بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة..بيانات لما بعد الجائحة (البيان الثالث)/ عبد الكريم برشيد

بيان المسرح الكاتب والمنكتب

 (ورحت أبحث في هذه المدينة عن المسرح، وسألت بعض الناس في المدينة عن مسرح المدينة، فأكدوا لي جميعهم بأن المدينة كلها مسرح، وبأنه لا مسرح خارج فضاء المدينة، وبأن حياة الناس هنا كلها تمثيل وتمثيل، وبأن درجات هذا التمثيل متباينة ومتفاوتة في الصدق والحقيقة، وسألت عن السادة الممثلين فقالوا إن كل الذين فيها وعليها ممثلون.

يا أيها الناس افهموني، ذلك الممثل الكاذب في البيوت والأسواق، وفي الحارات والإدارات لا يعنيني، وكل الممثلين الكذابين والمنافقين لا يهمني فنهم الذي ليس فنا، هكذا قلت لكل الناس في هذه المدينة، وأنا اليوم لا أبحث إلا عن الممثل الذي يحيا حياته، والذي يمثل وهو يعرف أنه يمثل، ويدرك جيدا أنه يمثل مع الناس وليس عليهم، والذي يبحث في التمثيل عن الحق والحقيقة، والذي لا يسعى من أجل أن يهرب هذه الحقيقة، أو أن يزيفها، أو أي يلتف حولها)  الاحتفالي في ( الرحلة البرشيدية)

 

بين الكلام الصامت والصمت المتكلم

 هذه الاحتفالية، الجديدة والمتجددة والمسافرة عبر الزمان والمكان، من أين أتت؟ وما الذي أتى بها؟ وكيف أتى به؟ وما الداعي إلى وجوده؟ هي أساسا حركة؛ هكذا يقول الاحتفالي، ولقد أتت في صيغتها الجديدة مع هذا الزمن الجديد، وقد يكون الصحيح أن نقول بأن الذي أتى بها هو هذه الأزمنة المعاصرة الجديدة، ولقد أعلنت عن وجودها في يوم من الأيام، وفي سنة من سنوات القرن الماضي، وفي تلك الألفية التي كانت، ولقد أحدث ذلك الإعلان صدمة في الوسط الثقافي المغربي والعربي، ولقد خرجت صيحتها من دائرة الصمت إلى دائرة الكلام، وقدمت نفسها للناس وللتاريخ من خلال الكلام والكتابة، سواء في البيان المكتوب أو في التصريحات الشفهية أو في الإبداعات المسرحية أو في السلوك اليومي للاحتفاليين، والذين عاشوا الاحتفالية قبل أن يكتبوها أو تكتبهم  أو ينكتبوا بها

في ذلك لبدء إذن، كانت هذه الاحتفالية مسرحا، وكذلك سوف تبقى إلى ما شاء الله، هذا هو قدرها، لأنها حياة إحساس الناس بالحياة، وحياة التعبير عن هذا الإحساس وهو في درجة الصدق والحقيقة وفي درجة الجمال والكمال، وفي كتاب ( حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي) يمكن أن نقرأ ما يلي:

“المسرح الاحتفالي ينطلق من نقطة أساسية وهي أن الإنسان كائن احتفالي بطبعه، أي انه قبل أن يكتشف الكلام فقد اكتشف الحفل.. اكتشفه ليعبّر عن حاجياته وإحساساته الداخلية، فالحفل ضرورة حتمية، ويبقى بعد هذا أن نتساءل : كيف طور هذا الفعل/ الاحتفال ليجعله في خدمة ما هو حقيقي وإنساني وحيوي؟” (1) 

من داخل هذا الاحتفال تكلم الإنسان، فأوجد الكلام وكل لغات الجسد وكل لغات الأشياء وكل لغات الصمت وكل لغات الفراغ، ومن حقنا، أو من واجبنا اليوم، أن نتساءل جميعا: الصمت والكلام، ما معنى هذا، وما معنى ذاك؟

في بدء الخليقة، كان الصمت وحده، لا ثاني له ولا شريك له، وذلك في هذا النظام الكوني اللامتناهي، ثم من بعد حضر الكلام، بحضور الإنسان العاقل والمفكر والمبدع والمتكلم والكاتب، وكان هذا الكلام فعلا وفاعلية في التاريخ القديم والمعاصر معا، ولقد أصبح لهذا الكلام درجات متفاوتة وكثيرة جدا، أعلاها وأغلاها الإنشاد والغناء والطرب والتراتيل الصوفية، وأصبح ذلك الصوت الواحد الأوحد حزمة أصوات متحاورة ومتجاورة ومتناغمة ومتكاملة ومتداخلة ومتناغمة، وأصبحت بذلك ألحانا تنطق وتعبر وتصور وتشير وتدل على أشياء وعلى مشاعر وعلى حالات وعلى انفعالات وعلى مواقف و مقامات

البعض يقول لك تكلم حتى أعرفك، والبعض الآخر يقول لك الصمت حكمة ومنجى، ولقد اختارت الاحتفالية أن تتكلم، لأن الإنسان حيوان ناطق، واختارت أن تكتب أيضا، لأن الكتابة هي أخطر ما اكشف أو اخترع الإنسان، وقبل هذا فقد اختارت الاحتفالية أن تفكر، لأن التفكير فرض عين على كل عاقل وعاقلة، واختارت أن تعبر، وأن تشاغب، وأن تحاور، وأن تجادل، وأن تحضر حيث ينبغي أن يكون الحضور، وبالتأكيد فإن بعض الصمت أحسن من كثير من الكلام التافه، والذي قد لا يعني شيئا ولا يدل على أي شيء، والذي قد يكون مجرد ثرثرة، وما أكثر الصمت الذي قد لا يقوله كثير من الكلام وكثير من الكلام ومن الكتابة، يقول النبي المصطفى (ص) ( رحم الله امرأ قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم) مما يدل على أن أقصى ما يمكن أن يفيد به الصمت هو سلامة الصامتـ، ولكن الكلام المفيد يمكن أن يفيد كل الناس، والغنيمة موجودة في بعض الكلام والسلامة كامنة في كثير من الصمت الجبان، ولقد اختارت الاحتفالية أن تجهر بالحق، وأن تؤمن بالاحتفال، وأن تبشر به، وأن تدعو له، وأن تفلسف وجوده في حياة الناس وفي حياة كل المجتمعات الإنسانية

وفي العلاقة بين الصمت والكلام يقول الجاحظ :” إن الكلام إنما صار أفضل لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت، ونفع الكلام يعم القائل والسامع والحاضر والغائب والشاهد والراهن والغابر” (2)

ولقد بدأت الاحتفالية مسارها الوجودي بالكلام وبالكتابة وبالإبداع في الآداب والفنون، وأكدت دائما على الحضور، وقالت في بياناتها الأولى كلمتها المشهورة ( لم يعد الصمت ممكنا) وأضافت ( الغياب خيانة وجودية) وأنه لا مجال لتأكيد الوجود والحضور إلا بالكلام الصادق وبالكتابات المسئولة وبالبيانات العالمة والفاهمة، والتي تبيّن وتفسّر وتوضّح وتسأل وتتساءل وتعيد قراءة العالم قراءة احتفالية وعيدية جديدة ومتجددة

وبخصوص فعل هذه الكتابة وبخصوص فاعليتها يقول الاحتفالي ” الكتابة عندي شهوة واحتراق، وهي أيضا سياحة وهجرة، وهي وقوف الواحد أمام المرايا، وذلك من أجل أن يتعدد، وأن يتطهر، وأن يكون الرائي والرؤية وموضوع الرؤية”(3)

وفي مرآة هذه الاحتفالية تمدد جسد الاحتفالي، وأصبح أطول قامة، وأعلى قيمة، وأكثر إقناعا في فكره وعلمه، وأكثر إمتاعا في مسرحه وفنونه، وأصبح للاحتفالي فيها حضور هنا وحضور هناك، وأصبح لكتاباته الاحتفالية وزن وثقل وطول وعرض وعمق وإشعاع وظل وصدى، وأصبحت له صورة حية  تتخطى الأمكنة والأزمنة،

وبحسب النيسابوري فإن الصمت ( أمر عدمي) لأنه أخو الخواء، وقد يكون غيابا أو تغيبا، وقد يكون هروبا إلى المناطق الرمادية، وقد يكون تواطؤا وانتصارا لأهل الباطل، وفي هذا المعنى يقول علي بن أبي طالب ( حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق)

