اثنوغرافيا اداء الجسد في عرض (طلقة الرحمة)/ يوسف السياف
دائما ما يعرف الممثل على انه الدلالة السردية المثلى في العرض المسرح, منذ عهد (ثسبس الايكاري) والى الان, على الرغم من الاشتغالات الفكرية والفنية الجمالية حول كيفيه توظيف الجسد في العرض المسرحي, الا انه يبقى ذلك الملهم لأهم الاتجاهات الاخراجية والتنظيرات المسرحية, لما يخلقه عبر تنقله في فضاء العرض عن سلسلة من العلامات الأدائية, مما جعل مخرج العرض (العراقي) “طلقة الرحمة” الكيروكراف (محمد مؤيد) ان يعتمد على تقنيات الجسد الاثنوغرافية بمحمولاته الثقافية من خلال وصفه للعادات والتقاليد والموروثات الشعبية العراقية بصورة ادائية كيروكرافية وفق مرجعياته السياسية والاجتماعية لبيئته, وانطلاقا من عتبة عنوان العرض “طلقة الرحمة” الذي يجده الباحث ما هو الا دلالة تحلينا الى مفهوم (القتل العشوائي) باستخدام الاسلحة الخفيفة (القناص والمسدس والبندقية الرشاشة) كأدوات لقتل الانسان بدم بارد وبلا سبب, وهذا ما حاولت تلك الاجساد الثقافية ايصاله من خلال لغتها التعبيرية, ليحول (المخرج) جسد المؤدين المادي الى نصاً بصرياً حامل لمنظومة العلامات الدلالية التي تهيمن بحوارها على المستوى الشعوري والفكري للمتلقين, فمن خلال عنوان العرض الحاضر في ذاكرة الشعب العراقي اسس (المخرج) خطابه الجمالي لذلك العرض الحاصل على الجائزة الأولى في (مهرجان بغداد الدولي للمسرح) بدورته الثالثة, والذي أقيم في العاصمة بغداد لفترة من (20 حتى 28 -10/2022م).
حاول (المخرج) أن يظهر لنا واقع الانسان العراقي في ضل الظروف التي عاشها الفرد, على الرغم من انه لم يعتمد على اللغة المنطوقة بل اكتفى بلغة الجسد البصرية, اذ طرح لنا كم هائل من الّثيم المضمرة على مر السنين بصوت عالً مسموع رافضاً لمفهوم القتل, وقد ساهمت التقنيات المسرحية بتكاملية العرض المسرحي, ففي المشهد الاول نلاحظ أن (المخرج) قد وفق باستخدام الزي ودلالاته, اذ ان لون الزي الابيض الذي غطا اجساد الممثلات اوصل فكرة المشهد في ان تلك الاجساد هي عينة لنقاء المرأة العراقية المهمشة والمغتربة المعنفه في مجتمعنا, وبتوافق معطيات الزي الدلالية ومبثوثات الموسيقا المسموعة وفعل حركة اجساد المؤديات اوصل (المخرج) رسالته, بل واكد ذلك دخول المؤدين الاخرين, الا ان رسمهم لخطوط متقاطعة على شكل (X) من خلال حركة اجسامهم على جغرافية المكان كان دليل علا اشراكهم مع المؤديات في حلقة الصراع ضد الظلم وانتمائهم لسيكولوجية الفعل, وهذا ما دعمته منظومة الضوء التي كشف لنا في عمق المسرح عن ذلك التكوين المعماري كمستوى اعلى من خشبة المسرح, ليصف لنا خشبة المسرح على انها بيئة اشبه بقبر كبير يتصارع تحته الانسان من اجل البقاء على قيد الحياة, وان ذلك المستوى ما هو الا سطح الارض, اذ ان ما كشف (المخرج) من خلال ذلك المستوى الا معالجة درامية تمهد للفعل القادم, ولتأكيد ما طرحه في المشهد الاول في ان ديالكتيكية عملية القتل ستستمر, وذلك من خلال نثر التراب من ذلك المستوى المرتفعة ودلالة اللون الاحمر الذي هيمن عليه, وكذلك تساقط المؤدين منه بحركات تعبيرية توحي يتوقف الحياة لتلك الأجساد.
وبتكراره الفعل الادائي لتأكيد تدفق الظلم واستمرار عمليات القتل, وللتأسيس عن مرجعيات تلك الاجساد الثقافية التي حاول (المخرج) توظيفها بصورة جمالية وفق بسردية اثنوغرافية ساهم المكان وجغرافيته المطروحة على خشبة المسرح والتي تحيلنا الى (مقبرة وادي السلام) من خلال رمزية فعل الاجساد بنشر التراب على الاموات الى حالة من الكتابة النصية, مما يجعل تلك الاجساد الناقل والوحيد لمجمل الفوارز الفكري التي تحاكي المجتمع العراقي هي اجساد اثنوغرافية.
وبتدفق الفعل الادائي صور لنا (المخرج) خطر المكان من خلال ما تطرحه الاجساد من حركات تعبيرية ادائية غير مستقرة متعالقة مع الموسيقا, بالاضافة الى حركة إحدى المؤديات على (الجدار الحديدي المشبك) والموضوع فوق المستوى المهيمن في عمق المسرح, وهي تحاول الهروب من هذا الواقع, تأكيداً على فعل المؤدين (ذكور وإناث) وهم يحاولون أيضاً التخلص من هذا الجحيم بأدائهم الحركي الراقص, وما تكرار تلك المحاولات اليائسة والمتمثلة في اداء القفز من قبل المؤدين والتسلق على الجدار الحديدي الا تأكيد لاستمرارية المحاولة في البحث عن منفذ للحياة, الا ان متوالية هذا المشهد وتعددية الافعال الادائية والتأسيس لمفهوم التكرار الا مرموزات تفسر رفضهم للموت, الا انهم لم يستطيعوا الهروب من واقعهم ووصل بهم الحال الى مرحله الجزع والصراخ لرفض الواقع المزري.
وقد عمد (المخرج) على انهاء هذا المشهد بغايه الدقة والجمال وفيض الدلالات, حيث ان الأداء الجسدي والتشكيل الحركي المهيمن على ارضية المسرح وما يوازيه من فعل ادائي في يسار عمق المسرح حيث حركة المؤدية وهي تعتلي ذلك التكوين الديكوري الوحيد في فضاء العرض وما تقوم به من حركة ديالكتيكية متكررة في التسلق على الجدار الحديدي, كل تلك الاداءات المتوالية على خشبة المسرح لا توازي اداء الممثل الذي هيمن في جسده على مجمل فضاء العرض, وبقصدية من (المخرج) اذ خلق في نهاية المشهد فعل ارضي من خلال التفاف احد المؤدين حول نقطه معينه وهو مستلقي على الأرض ويجسد فعل ادائي حركي اشبه بحركة ميل الساعة للدلالة على ان مجمل تلك الافعال الادائية التي توحي بعملية الهروب, وان الافعال العدوانية التي تمارس في حقهم لا سيما عملية القتل بالأسلحة النارية ما هي الا ممارسات باقية ولا تزول, اذ كان اداء الممثل الانفرادي تنبيه للجميع بما فيهم المتلقي في أن الزمان يمضي بسرعة, لينهي (المخرج) هذا المشهد بجو يملأه اليأس, الا ان ذلك قد حفز من إرادة المؤيدين, لينقلنا (ألمخرج) الى مشهد حركي جماعي راقص يستخدم المؤدون فيه (مقابض المراحيض) ليحاولوا من خلالها ايقاف نزيف الدم, إلا أنهم لم يصلوا إلى مبتغاهم, مما اضطر بهم الحال باللجوء نحو الدعاء والتضرع الى الخالق, الا أن الخطر قادم ولم يتوقف حصد الارواح.
