أنها لم تسهم في انتاج علامة ذات مغزى دلالي يحقق مسافة جمالية في مضمونها تستفز المتلقي، بل حافظت على شكلها الايقوني الحياتي. يدعو ذلك للتنويه على قضية اساسية في الواقع المسرحي المعاصر بمدياته الفلسفية والجمالية وقيمه الدلالية فقد غادر منذ زمن التفاصيل الكثيرة ، وراح المسرح الحديث يرنو الى التكثيف والاختزال والاختلاف من خلال تشظي المكون الى فواعل دلالية يتم تخصيبها عمليا عبر الاستخدام المتجدد وتستجيب لتعامل الممثل معها كي يفتح معمارها على تأويل متنوع. كما ان المفردات المنظرية الكثيرة لم تسهم في مضاعفة الايقاع وادهاش المتلقي، إذ من البداهة ان الايقاع ينمو بالتنوع، وأن الاختلاف يخلق الجمال، كما ان كثرة الاشياء تشتت الانتباه فالاختزال اكثر كفاءة وقدرة على اتساع رقعة المعنى تيمنا بالمخرج الروسي “مايرهولد” الذي ينظر الى الاختزال بوعي الاسلبة التي تعني “التعبير من خلال القليل عن الكثير من الافكار” فاللجوء الى الوفرة الدلالية يكون عادة بتوظيف كتلة متعددة الأغراض لها اكثر من مهمة تمتلك خاصية استفزاز وتحفيز وعي المتلقي للمشاركة في تصنيع المعنى، ولا ضير من الغموض المحسوب بدقة والمقنن مهاريا، لتحقيق مستوى من التفاعل مع المتلقي على عكس عرض مسرحية “المشترك لا يرد” الذي انطوى على كشف مباشر وتقليدي افتقر الى الدهشة والابهار وابتعد عن الجو المسرحي المغاير.
يحيل عنوان مسرحية “المشترك لا يرد” على فقدان التواصل من قبل احد الاطراف وذلك يعني وقوع حالة تدفع للريبة او حادث ادى الى ان احدهم فقد خاصية التواصل، وهنا تلميح واضح على جوهر ما يرمي له الزيدي، الذي لجأ الى تعريق شخصية “كالي كاي” من النص البريختي الى الشخصية العراقية “باقي” وكلاهما يعانيان من فعل التحول الدوغمائي الذي يهيمن على الكائن البشري ليجعله هجينا طيعا يفتقر لأبسط معايير الحس الإنساني، مؤمنا بما يتم تغذيته به حتى يتماشى مع تطلعات الارادات التي تريده خشنا صلبا اداة والة جاهزة للتدمير، علاوة على ذلك فأن للمضمون مساحة ذات تأثير كلي في الشكل الذي يمكن للباحث ان يكتشفه بسهولة، وهو يعبر بسطحية عن الاضطراب الوجودي للشخصية التي خضعت من غير مقاومة للتغيير الحتمي، وتجلياته في النص البريختي ” رجل برجل ” عبر انصياع “كالي كاي” للدورية العسكرية التي اختطفته كي تعوض به عن احد افرادها المختفين ويتجنبوا عنجهية الرقيب وبالتالي تماهي كالي كاي مع الملابس العسكرية ويصبح الاقوى. يحيل ذلك على طبيعة مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى الذي أريد له التفكيك ومن ثم تشكيل وتهجين الانسان حتى يتماشى مع واقع اقتصادي وعسكري صارم، خاو مجرد بلا سمات بشرية، وبالجهة المقابلة “باقي” العراقي الذي يتم تغيبه كحال الكثيرين، واعادة انتاجه من “حمال” يعمل على عربة دفع، الى شكل اخر، بعد اجراء عملية تحويل له، واغوائه بالنقود التي تنثر بشكل عشوائي في فضاء المسرح، وكلاهما أي “كالي كاي” و”باقي” يصبحان وسيلة خاضعة لإرادة اخرى لكنهما بالنتيجة يتمردان، وكأن الواقع ذاته يتجدد منذ عقود. وارى من واقع ما نعيشه في ظرفنا الراهن والملتبس ان المخرج وعبر المحتوى الفكري للعرض اراد ان يؤشر حقيقة حال افراد من الطبقة السياسية الحاكمة الذين وبحسب ما اشار له في العرض قد تم اعادة برمجتهم بالشكل الذي صنع منهم ماكنات جاهزة للتدمير والاستحواذ والفساد عبر فعالية خارجية منهجية مقصودة، وضحت بشكل لا لبس فيه من خلال شخصية “المتسلط” ببدلته السوداء، ورقبته المسورة بشال احمر في احالة على الجريمة ودماء الابرياء من امثال باقي وغيره، هذا الذي تطرقت له هو صلب ما اراد المخرج ان يدلل عليه ، لكن الفرضية الفكرية لم تجد لها مسوغات جمالية تلفت انتباه المتلقي، على الرغم من بعض الالتماعات التي لم يعمل المخرج على تعميقها او تصدرها بوصفها نافذة سيميائية للتدليل عن المعنى المضمر. سيما اللافتات التي وضعت بشكل متناسق في مناطق المسرح كمحاكاة للتقنية البريختية التي عُززت بالحوار القصدي بين الممثل والمتلقي في الصالة، وعضدها بالوصلة الغنائية التي كانت الفاصلة المتكررة ما بين مشهد واخر. لقد اعتمد المخرج على التراث الغنائي العراقي بما فيه من أثر في الوعي الجمعي حتى يوحي بمزاح احتفال (الليلة حلوة، حلوة وجميلة) تلك اللافتات التي احتلت احداها اعلى وسط المسرح جُعلَ السايك الخلفي موضعا لها، بعد ان فتح طرفي الستارة بشكل منسدل من الاعلى الى الاسفل، من خلال ثلاث دوائر كتب عليها “الباب مفتوح” “ممنوع الدخول” تلك الجملتين تعني بشكل من الاشكال الصراع والتضاد والتناقض الذي يعيشه الانسان في واقع طبقي مضطرب. كذلك وضوح فكرة الطبقية التي مازال المجتمع يعاني منها وتمثلاتها في “العربة” التي سأتحدث عن دلالتها المركزية لاحقا، ذلك التضاد بين مفردة الباب المفتوح، ومفردة الدخول ممنوع يتخارج عنهما ما يكشف زيف الادعاء بالحريات التي تبيحها الديمقراطية الموعودة والمدونة ديباجاتها في الدستور، ولكنها في الوقت نفسه غير متاحة للجميع، الا من كان من اتباع السلطة المستترة بالبدلة السوداء، ومن يحيط بها يرتدي ملابس لها معنى مباشر تدلل على الخدم، في ضوء ذلك فإن كل محاولات المسخ والتغير تقوم على فكرة التهجين كي يتحول الفرد الى تابع ذليل وخادم للمتسلط ، في حين كتب على اليافطة الاخرى اسفل يمين المسرح “الكراج الموحد” وفي احدى حوارات “وضاح” الشاب العسكري المقبل من الجبهة باحثا عن ابيه “باقي” يقول : الكراج فقط هو الذي يوحدنا فالجميع باختلافهم يلجون الكراج غربة ويخرجون هروبا وموتا. كذلك اليافطة الاخرى اسفل يسار المسرح خط عليها “صالة العمليات الكبرى” وعبرها اراد القول بان الجرائم التي اقترفت تحت يافطة التحول والتغيير كانت بمقصلة “المتسلط” الذي لبس سترة الطبيب البيضاء، لان ما جرى ويجري بفعالية قصدية هدفها الية تفكيك الانسان وتفتيته، وربما كانت نواياها فضح تلك الارادات كونها المتحكمة في انتاج السلطات التي تستهلك الشعوب، وتلعب بإرادتها وتعمل على انتاج ادوات اخرى كلما انتفت الحاجة منها. في حقيقة الامر لم يوظف المخرج ذلك المحتوى الفكري عبر جغرافيا اخراجية فاعلة .