ولقد تكلم الاحتفاليون كثيرا، وكتبوا كثيرا، لأنهم لاحظوا أن هذا الذي نسميه ( مسرحنا) ليس مسرحنا، ولا هو مسرح أرضه وتربته، ولا هو مسرح ثقافته ولغاته، ولا هو مسرح أسئلته ومسائله، ولا هو مسرح طقسه ومناخه، ولا هو مسرح لحظته التاريخية الحقيقية الحية، وفعلا، فهو مسرح به تقنيات وآليات ومفردات المسرح، ولكنه يفتقر إلى روح المسرح ، وروح المسرح هو الاحتفال وهو العيد والتعييد، وهو التلاقي بعد الموعد

يقول الجاحظ في كتابه ( البيان والتبيين) ( وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله ، بل قد علمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت) (4)

وقد يكون الصمت حكمة، عند من ينشدون السلامة وحسن العاقبة، ولكن ليس في كل المواقف والأحوال، وليس عند كل الناس، وقد يكون الكلام مجرد ثرثرة زائدة، وذلك في كثير من الحالات والمواقف، وفي جسد الاحتفالية كثير من الكلام الذي له معناه، وفيه أيضا كثير من الصمت الناطق والمعبر، وفي نهاية كتاب ( غابة الإشارات) يجد الكاتب نفسه ملزما بأن يخرج من فضاء الكلام إلى فضاء الصمت، ولهذا فقد قال ( هذا الكتاب أدركته الخاتمة، تماما كما أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، ولكن، من قال بأن الصمت لا يتكلم ولا ينطق، ولا يرسم، ولا ينحت، ولا يكتب، ولا يعبر، إنني في هذا الكتاب ـ وفي غيره من الكتب الأخرى ـ أبحث دائما عن القارئ المبدع، أي عن ذلك الشاعر الذي يحسن قراءة الصمت، وقراءة الظلام، والذي يستطيع أن ينفذ بين السطر والسطر وبين الحرف والحرف، والذي يملك القدرة السحرية على أن يعيد لكل الحروف الشاردة والتائهة نقطها الضائعة أو المضيعة، وفي هذا الكتاب كثير من النقط التي سقطت سهوا، وكثير من الإشارات والإيماءات وكثير من الصور المهشمة ومن المرايا المكسرة، والتي تحتاج لمن يعيد تركيب أجزائها وتفاصيلها الصغيرة والدقيقة) (5)

وفي حال الصمت، تماما كما في حال الكلام، تبقى الاحتفالية دائما حاضرة ومفكرة ومعبرة والكلام الاحتفالي هو دائما كلام واضح وفصيح وصريح، وهو لا يؤمن بالتقية السياسية، ولا بتهريب المعاني، ولا بتهجيرها بطرق غير شرعية إلى الضفاف الأخرى وإلى العوالم الأخرى

ومثل الجاحظ دائما، فقد سعت هذه الاحتفالية إلى البيان وإلى التبيين، وإلى البلاغة والتبليغ، وإلى كتابة الرسائل، وإلى إيصالها  إلى كل من يعنيه الأمر في هذا العالم

وأول الكلام في هذه الاحتفالية هو التأكيد على أنها أساسا اختيار حر، وعلى أن فعل هذا الاختيار ليس بريئا، وليس فعلا بلا معنى، وذلك لأن طبيعة فعل الاختيار تكشف عن طبيعة الفاعل المختار، وكما تكون اختياراتنا نكون نحن مثلها، فالجميل يختار الجمال، أو يختاره الجمال من حيث لا يدري، وعاشق العلم يختار العلم، أو يختاره العلم، ومحب الحكمة يختار الحكمة، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد عبده ( قد عرفناك باختيارك، إذ كان دليلا على النبيه اختياره) وبهذا نقول بأن أول درجة في سلم الاحتفالية وفقهها هو سلم الاختيار، أي اختيار الحياة والحيوية، واختيار الإنسان والإنسانية، واختيار المدينة والمدنية، واختيار الجمال والجمالية، واختيار الحق والحقيقة، واختيار البهجة والفرح، واختيار العيد والاحتفال، واختيار الاستقلال والاستقلالية، واختيار الحضور والتلاقي، واختيار الحرية والتحرر، واختيار الفن الذي يجمل الحياة اليومية، ويجمل الواقع والوقائع، ويعيد للأيام العادية عنصر الإدهاش فيها

وفعل هذا الاختيار، هو بالتأكيد حق مشروع للجميع، وبهذا فهو ليس ذنبا ولا هو جريمة، ولقد مارسه الاحتفاليون عن قناعة فكرية، إيمانا منهم بأنه عنوانهم في دنيا الوجود، وأنه هويتهم وبصمتهم المتميزة في الحياة وفي ذاكرة الأيام

وتؤمن الاحتفالية أن الكتابة أبلغ من الكلام، وأنها أطول عمرا منه، وأنها أكثر جدية مما  قد نقوله من كلام طائر في لحظة سهو أو في نوبة لهو، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفاليين يكتبون أكثر مما يتكلمون، معتبرين أن الكتابة أساسا مسئولية، وأنها الفعل التاريخي الذي لا ينتهي في لحظته، والذي ـ بفعل طاقته الحيوية فيه ـ يمكن أن يتمدد في الجغرافيا وفي التاريخ، وأن يصل إلى كل الناس، وفي هذه الكتابة تحضر بلاغتان اثنتان متكاملان دائما، بلاغة الإقناع الفكري والعلمي، وبلاغة الإمتاع الفني والجمالي، وهذا ما تعكسه الكتابات الفكرية والعلمية في الاحتفالية، وتعكسه الكتابات الإبداعية في مسرحها وفي كل آدابها وفنونها المتعددة

وبخصوص الشخص الاحتفالي، فهو أساسا قارئ، ولقد حفزته قراءاته المعددة والمتنوعة لأن يكون كاتبا أيضا، والكتابة عنده ليست رسما تجريديا في الفراغ، ولكنها واجب ومسئولية، وهو ( يعتبر الكتابة رسالة، ويعتبر نفسه ساعي بريد، ويعتبر أن من واجبه أن يؤدي هذه الرسالة إلى من يهمهم الأمر ) (6)

ويرفض هذا الاحتفالي أن يكون هو الكاتب الحقيقي لما يكتبه، وأن يكون كل ما تخطه يده ينتمي إليه، معتبرا أن الكاتب الحقيقي هو الزمن، وهو الذي قال للكاتب اكتب، وهو الذي قال له ماذا تكتب، ودور هذا الكاتب فقط هو أن يتأمل، وأن يسمع، وأن يرى، وأن يحيا، وأن يعيد كتابة ما تمليه عليه الأيام والليالي، وما تمليه عليه الحياة، وما يمليه عليه التاريخ، وما يوحي به الواقع والواقع، وأيضا، ما يمكن أن يأتيه من الغيب أو من الإلهام أو من توقعات بدرجة نبوءات، وشخص هذا الكتب الاحتفالي صنعته الصدفة الموضوعية، وهو لا يعرف كيف أصبح كاتبا، ولماذا هو ليس غيره، ولماذا هو محكوم بأن يحمل الرسالة الاحتفالية وأن يمشي بها، إلى الأعلى دائما، وإلى الأبعد في الزمان وفي المكان

ويؤمن هذا الاحتفالي بأنه لا (يكتب) وحده، لأن القارئ يكتب معه، والناقد يكتب معه، وطقس الكتابة يكتب معه، ومناخ الكتابة يكتب معه،، واللغة تكتب معه، والأحلام تكتب معه، والجغرافيا تكتب معه، والتاريخ يكتب معه، وحالته الوجدانية تكتب معه

وبحسب ذ عبد الرزاق الربيعي، ( فقد انخرط هذا الكاتب الاحتفالي – مبكرا في كل شؤون الحياة اليومية وانحاز صادقا إلى قضايا الناس الفكرية والاجتماعية، وبذلك فقد وجد نفسه ـ من حيث لا يدري ـ كاتبا مسرحيا وصحفيا ومفكرا ومهندسا من مهندسي بنية هذا المسرج العربي الحديث) (7)

وهذا الكاتب الاحتفالي لم يأت من فراغ، لأنه كائن جغرافي وكائن تاريخي وكائن ثقافي، وكائن حضاري، بالإضافة إلى أنه مواطن كوني، وهو ( كاتب من هذا الزمان، مرتبط وجدانيا وفكريا بالإنسان، في كونيّته، وهو في نفس الوقت مرتبط بالأرض وبلغاتها وبجغرافيتها وبترتها وبتاريخها وبحكيها وبمعتقداتها، لدرجة أنه يعتبر نفسه مجرد نبتة حية في غابات الحياة) (8)