عمد (المخرج) في المشهد الذي يلي المشهد السابق باستخدام قطعً متعددة من مقاعد الجلوس الحديدية دائرية الشكل ليوظفها مع حركه المؤديات الراقصة التعبيرية, بالإضافة الى استخدام (العباءة النسائية) ذات اللون (الاسود), وذلك من خلال ارتداء المؤديات لتلك (العباءات), جمله من الوسائل التعبيرية الغنية بالعلامات هيمنت في هذا المشهد, والتي ترجمت واقع حال المرأة العراقية وجزعها مما هي عليه من خلال بث روح الحياة في تلك العناصر الجامدة بعد ان تعاملت معها تلك الاجساد.
فما تلك الاجساد الاثنوغرافية الا وصف لواقع حال المرأة العراقية, ففي حركاتهن التعبيرية اختزلن هموم المرأة العراقية وعبرن عن حزنهن, لا سيما بعد ان حولن تلك المقاعد الحديدية الى (قبور) من خلال تلبيسهن لتلك المقاعد بملابس الرجال الداخلية, وتأكيداً لذلك ما حققته اجسادهن لهذا الحال من خلال حملهن للجنازة التي ساهمت قطعة الديكور (الدرج) في تجسيد (نعش) تقوم المؤديات بحمله والسير بحركة جنائزية راقصة نحو كواليس المسرح.
أما في المشهد الذي يليه نجد أن (المخرج) قد قرر من خلال تشكيل لوحته الادائية أن يقول في أنه لا خيار امامكم (اي المؤدين والجمهور) سوى الاحتجاج على ما انتهم عليه, مما اضطر لتجسيد ذلك في ان يعمد الى حلاقه رؤوس مؤديه امام الجمهور, كصرخة في وجه الظلم لاسيما وأن المؤيدين أثناء قيامهم بفعل حلاق الرؤوس ظهر لنا وعلى ذلك المستوى الخلفي (رجل) بلباس طويل ابيض اللون وهو يمسد ذقنه الابيض والطويل ايضا, وما هذه الرمزية العالية بفعل ذلك (الرجل) الموازي لفعل حلاقة الراس الا ادانة من قبل (المخرج) لرجال الدين, في ان ما يسلب من الشعب وما يمر من ظلم وجور والقتل الا برضا الآخر (الرجل), في المقابل نجد ان الآخر كان مسترخي ومتفائل بما يحدث ويحاول ان يظهر بالصورة اللائقة والجميلة مقابل قبح افعاله.
فما نلتمسه من خلال سردية المؤدين الادائية اثناء عملية الاحتجاج, وبحقل الرؤوس وانحناء اجسادهم وهم في وضح الركوع, وحزن المؤديات وتجسيدهم لفعل (اللطم) و(الالتواء) ما هو الا وصف اثنووغرافي للطقوس العراقية, اذ ان لف (العباءة) على خصر المؤديات ومشيهن بوضع الانحناء دليل قاطع على استثمار (المخرج) للطقوس والعادات الاجتماعية العراقية والموروثات الشعبية, لاسيما تلك الطقوس التي يقومن بها النساء عند موت أحد, فقد وصف (المخرج) مفردة (اللطمة)(العراقية) بصورة تعبيريه أوصلت ما يريد قوله من خلال (الطم على الصدور) والضرب بالكفوف على التراب, وارتداء زي المرأة العراقية الريفية كلها علامات وضعيه لعادات وتقاليد عراقية موروثه منذ القدم, وما طقوس (الملايا) و(اللطم) الا امتداد للطقوس (السومرية) ولصرخة (عشتار) وبكائها والندب على زوجها الذي قتل امامها, لينتهي (المخرج) المشهد برش التراب على الرؤوس كما يفعلن النساء في المقابر.
ينهي (المخرج) عرضه المسرحي بتوظيفه لمجمل مفردات العرض المادية من مقاعد وازياء بالإضافة الى استخدام اشرطه الفيديو القديمة, لتشكيل صورة مشهديه تثبت لنا مروزات جمالية, في أن ما قدم إلينا في هذا العرض كان أشبه بشريط سينمائي يضم في طياته كم هائل من الفوارز الاجتماعية العراقية.