يبدأ العرض كما نوهت بأغنية تراثية “الليلة حلوة، حلوة وجميلة ” مع رقص غير منتظم لمجموعة من الممثلين/الخدم ودخول “وضاح” يرتدي الزي العسكري وهو يرقص ايضا، يبحث عن ابيه “باقي” يتفحص المكان يجد ((عربة)) والده المفقود وكان بإمكان المخرج أن يكتفي بالعربة ويستغني عن كل ما عداها بوصفها المنصة الرئيسة للأحداث ويبقي على اللافتات الثلاث التي يمكن ان تسهم في توليد حقول دلالية بانساق ديناميكية يحرك من خلالها امكانيات الممثلين ويستنطقها، ويحقق الدهشة المفقودة في العرض ذي المحتوى الفكري المهم، وينعطف بالعرض عن الشكل التقليدي المباشر للأداء الذي ظهر فيه وبقي في حدود النمطية الشعبية التي تحيل على ما يقدم في الفعاليات المدرسية. على الرغم من ان الممثلين كانوا يحاولون جاهدين اقناع المتلقي لكن النوايا الحسنة والطيبة لا تصنع عرضا متميزا لافتا مثيرا ومدهشا يبقي المتلقين في مقاعدهم حتى نهاية العرض .
تسير مجريات العرض على وفق مشاهد متقطعة يبدوا ان المخرج اراد التأكيد عبرها على توجهاته من خلال صراع الاستحواذ على العربة عبر طرفي نقيض العسكري “وضاح” من جهة ومجموعة الخدم الذين يشيرون في احد حواراتهم الى ان صراعهم هو صراع وجود طبقي غايته استغلال هذه الطبقة المسحوقة لتحقيق مآرب المتسلط الخبيثة التي تجلت لاحقا بعملية تهجين “باقي” وتحويلة الى الة. يتحقق ذلك بعد تخليه عن ردائه الشعبي (الدشداشة) وظهوره بملابس النادل، ومن ثم تغوله في مهمة التدمير بخاصة بعد ان يتيه في الاموال الطائلة التي تعبئ بها سلة المهملات ويتم نثرها على خشبة المسرح ،حيث أضحت الهاجس الاوحد المهيمن عليه، وقد احتل كرسي السلطة وسحق المتسلط . فعل التدمير والقتل تطال “خماس” الخادم الاخرس الذي يتم اغتياله بمجرد تمكنه من الكلام، ودلالة ذلك ومعناها الأكثر وضوحا: انك حين تظل في حالة الصمت تأمن على وجودك وان تكلمت معترضا تلاق الموت.
صورة العرض تستمر على الشاكلة ذاتها والمتغير عندما تصدح اغنية ام كلثوم “هل رأى الحب سكارى ” وجد فيها المخرج ملاذا يكشف عبره حالة فقدان الوعي التي اصابت “باقي” عندها يعود “وضاح” مبتور اليد اليمنى، قطعت في الحرب المستمرة ليجد “باقي” وقد تحول الى ماكنة تدمير قضت عليه ايضا ، يعلن انه مازال يمتلك قلبا نابضا ويدا يسرى، في دلالة على ديمومة فعل التحدي وأن الحل بعد ان بترت اليد اليمنى التي تمثل ضمنا اليمين المتطرف، في اليسار الليبرالي تلك اشارة واضحة المعالم للطموح الذي يكتنف خطاب العرض، تنتهي المسرحية مع رفع صورة احد شهداء مدينة الناصرية الذي قضى في الاحتجاجات التي عاشها العراق اكثر من سنة تعبيرا عن ديمومة التحدي. إن واقع عرض “المشترك لا يرد” : محلي بسلوك اخراجي مباشر دلل عن محتوى عميق بمفردات مادية وبشرية تحتاج الى مران وتكثيف ورؤية فنية وجمالية لتنسج خطابا اكثر دهشة واثارة .
د. ماهر عبد الجبار الكتيباني / العراق