وهو فعلا مرتبط بالطبيعة، ولكنه لا يريد أن يكون أكثر طبيعية من الطبيعة، تماما كما أنه في علاقته بالواقع، لا يريد أن يكون أكثر واقعية من الواقع، وهو يكتفي في كتاباته بأن يتأمل روح الواقع، وأن يقرأ روح التاريخ، وأن يقرأ جوهر الإنسان

هذا الاحتفالي يكتب كثيرا، وكأنه يعيش بالكتابة وفيها، وأنه لا شيء في حياته إلا الكتابة، وكثرة كتابته هي عند البعض ميزة، وهي عند البعض الآخر تهمة، وهي بهذا نزيف أو هي إسهال أقلام، مع أنها ـ في حقيقتها ـ فيض عقول ونفوس، وهي فيض أرواح تتدفق كتابة فكرية وإبداعية، وفي هذا المعنى يقول د. مصطفى رمضاني بان الاحتفالي قد ( كرس حياته للكتابة، حتى أننا لو قمنا بتعداد ما كتبه من نصوص ونقود وتنظيرات، وقسناها بزمن عمره، لوجدنا أن زمن الكتابة عنده أكبر من زمن حياته العمرية) (9)

هذا الاحتفالي (هو مواطن كوني، وطنه الجغرافي هو المغرب، ولكن وطنه الروحي والفكري والوجداني الحقيقي هو المسرح وعنوانه المسرح وعلمه المسرح وفقهه المسرح، وزمنه التاريخي هو هذا الزمن الحديث والمعاصر، ولكن زمنه الحقيقي هو كل الأزمان الكائنة والممكنة، وهو في مسرحه المكتوب والمتخيل، تماما كما في حياته اليومية، لا يتوقف لحظة عن المشي، ولا يتوقف عن السؤال، ولا عن اقتراف الشغب المشروع، وهو يؤمن بالفرح وبالحق في الفرح، ولعل أجمل ما فيه هو أنه مواطن حر، وأنه مستقل في قراراته واختياراته ومواقفه، وأن كل أفكاره من عنده، وليست صناعة أجنبية مستوردة، وهو احتفالي الروح واحتفالي الوجدان واحتفالي الرؤية، قبل أن يكون احتفاليا في كتاباته الأدبية والفنية والجمالية) (10)

 

درجات الاحتفال: الصمت والكلام ثم الكتابة

 إن الأصل في هذه الاحتفالية هو أنها ظل الإنسان وصدى الزمان، وهو أنها حركة وصيرورة قبل كل شيء، وهي بهذا أفكار حية تتحرك في عالم متحرك وفي أجساد إنسانية متحركة، وعالمها الحقيقي هو عالم لا متناه ولا محدود، وهي بالأساس أجساد حية تتحرك باتجاه الآتي الممكن، وهي أيضا معاني رمزية تتحرك باتجاه النفوس الصادقة وباتجاه الأرواح العاشقة، وبهذا فهي تنتمي (إلى الفكر وليس إلى السياسة .. السياسة كلعبة وليس كرؤية، وبهذا فهي تقترح انقلابا مخالفا ومغايرا لانقلابات العسكر، وتحدد مجال هذا الانقلاب المغاير في الفكر والنفس والوجدان والروح، وهي بهذا تؤكد على أن المستقبل فكرة، وأن الإبداع فكرة، وأن التغيير فكرة، وان هذه الفكرة تنشا في ذهن مفكر، وان هذا المفكر ينبغي أن يكون حرا ومسئولا ومبدعا أو لا يكون ) (11)

ولهذه الاحتفالية رؤيتها الخاصة للوجود، والتي هي رؤية عيدية واحتفالية، وهي تقابل الرؤية المأساوية للوجود في المسرح اليوناني القديم، وهي تقابل الرؤية العبثية في المسرح الأوربي الحديث، وبعد ما يقارب نصف قرن من الوجود، فمازالت هذه الاحتفالية غامضة، وكأنها جسد أسطوري، أو أنها حكاية شرقية، ونقول عنها غامضة، مع أنها سهلة وبسيطة وشفافة ومفتوحة على الأرض والسماء، وأنه من الممكن أن نراها من جميع الجوانب ومن جميع الجهات، وهذا لا ينفي صعوبة اختزال معرفتها في كلمات وعبارات، لأنها كائن تاريخي يتحرك، وهي اليوم هنا وغدا هناك، وهي بهذا زئبقية مثل الزمن وماكرة مثل التاريخ، ومتحولة مثل جنية، وفي معنى مقاربة هذه الاحتفالية ( علميا) يقول الاحتفالي:

( إن للاحتفالية عتباتها، ولها مدارجها ودرجاتها، ولها بواباتها المتعددة، بواباتها الأمامية والخلفية والظاهرة والخفية، والتي لا يمكن أن تنفتح إلا لمن يعرف كلمة السر، أو يعرف سر الكلمة

شيء مؤكد أن فعل الدخول ( إلى فضاءات هذه الاحتفالية، وإلى عوالمها وأكوانها، ليس بالأمر السهيل، فهو مغامرة لا تشبه غيرها من المغامرات، ولا تكررها، وهو انجذاب نحو المعرفة ونحو الجمال ونحو الكمال ونحو الإبداع ونحو الحق والحقيقة ..

إن حجم هذه المغامرة هو نفس حجم العشق الصوفي والإآـهي والفردوسي، والذي يسكن الباحث، وإن مثل هذا العشق هو بالتأكيد عشق روحي يسكن أعين المجانين، ويقيم في نفوس العشاق، ويحرك أجسادهم للكتابة ..الكتابة بالأقلام والكتابة بالأجساد والكتابة بالأشياء) (12)

إن ما أسس وبني ـ كتابة وإبداعا وسلوكا وعلاقات وبنيات ومفاهيم ـ في نصف قرن، لا يمكن أن يفهم في بيان واحد أو في مقالة واحدة، أو حتى في كتاب جامع ومانع

 

لماذا تكلمت الاحتفالية، وكيف كتب الاحتفالي؟

 في الاحتفالية أسئلة كثيرة جدا، وهي أسئلة ظلت معلقة على جدران التاريخ، ومن هذه الأسئلة يمكن أن نقتصر على الأسئلة الأساسية والجوهرية التالية:

ــ من أجل من، ومن أجل ماذا أصدر الاحتفاليون كل البيانات الاحتفالية؟

ــ ولمن كتبوا كل الكتابات، وأعطوا آلاف التصريحات، وأعادوا مناقشة كثير من البديهيات ومن المسلمات؟

ــ ولماذا تغير بعض (الاحتفاليين) عبر مسيرة الأيام والأعوام ولم تتغير الاحتفالية، وبقيت وفية لثوابتها الفكرية والجمالية والأخلاقية ولرؤيتها العيدية للوجود؟

ــ وكيف واجه الاحتفاليون كل حملات التبخيس والتشكيك والتشويه والتهميش والتشويش والاستئصال؟

ــ وبأي سلاح فعلوا ذلك؟ وبأي منطق؟ وبأية حجة حاوروا وجادلوا المخالفين والمختلفين، وذلك  على امتداد الجغرافيا العربية وعلى امتداد التاريخ العربي المعاصر؟

ــ وكيف تعب جميع خصوم الاحتفالية، وخرجوا من مضمار السباق، وبقيت الاحتفالية وحدها تسابق الزمن، وتتحدى المستجدات والمتغيرات في الواقع التاريخي؟

ــ وهل يصح تأسيس تيار مسرحي جديد، في واقع ثقافي جديد، وذلك من غير أن يكون هذا التيار محملا برسائل فكرية وأخلاقية جديدة، ومن غير أن يأتي بنبوءات صادقة تخص مستقبل العالم، وتخص مستقبل الإنسان الحي في هذا الواقع الحي، وتخص مستقبل العلوم والفنون ومستقبل المسرح؟

جوابا على هذه التساؤلات يمكن أن نقول ما يلي: لأنهم فقط ( قوم مبصرون) ولأنهم أيضا

( قوم يعقلون) ولأنهم أهل رأي وأهل رؤية ورؤيا، ولأنهم ( آمنوا بربهم فزدناهم هدى) ولأنهم في حياتهم اليومية، وفي حياة فكرهم وحياة مسرحهم ولأنهم كانوا رفاق المعرفة والحكمة ومن عشاق الجمال والكمال، ولأنهم قد رأوا أمامهم أشياء مثيرة ومدهشة ومستفزة للعقل، رأوها بعين الحس وبعين الحدس وبعين الوجدان وبعين الخيال، وبعين الروح قبل كل شيء، لقد رأوا أشياء كثيرة جديدة موجودة في الوجود، فأحبوها وفكروا في حكمة وجودها، ولأنهم أيضا، قد تأملوا الواقع والوقائع بعين السائح وبقلب العاشق وبروح الصوفي، ولأنهم كذلك، قد اطلعوا على أغلب وأصدق ما كتبه الكاتبون بخصوص تاريخ الفكر وتاريخ العلم وتاريخ الفنون، ولأنهم أهل تفكير، وأنهم عشاق فعل التفكير، فقد فكروا في طبيعة المسرح المسرحي، والذي هو مجمع علوم وفنون وصناعات كثيرة جدا، ولقد فكروا مع الفلاسفة في معنائية هذا المسرح الوجودي، الواسع والرحب واللامحدود، ولأنهم أيضا قد أدركوا، في المعرفة درجة ما، ولأنهم اقتنعوا بقناعات بدت لهم وجيهة وصادقة، فقد أشركوا كل الناس معهم فيها، ولعلمهم بأن باب الاجتهاد العلمي والجمالي مفتوح لكل الناس، وأنه فعل مشروع بالنسبة للمجدين والمجتهدين، فقد أدخلوا المسرح إلى مختبرات التجريب الميداني، ولأنهم آمنوا بأن مسئوليتهم في التاريخ، هي أن يعيدوا تأسيس المسرح العربي الحديث، وذلك وفق معايير علمية وفكرية وجمالية حقيقية وسليمة وحديثة وحقيقية، لقد اقتنعوا بأن المسرح ليس عرضا يعرض، وبأنه ليس بضاعة تعرض في الدكاكين وفي الأسواق، وأنه ليس مجرد زبون من الناس تعرض له وأمامه وعليه بضاعة بشكل فرجة، وهل الفعل المسرحي، وهو مقتطع حي، من حياة الناس اليومية الحية، ومن زمنهم ومن حالاتهم ومن أسئلتهم ومن مسائلهم ومن معاناتهم،، يمكن أن يكون  بضاعة؟

 

من يكون الكاتب الاحتفالي المعارض؟   

وهذا الكاتب الاحتفالي هو ذلك الذي يعرف أنه لا يعرف، والذي يريد أن يعرف، والذي يعشق المعرفة، والذي يحيا بها وفيها، والذي يسعى لأن يقتسم مع الناس كل ما قد يعرف، خصوصا عندما يؤمن بأن هذه المعرفة جميلة ونبيلة، وأنها، لثقلها، لا يمكن أن تحملها ذات الكاتب وحده، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (والحمد لله على كل حال، بعض الجهل أهون من بعض يا صاحبي، وبعض الضرر أخف من بعض، هكذا أقول دائما.. أقولها كلمة واضحة وفاضحة وأمشي.. أنا نصف عالم ونصف جاهل، ونصف فنان ونصف صانع، ونصف عاقل ونصف مجنون، ونصف صادق ونصف كذاب، ونصف إنسان ونصف حيوان، وأعمل دائما على أن أنتصر على حيوانيتي التي بداخلي، وأكبر حروبي هي التي أخوضها على نفسي ) (13)

وهذه الكتابة الاحتفالية، لها ذاكرة حية في الماضي، وفي الذي كان، ولها تاريخ حي في الزمن الآتي، وفي ما يمكن أن يكون غدا، وبهذا فهي فعل يقرأ الموجود، ويؤسس اللاموجود، ودائما بنفس اللغة، وبنفس المعجم، ولكن بحالات ومشاهدات جديدة متجددة، وبخصوص فعل هذه الكتابة الحيوية يقول الاحتفالي ( إذا كنت سأكتب كما يكتب أي كاتب آخر، فإنه لا داعي لأن أكتب) (14)

ويقول شخص الكاتب الاحتفالي 2 في كتاب ( الرحلة البرشيدية) (أنا معارض وجودي، ومعارضتي ليس لها حد، وليس لها أفق، وليس لها قصد، غير أن تكون ضد الفوضى طبعا، الفوضى التي قد تكون في الطباع، أو في الأفكار، أو في الأشياء، أو في العلاقات، أو في المؤسسات، أو في الكتابات، أو في النفوس، كما أنني ضد القبح أيضا، وضد الزيف، وضد الدجل، وضد الاحتيال، وضد النقص، وضد النشاز، وضد الغياب، وضد المرض، وضد الفقر، وضد الجهل، وضد الظلمة، وضد الظلم، وضد العقول المعتقلة، وضد العيون العوراء، وضد الآذان الصماء، وضد الألسنة الخرساء، وضد الوجوه المقنعة .. وما حيلتي إذا وجدت هذه الفوضى في بعض الناس، ووجدت معارضتي تلحقهم، مع أنها ـ وحق كتاب الله ـ لا تقصدهم، فأنا لا تعنيني إلا المعاني) (15)

 

بأية عين يرى الاحتفالي عالمه الداخلي؟   

 هذا الاحتفالي الكاتب هو الذي قال “لقد كتبت، ليس بقلم العالم ولكن بريشة العاشق المتيم، وفي هذا المكتوب ذبت وانصهرت وتعددت وتجددت وتضاعفت وأقمت ورحلت وتطهرت واشتعلت واحترقت وأضأت وغبت وحضرت واختفيت وحللت في جسد الكلمات حلول الصرفي في ذات عشقه ومعشوقه” (16)

وهل كل ما أراده هذا الكاتب ـ المبدع الاحتفالي وجده؟

وهل كل ما سعى إليه وصل إليه وأدركه؟

وما الذي تحقق في هذه الاحتفالية وما الذي مازال ينتظر أن يتحقق؟

وهل الكتابة الاحتفالية ترجمة صادقة ,وأمينة للرؤية الاحتفالية؟

وأين يتجلى صدق هذه الترجمة؟ في مطابقة المفكر فيه لحال المكتوب ولحال المعيش اليومي للاحتفاليين؟

في الجواب عن هذه التساؤلات يقول الاحتفالي، وذلك في واحد من كتبه ( لقد قلت لهذا الكتاب كن، فكان، لا أكما أمرت وأردت أنا، ولكن كما شاءت الكتابة. حقا لقد خالفتني الكلمات، وتمردت علي العبارات، في كثير من الحالات، ولكنها لم تخالف الحقيقة، وأنكرتني وتنكرت لي، ولكنها ظلت مخلصة ووفية لروح الكتابة ولجوهر المعرفة ولحقيقة الفن والحياة، وذلك أقصى ما يمكن أن يبتغيه ويرتضيه مجنون وعاشق وشاعر؛ مجنون يعشق الكلمات ومفتون بالصور والمعاني والخيالات ) (17)

مما يدل على أن الصدق هو العنوان الأبرز في الكتابة الاحتفالية، وفي الإبداعات الاحتفالية، وفي المواقف السياسية والفكرية والأخلاقية الاحتفالية

 

ما يكتبه الكاتب وما يقرأه القارئ

يقول الاحتفالي، بخصوص هذه الكتابة الاحتفالية ( الناقصة ) دائما، والعاشقة للكمال والاكتمال دائما ( أنا الكاتب كتبت، وكان على القارئ أن يقرأ، وكان على الناقد أن يقرأ أيضا، وفي كتاباتنا الاحتفالية آراء وأفكار وصور وحالات وشطحات ومواقف واختيارات وأشياء أخرى كثيرة، أدرك أنها موجودة، ولكنني لا أاستطيع أن أسميها، ولقد كان على النقد المسرحي أن يفعل هذا، لأن هذا دوره، ولكنه لم يفعل، وظل يشكو النص المكتوب، ويراه كتابة عالمة، ويتهمه بالصعوبة وبالغموض وبأنه نخبوي، وبأنه سماوي)  (18)

نبوءات الاحتفالية، هو عنوان فرعي في كتاب ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ) لعبد السلام لحيابي، وفيه يحضر السؤال التالي ( تنبأت الاحتفالية بسقوط جدار برلين، على أي شيء استندت في هذه النبوءة؟) (19)

ولم يكن الأمر يتعلق بسقوط  جدار يفصل بين الناس الأحياء، ولكن بسقوط  منظومة فكرية وأيديولوجية ظالمة، والتي هي المنظومة الشيوعية، والتي أقامت نظاما سياسيا يعادي إنسانية الإنسان، ويخاصم حيوية الحياة، ولا يتوافق مع مدنية المدينة، ولا يلبي حاجة الإنسان للتعبير الحر، للكائن الإنساني الحر، وذلك  في المجتمع الحر، وفي الفضاء المدني الحر، وفي كلمة واحدة، لقد سقط هذا النظام لأنه غير احتفالي

هذه الاحتفالية، في فعلها الصادق والبريء والشفاف، وفي زمانها الذي أبدعها وأبدعت فيه، شيء غير قليل من النقد غير البريء، وقد يصل كثير من هذا لنقد إلى درجة الهجاء، وكل هذا لأن النقد فعل سهل جدا، وأنه لا شيء أسهل منه عند الذين لا يحسنون شيئا إلا الكلام، وتحديا الكلام الذي يهرب من المعنى، أو الذي يهرّب المعنى عبر الحدود بين الحق والباطل وبين الجمال والقبح، ولهذه الاحتفالية ( الآثمة) قصة طويلة جدا مع الذين لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب، والذين يقولون ويكتبون بأن هذه الاحتفالية سيئة، وأنها لا شيء، ومتى كان اللاشيء يثير كل هذا الغضب ؟  وهم في أحكامهم العامة لا يعرفون ولا يحددون ما السيئ فيها تحديدا، ومتى كانت الدعوة إلى الإنسانية وإلى  الحياة والحيوية وإلى المدنية وإلى الجمال وإلى الكمال وإلى التلاقي وإلى الفرح شيئا سيئا؟

وهم بهذا مثل كل الناس الذين ينتقدون القدر أو ينتقدون هذا الزمن الذي أتى بهم إلى الوجود، وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي

نعـيب زماننا والعيب فـيـنا           وما لزماننا عيـب سـوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب         ولو نطق الزمان لنا هجانا

وهل يصح أن نقول بأن ذنب هذه الاحتفالية الأيقونة، هو الأداء المسرحي الاحتفالي، القائم على العفوية والتلقائية وعلى الصدق والبساطة والشفافية، وقد يكون ذنبها أو جريمتها هو فقط وجودها، وتحديدا، هو وجودها الخطأ، في الزمن الخطأ، وفي السياق الخطأ، ومع المتلقين أو المتلاقين الخطأ، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي بأن هذه الاحتفالية قد جاءت فعلا ( خارج الزمان، أو أنها جاءت قبله، وأنها أسست منظومتها الفكرية والجمالية ضدا على إكراهات الواقع، وضدا على سلطته وسلطانه، وضدا على مجريات الواقع، وبهذا فقد أسست ثقافة الاختلاف، أو ساهمت في إعادة تأسيسها، وكان ذلك انطلاقا من كلمتها ـ المبدأ ( خالف تعرف) (20)

واحد من النقاد قال نعيب الاحتفالية والعيب فينا، هي أعطت ما أعطت، وكان علينا أن نقرأ ما أعطت، وأن نصحح الخطأ فيها، وأن نكمل الناقص فيها، وأن نجدد القديم فيها، وأن ننطق الساكت فيها، وأن نوضح الغامض فيها، ولكننا لم فعل، واكتفينا بالكلام العام، والذي قد يظهر بأنه يقول شيئا، مع أنه لا يفيد ولا يعني أي شيء

 

النقد ين القراءة العاشقة والتحكم

 إن هذه الاحتفالية لا تؤمن إلا بالناقد المبدع والشاعر والفنان والحكيم، أما الناقد المحترف، والحاكم والمتحكم والمتهم، فإننا نجد الاحتفالي يقول فيه ( إن الاحتفالية لا تؤمن بالناقد المحترف، والذي لا يعرف إلا النقد، وهي لا تعترف إلا بفعل الكتابة الحي والتلقائي،  والذي هو الوجه الثاني لفعل الحياة، وكما أن الأساس في المسرح المسرحي أن يغير الممثل أدواره وأزياءه وأسماءه وأقنعته دائما، فكذلك الأمر بالنسبة ( للممثل) في فضاء الكتابة الإبداعية، حيث يمكن أن نتوقع منه كل شيء، وأن يكون دائما في مستوى أن يلعب أي دور، كيفما كانت طبيعته وكان حجمه وخطورته، لأن الأساس هو أن يعرف أن مملكة الكتابة هي مملكة الإبداع، وأن الإبداع حرية، وأن بقاء الناقد تحت رحمة قيود النقد، وبقاء المبدع في جلد المبدع، أو قناعه، لا يمكن أن يكون إلا عبودية غير معلنة) (21)

لقد أمنت هذه الاحتفالية، منذ بيانها التأسيسي الأول ب ( التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وأكدت على أن العالم يتجدد، والمسرحية الاحتفالية أيضا، فهذه الاحتفالية إذن، سواء في مسرحها أو في فكرها أو في علمها، وبخلاف كل تجارب التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث، لا تطلب الجديد لذاته، وفقط، لأنه جديد، خصوصا إذا كان هذا الجديد المفترض لا يقول شيئا، ولا يضيف شيئا، وبالنسبة للاحتفالية أيضا، فإن الجديد وحده ـ وفي أي عمل أدبي أو فني أو فكري ـ لا يمكن أن يشكل قيمة ما، وقد يكون مجرد حالة عابرة وطائرة، أو يكون مجرد أزياء وأقنعة برانية، أو يكون مجرد أضواء وظلال مبهرة، وقد يكون مجرد حيل تقنية خادعة، وقد يكون مجرد تقنيات وآليات تخاطب العين وحجها ولا تخاطب العقل، والأساس في الاحتفالية هو أن تبحث عن الحقيقي الصادق دائما، وليس عن الجديد الخادع والمزيف، والمسرح لديها ليس بهلوانيات، وليس استعراضا لتقنيات،ولي عرضا للأزياء، ولكنه خطاب فكري قبل كل شيء.

وبالنسبة للاحتفالية فإن الجديد هو بالأساس  مجرد رؤية أخرى؛ رؤية لنفس الشيء، أو هو قراءة أخرى لنفس المكتوب، ولنفس المشهد، والجديد بهذا المعنى ( لا يعني الخلق، ولكنه يعني التحول؛ تحول الأشياء القديمة وتغيرها وانقلابها، وبذلك يكتسب حالة جديدة وحالة مغايرة ووظيفة مختلفة، تلك إذن هي حال الاحتفالية، فهي لا تشكل بداية الخلق ـ انطلاقا من درجة الصفر ـ ولكنها تشكل الاستمرار والامتداد.. امتداد نفس فعل العطاء الفكري والفني، ولكن بشكل مغاير ومختلف) (22)

إن أهم ما يميز المسرحيات الاحتفالية هو أن الغائب فيها أخطر من الحاضر، والخفي أبلغ من الظاهر، والغامض فيها أصدق من الواضح، وهي بهذا ( مسرحيات مركبة يتداخل فيها المحسوس والمتخيل، ويتقاطع فيها الواقعي بالتاريخي، وتتعايش فيها الأزمنة والأمكنة، وتؤثثها الحالات والانفعالات الغامضة والمبهمة، وكل ذلك بشكل غير مدرسي مألوف ومعروف، وهي منكتبة كتابة حيوية متدفقة، وهي ناطقة بلغة فردوسية متعالية، وهي جادة لحد السخرية، وساخرة لحد الجدية، وهي واقعية ورمزية وتاريخية وأسطورية وشاعرية، وبكلمة واحدة، هي كتابة احتفالية …وإلى جانب كل ذلك فهي كتابة منحازة إلى القيم الإنسانية ) (23)

ولأن هذه المسرحية لها بنيتها الخاصة، ولها فلسفتها الخاصة، ولها لغاتها الخاصة، فقد كان ضروريا أن نتوقف أمامها، وأن نتساءل: كيف تنكتب هذه المسرحية ـ المسرحيات الاحتفالية؟ وهل هي انعكاس إلي ما في هذا الواقع من وقائع، أم لما في روح المبدع الاحتفالي من حالات ومن خيالات ومن اقتراحات ومن اختيارات، ولما في فكره من معاني وأفكر؟ وبأية آلية، وبأية تقنية، وبأية منهجية؟ كل هذه الأسئلة، وغيرها كثير، هي لتي يمكن أن يجيب عنها الكتاب المخصص للمسرح الاحتفالي في هذا الديوان الاحتفالي الكبير وهذه الاحتفالية، وخصوصا في بداياتها الأولى، أي بين سنة 1976 وسنة 1979 لم يذهب بها حماس لحظة التأسيس إلى إنكار ما سبقها من تجارب ومن اجتهادات مسرحية كثيرة، وقد أشارت إلى هذا في البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي بمدينة مراكش، والذي قالت فيه ( لقد حقق المسرح العربي تراكمات لا بأس بها من ناحية الكم وأن ما نريده اليوم ليس إضافة أعمال مسرحية جديدة، ولكن خلق مسرح جديد) (24)

وهي بهذا لم تبشر بالجديد، فقط لأنه جديد، كما أنها لم تخاصم القديم، فقط لأنه قديم، وهي لم تزعم البدء من الصفر، أو من الفراغ، أو من الخواء، ولم تدع القطع مع كل مظاهر وظواهر العلم السابق، ولا زعمت البدء من حيث انتهت كل التيارات المسرحية الأخرى، خصوصا في العالم العربي، ويرجع كل هذا إلى قناعتها المبدئية لا وجود لشيء يمكن أن يسمى الجديد الخالص، وعليه، فقد نظرت إلى (القديم) بعين أخرى جديدة، وتحسسته  بحس جديد، وأدركته وفهمته بوعي متجدد، ولأنها تعتبر أن كل شيء ـ في حينه وفي سياقه ـ هو شيء جديد بالضرورة، فقد حاولت دائما أن تمسح الغبار عن ذلك الجديد الذي كان، وأن تعيد له لمعانه، وأن تعيد له جدته الضائعة أو المضيعة، وأن تمنعه من أن يلحقه القدم، وأن يلفه النسيان، كما أنها جددت عينها التي ترى بها، وجددت زاوية الرؤية، وجددت وعيها بالناس والأشياء وبالكلمات والعبارات، وجددت أدوات اشتغالها في العلم وفي الفن والفكر وفي الآداب وفي الصناعة المسرحية، وهي في هذا التجديد تواصل الاعتراف بالجميل وبالنبيل في هذا القديم.

 

موقع الاحتفالي في شجرة الاحتفالية      

ويسألونك عن شخص الاحتفالي الحقيقي من يكون، وأين يكون، ومع من يكون، وكيف يمكن أن يكون، جسدا وروحا وصورة وسلوكا وأخلاقا وعقلية؟

هل هو كل من قال أو كتب أو ادعى بأنه احتفالي، يمكن أن يكون احتفاليا بشكل حقيقي؟

وهل يكفي أن يختار أي شخص منا أن يكون احتفاليا، حتى يصير احتفاليا في رمشة عين، وبصفر مجهود وبصفر إبداع فكري أو جمالي؟

وهل يكفي أن نختار هذه الاحتفالية بالنية فقط، من غير أن يكون هذا الاختيار متبادلا ومقسما، وأن تختارنا هذه الاحتفالية هي أيضا، وأن تبادلنا حبا بحب، وبغير هذا، فسيكون الأمر متعلقا بحب من جانب واحد، وعليه، فإنه لا يكفي أن يقول القائل ( أنا احتفالي) والصحيح هو أن تشهد له الاحتفالية باحتفاليته، وأن تقول له ( أنت احتفالي)

وهذه الاحتفالية، وبخلاف ما يظن كثير من النقاد، لا يمكن اختزالها ولا تجسدها في شخص واحد من الأشخاص، فهي أساسا شجرة فكرية وجمالية وأخلاقية عالية جدا، وطموحها هو أن تصبح غابة أشجار،  والأصل في شجرة هذه الاحتفالية، هو أنها جزء من شجرة الحياة، ومن شجرة الوجود، وذلك في كليتها وشموليتها، وفي كل حالاتها ومقاماتها وأبعادها ومستوياتها المتعددة والمتنوعة، والغائب في هذه الشجرة أجمل من الحاضر فيها بكل تأكيد، والغائب الخفي في ضميرها أكبر و أخطر من المعلن ومن الظاهر ومن الحاضر، والممكن والمحتمل الوجود فيها أوسع وأرحب من الموجود الكائن، والأساس في شجرة هذه الاحتفالية هو أنها  جذور مدفونة في أعمق أعماق الأرض، وفي تربتها الثقافية، ومدفونة في أعمق أعماق النفوس والعقول والأرواح الحية، وأنها جذع واحد وفروع وأغصان وأوراق وثمار متعددة وممتدة في السماء

عندما يريد شخص من الأشخاص دواء ما، فإنه يذهب إلى الصيدلي، وعندما يسأل السائل عن الاحتفالية، عند من يذهب؟ هل يذهب إلى ( دكان) الاحتفالي؟ ويطلب منه علبة معرفة، وهل يصح أن نطلب المعرفة من هذا الاحتفالي، والذي هو ـ نفسه ـ مجرد طالب فقط؟ هو طالب معرفة وطالب فرح وطالب حق وطالب حقيقية وطالب جمال وطالب كمال وطالب حياة وطالب حيوية

وبعكس ما قد يعتقد كثير من النقاد ومن الباحثين، فإن شخص الاحتفالي ليس هو الاحتفالية بالضرورة، أي كل الاحتفالية، وذلك في المطلق من الزمان والمكان، وما هذا الاحتفالي ـ في حقيقته ـ غير إنسان عاشق لاحتفالية واحدة من الاحتفاليات الكثيرة والمتنوعة، والتي ليس لها عد ولا حصر، وبهذا يكون لكل حقبة تاريخية احتفاليتها الخاصة، ويكون لكل جيل احتفاليته الجديدة، ويكون لكل فنان مفكر احتفاليته التي تشبهه ويشبهها، ولقد سبق وقال الاحتفالي مع محمد عبد الوهاب ( كلنا نحب القمر، والقمر يحب مين؟)

وعليه، فليس كل من يدعي أنه فيلسوف هو فيلسوف بالضرورة، وليس كل من يتخيل أنه شاعر هو شاعر أيضا، وليس كل من يتخيل أنه احتفالي، في مسرحه، هو احتفالي بشكل حقيقي، وقد يكون ما يتخيله احتفالية هو شيء آخر، وهو لا يدري، وبهذا تكون الاحتفالية الحقيقية موجودة في أرواح الاحتفاليين الحقيقيين، وليس فقط في أقوالهم، وموجودة أيضا في عقولهم المفكرة، وفي شبكة علاقاتهم الإنسانية الجميلة والنبيلة

وهذه الاحتفالية، لا يمكن أن تجد نفسها وحقيقتها إلا في الاحتفاليين الحقيقيين، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( إن أقصى درجات الاحتفالية، هي أن تبلغ الأفكار المجردة فيها درجة التجسدن، وأن تصل في حركيّتها عتبة التشخصن البشري، وان تتلبسها الأجساد الحية، وأن تحياها الأرواح العاشقة، وأن تكون لها أسماء تشير إليها، وأن تكون لها ملامح مميزة تعرف بها، وأن تكون لها آثار تدل عليها، وأن تعثر الأفكار فيها على معادلها المادي والموضوعي، والذي يتمثل أساسا في الأصوات والكلمات، وفي الأشكال والألوان، وفي الأزياء والأقنعة، وفي الحركات والوقفات، وفي الإيماءات والإشارات، وفي الأضواء والظلال) (25 ) .

وقد يكون هناك من يرى بأن الاحتفالية توجد في كتابات الاحتفاليين، وقد يرى آخرون بأنها موجودة في إبداعاتهم المسرحية، مع أنها حالة وجودية موجودة في الوجود، وموجودة في الحياة، وموجودة في التاريخ، وموجودة في العلاقات الإنسانية الجميلة، وقبل كل هذا، فهي فيض الحياة الاحتفالية، وهي موجودة في درجة الصدق والشفافية والصفاء الوجداني والروحي، وأن ( يؤثثها سلوك عاقل، وأن يقيم بها إحساس شاعر وعالم، وأن يواكبها تأمل صادق وحكيم ، وأن يكون هذا السلوك إنسانيا في المقام الأول، وأن يكون مدنيا وحيويا وعيديا وعبقريا ومقتسما مع الآخرين) (26)

إن التفكير الاحتفالي هو فيض العيش الاحتفالي اليومي، أما فنونه الجميلة فهي ظلاله الملونة بكل ألوان الطيف وبكل أصباغ الوجود والحياة

وفي هذا المعنى يقول الحكواتي في مسرحية ( شكوى المهرج الحكيم) وهو يحاول أن يروض الحروف، وكأنه مروض أسود في حلبة سيرك، يقول ( وأعترف بأنني لست مروض أسود ولا حتى مروض قطط أو مروض أرانب أو مروض فئران .. وأكون سعيدا لو أنني استطيع أن أكون مروض نفسي، وأن أروض هذه اللغة التي لا تسعفني دائما، وأن أروض فني الحقيقي، والذي هو فن القول الجميل وفن الحكي النبيل.. يا الله.. لو أستطيع أن أكون كما أشاء، وأن أجعل الحروف والكلمات والعبارات طيعة على لساني، وأن أجعل الأسماء والأشياء طيعة بين يدي  ورغم أن هذا السوط  بيدي، فإنني أخافها، وحق الله إنني أخافها .. أخاف الكلمات الوحشية، وأخشى أن تفترسني الصور المرعبة، وأن تدمرني الأفكار المدمرة .. لهذا فإنني أحاول أن ألعب معها لعبة الأسود ومروض الأسود  ..هي لعبة ألعبها أو تلعبني .. لست أدري) (27)

هي أخت البحر إذن، في اتساعها وفي عمقها وفي غموضها وفي غناها وفي سحرها وفي ملوحة مياهها، وماؤها بهذا مالح، وهذا ما يفسر أن يظل الاحتفاليون فيها يشربون ماءها، ولا يرتوون، ويسافرون فيها ولا يصلون، ويبحثون ويجتهدون ولا يجدون إلا عشقهم للمعرفة والحكمة وجوابا عن السؤال التالي،  ( وما الاحتفالية ؟ والذي  ورد في كتاب ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) ) للكاتب العراقي عبد الرزاق الربيعي  يقول الاحتفالي:

( يمكنني أن أحدثك عن الأفكار الاحتفالية وعن الرؤية الاحتفالية وعن الاختيارات الاحتفالية وعن الإبداعات الاحتفالية، ولكن ـ بالتأـكيد ـ لا يمكن أن أحدثك عن روح هذه الاحتفالية، والتي هي سر من الأسرار الإلهية، وسأقول لك ما قال الله تعالى ( قل الروح من أمر ربي)  وروح الاحتفالية هو بالتأكيد من الأسرار السحرية، ولولا هذا السحر الرباني، فهل كان ممكنا لهذه الاحتفالية أن تحوز القبول، وأن تكون بهذه الجاذبية، وأن تشغل البلاد والعباد على امتداد ما يقارب نصف قرن؟

ولعل أخطر ما في هذه الاحتفالية هو هذا الجانب السري فيها، والذي أعطاها حياتها وحيويتها، وأعطاها سحرها، وبغير  هذا الجانب الغامض فيها، ما كان ممكنا لهذه الاحتفالية أن تحيا، وأن تملأ الدنيا، وأن تشغل الناس، وأن يستمر مفعول هذا السحر في النفوس وفي العقول والأرواح كل هذا الزمن) (28)

 

يسألونك عن الإخراج الاحتفالي

يسألونك عن الإخراج الاحتفالي، كيف يكون، وكيف يمكن أن يكون، وما هي مكونات وعناصر ومفردات هذا الإخراج؟ ويتردد سؤالهم هذا بأكثر من صيغة واحدة، ونيابة عن كل الاحتفاليين، فإنني أسمح لنفسي بأن أقول ما يلي:

وأنا الكتب المخرج سأكون صادقا لو قلت لكم بأن هذا الإخراج لا أعرفه، وبأنه لا أحد غيري يمكن أن يعرفه، لماذا؟ لأنه ـ في معناه الحقيقي ـ فيض ثقافة وفيض وجود وفيض مناخ وفيض حياة وفيض معايشات ومشاهدات وفيض خبرات، وأنه أساسا روح فاعله ومتفاعلة ومنفعلة، وأنه بهذا روح لحظته، وروح ثقافته، وروح لغته، وروح مناخه، وروح مكوناته، ومن يمكن أن يدرك روح الناس، ويدرك روح الأشياء، غير رب الناس ورب كل الأشياء، في عالم لناس والأشياء؟

وقبل كل هذا، فإنني، أنا الاحتفالي، الباحث عن نفسه وعن حقيقته وعن فكره وفنه وعلمه، أشك في وجود  شيء من الأشياء و في وجود فعل من الأفعال، وفي وجود بنية خاصة من البنيات الفنية المتكاملة يمكن أن تسمى الإخراج الاحتفالي، بنية تامة وكاملة ـ شكلا ومضمونا ـ لها قواعد ولها ضوابط ولها حدود محددة ولها تعليمات وترتيبات محددة، ولها خصوصيات، ولها أولويات، ولها لزوميات لا يمكن القفز عليها، وهذا الإخراج إذن، هو مجرد فعل موجود في اللا وجود، وهو حاضر دائما في عالم الغيب، وهو فعل شعري تأتيه أجساد وأرواح خاصة في حالات ومقامات وجودية خاصة، وبهذا يكون فعلا شبيها بما كان يأتيه شعراء الجاهلية، والذين كان يأتيهم شعرهم العجيب والعجائبي من وادي عبقر

وقبل كل هذا، فهل هناك شيء محدد بحدود، يمكن أن نعرفه، وأن نعرف به في هذا الفعل الخارق، وأن نقول عنه ( هذا هو الإخراج المسرحي) وأن كل شيء غيره لا يشبهه ليس بإخراج، وأن كل من يأتي بغيره، فإنه لن يقبل منه، وأن كل ما يخالف حدوده وتعاليمه و( قواعده) فلن يكون منه، ولا من آله وصحبه، ويبقى أن الجميع، في هذا الكون المسرحي، يمارس هذا الفعل الذي نسميه الإخراج، من غير أن نطرح السؤال التالي على أنفسنا: وما الإخراج المسرحي؟ وإخراج ماذا من ماذا؟

هل هو الشيمياء السحرية، أي إخراج التبر من التراب؟

هل هو ترجمة النص المكتوب من لغة الأدب إلى لغات الفن والصناعة؟

هل هو الانتقال من كتابة كاليغرفية تمت في الماضي إلى كتابة جسدية ومشهدية يمكن أن تتم الآن هنا؟

وهل هو الانتقال من قراءة هذا النص قراءة فردية إلى قراءة أخرى جماعية، وأن تتم هذه القراءة (الكورالية) تحت إدارة مايسترو ينسق بين مكونات الاحتفال، ويضبط إيقاعه، وأن يكون اسمه   المخرج؟

هبل هو قراءة هذا النص، في ممكناته الخفية والغائبة، وليس في كائنه الظاهر والظاهر؟ وذلك بعد تأويله وشرحه وتفعيله وتحيينه وإضافة محسنات بلاغية إلى تركيبته اللغوية الأصلية؟

وأعترف، بأنه، في فقه الاحتفالية وفي فكرها وعلمها، فإنه لا وجود لحقائق معرفية وجمالية مطلقة ومغلقة على نفسها، ولا وجود لتعريفات مدرسية جاهزة، ولا وجود ليقينيات ثابتة، ولا وجود لنماذج إخراجية متكررة، يمكن أن تقترحها على يمارسون فعل الإخراج، وهي تؤكد دائما على أن الأساس في فعل الإخراج هو أنه فعل سحري غامض ومبهم، وأنه فعل مستقبلي مفتوح في وجه كل المكنات والاحتمالات، وبهذا فهو مخاطرة فكرية وجمالية، وهو مرتبط أساسا بتجربة وجودية لها وجود في المستقبل الآتي، وبهذا فهي لا تحدد للإخراج معنى واحدا موحدا، وعليه، فهي لا تقول للمخرج افعل هذا ولا تفعل ذاك، ولا تصادر حريته، ولا تضيق الخناق على خياله، وهي بهذا لا تضع لفعل الإخراج قواعد ثابتة، ولا تحيطه بالممنوعات والمحرمات، وبالنسبة للاحتفالي الحقيقي، فإن الإخراج الحقيقي لا يكون إلا في الإبداع المسرحي الحقيقي، أي في رؤيته الجمالية العابرة للحدود، المادية والرمزية، وفي لمسته الجمالية العابرة لكل الفنون والآداب، وفي حسه الدقيق بالكلمات والعبارات وبالحركات والإشارات، والذي تعطينا مسرحيته عالما رمزيا إضافيا لهذا العالم الطبيعي والواقعي، وعليه، فإن الإبداع المسرحي الكبير والغني لا يمكن أن تؤسسه إلا النفوس والأرواح الكبيرة والغنية، وحيثما يوجد هذا الإبداع ـ جسديا وحركيا، وصوتا وصورة، ولو أن هذه الاحتفالية اقترحت نموذجا إخراجيا محدد، لأصبح اليوم ، بعد خمسة عقود من الوجود، نموذجا متجاوزا، وكل فعل إبداعي لا يسابق الزمن، ولا يتحدى اليومي، ولا يكون حلما جماعيا، بأعين مفتوحة، فإنه لا يمكن أن تكون له علاقة حقيقية بالاحتفالية الحقيقية

وفي الاحتفالية، فإن النص المكتوب، بالنسبة للمخرج المسرحي، هو مثل الثوب بالنسبة للخياط، فهل رأيتم خياطا يخيط الفراغ والخواء؟ ويخطئ من يظن النص المسرحي هو مجرد عنصر من بين عناصر أخرى في الإخراج المسرحي، مثله مثل الديكور والأزياء والإضاءة والملحقات المسرحية، لأن الأصل في هذا النص أنه كائن حي، وأنه يختزن ويختزل الحياة داخله، وهو الذي يحدد حالات الاحتفال ويحدد طبيعة المواقف، ويحدد طبيعة الشخصيات، ويحدد الجو العام للمسرحية، وهذا النص المؤسس هو الذي يختار تقنياته أيضا، وهو الذي يجعل لها وظيفتها داخل المسرحية، ومن الممكن أن تكون مدهشة، ولكنها أبدا لا يعقل أن تكون مبهرة، وأن يكون إبهارها ظرفيا ولحظيا، وأن تكون استعراضية، بدل أن تكون معبرة وناطقة، وأن يكون لها معنى، نفس الشيء تقوله الاحتفالية عن الأزياء المسرحية، والتي ينبغي ألا تكون قيمتها أكبر وأخطر من قيمة الممثل الإنسان، وإلا أصبح العرض المسرحي مجرد عرض للأزياء، ونعرف أن كثيرا من العروض التجريبية هي مجرد استعراض للآليات والتقنيات والمهارات، وحيثما يكون العرض والاستعراض، فإنه لا يمكن أن يكون الاحتفال المسرحي الحقيقي

وبخصوص هذا (الإخراج) المسرحي الحقيقي، فإنه لا يمكن أن يوجد إلا في الإبداع المسرحي الحقيقي، أي الإبداع الصادق والصاعق والناطق بالحق والحقيقة، بكل تأكيد، وفي هذا المعنى يقول مؤلف احتفالي لمخرج احتفالي هو د يوسف الريحاني، في تلك الرسالة المطولة التي أصبحت كتابا، يقول ( إن الإخراج الاحتفالي هو إخراج حيوي ينكتب بشكل تلقائي وعيدي، ولعل أهم ما في هذا الإخراج هو التجربة الحية، وأن أهم ما في هذه التجربة هو صدقها ومصداقيتها، وهو طاقتها الإبداعية الخلاقة، والكامنة أساسا فيها، وهو حريتها التي لا تخضع للتعليمات المدرسية، أو للإملاءات السياسية  أو الدينية أو الأخلاقية المختلفة) (29)

وهذا الإخراج الاحتفالي، في حال وجوده، فإنه لا يمكن أن يكون موجودا في الجزئيات وفي التفاصيل الواقعية العابرة وحدها، ولكن في الاختيارات الفكرية والجمالية والأخلاقية الكبرى، أي في الرؤية للعالم أولا، وفي الموقف الإنساني والكوني مما يحدث ويقع في هذا العالم ثانيا، وفي الحالة العيدية التي يتضمنها الفعل الإخراجي ثالثا، والتي هي أساسا طقس قبل كل شيء، وهي مناخ، وهي إيقاع، وهي غلاف جوي يعيش فيه وبه ضيوف الاحتفال المسرحي ساعة من الزمن، ساعة واحدة قد تعادل تاريخ البشرية كلها، وهو لغات مسرحية استثنائية أيضا، والتي هي لغات متعددة ومتضامنة ومتكاملة ومتناغمة ومتحاورة فيما بينها، ولعل أهم ما يميز هذه اللغات الاحتفالية هو غناها، والذي قد يصل حد البذخ، وهي لغات لها معجمها الاحتفالي الخاص، ولها أبجديتها الخاصة، ولها مفرداتها الخاصة، والتي تخاطب في الإنسان كل حواسه وملكاته، الظاهرة والخفية، والكائنة والممكنة

وحيثما أدرك الاحتفال درجة العلو والسمو والإقناع والإمتاع، فهو بالتأكيد إخراج احتفالي، وكل أخراج يحول المتعة البصرية الحسية إلى متعة فكرية ووجدانية فهو إخراج احتفالي، وكل إخراج يضيء المكان المسرحي وحده ولا يضيء النفوس ولأرواح فإنه لا يمكن أن يكون إخراجا احتفاليا

والإخراج الاحتفالي، إن كان له وجود حقيقي، فإنه لا يمكن أن يكون إلا في سلم أولوياته واختياراته، والتي يأتي على رأسها أسبقية الإنسان الحي وأسبقية الفعل الحيوي ( الكاتب من خلال نصه والممثل والممثلة من خلال إبداعهما الحي والجمهور من خلاله مشاركته ونفاعله) وذلك على الآلة وعلى الآليات والتقنيات، وأيضا أسبقية الحيوي المعيش؛ الآن ـ هنا على المحكي والمصور، وأسبقية الأجساد الحية المتحركة، بفعل طاقتها الوجدانية والروحية المتجددة، وذاك على الآليات والتقنيات المادية، وأسبقية الكتابة أيضا، باقتراحاتها وشخصياتها وأحداثها على المكونات التقنية، لأن ( التقنيات، سواء في الإبداع الأدبي أو الفني، لا يمكن أن تكون مطلوبة لذاتها، وإذا لم توضح الرؤية الإخراجية ، وأن تكون في خدمتها، وإذا لم تجسدها، بشكل حقيقي، فإنها لابد أن تكون مجرد ثرثرة، وأن تكون تقنيات بلا معنى، وأن تكون مشابهة لتقنيات الأندية الليلية، أو تقنيات المنوعات، وأن تكون مبهرة حقا، ولكن من غير أن تقول شيئا) (30)

 

والمخرج الاحتفالي من هو؟ ومن يكون؟

إن المخرج الاحتفالي هو الإنسان الذي له عين ترى، والذي ينطلق في علاقته بمن وبما حوله من قناعة أساسية صادقة، وهي أن كل ما تراه هذه العين ليس حقيقيا كله بالضرورة، وفي هذا المعنى يقول الغزالي في (مشكاة الأنوار) (اعلم بأن عين البصر تتهاوى في عدد من النواقض؛ فهي ترى الآخرين ولا ترى نفسها، ثم هي لا ترى ما هو بعيد عنها، كما أنها لا ترى ما خفي خلف الحجاب، وترى ظاهر الأشياء، وليس باطنها، ترى بعضا من الكائنات وليس جميعها، ترى ما هو محدود وتخطئ عادة في تمييزها، معتقدة صغيرا ما هو كبير وقريبا ما هو بعيد ومتحركا ما هو ساكن والعكس بالعكس)

والأساس في المخرج ـ بصفة عامة ـ هو ( أن يكون عالما وأديبا، وأن يكون فنانا وحكيما، وأن يكون مؤرخا وجغرافيا، وأن يكون مخترعا ومكتشفا، وأن يكون قارات منيبة أو مجهولة، سواء في ذاته أو في ذوات الآخرين، او في الكون، وأن يكون بانيا ومؤسسا أيضا، وأن يكون عرافا وعارفا، وأن يكون صاحب رؤية، وصاحب فكرة، وصاحب طريق وطريقة، وأن يكون صاحب حالة وصاحب موقف، وصاحب ذوق، وصاحب ذاكرة حية، وصاحب خيال، وأن يكون صاحب ( كرامات) إبداعية، وصاحب فتوحات معرفية وجمالية، وأن يكون صاحب إشراقات فكرية وصوفية ) (31)

والمخرج الاحتفالي، بشكل خاص، هو مخرج يحسن فعل القراءة، وهو بهذا قارئ جيد، يقرأ ما في نفسه وما في وجدانه وما في روحه وما في ذاكرته وما في مخيلته وما في محيطه ، وهو يقرأ ألواح الغيب وألواح التاريخ وألواح الواقع أيضا، ويقرأ الظاهر الخفي والكائن والممكن، وقبل أن يعيد كتابة هذا الواقع، بكل أبعاده التاريخية والجغرافية والأسطورية، فإنه يبدأ فعل الكتابة المشهدية بالقراءة، وفي هذا المعنى يقول المخرج في ( الرحلة البرشيدية)

(إنني أبدأ بالقراءة، وأعرف أن الأساس هو القراءة، وأحرص على أن تكون قراءاتي متعددة ومتنوعة، وأن تمنحني هذه القراءات مجالا واسعا لأن أختار، وأن أعثر على نصي بين النصوص، وأن أجد مؤلفي بين المؤلفين، وأن أؤسس عالمي بين العوالم، وأن أجد لغتي بين اللغات، وأن أعثر على خطابي بين الخطابات، وأن أبني فلسفة حياتي وحياة فلسفي بين الفلسفات.. إنني أبحث عن نص قال كاتبه نصف المعنى فيه، وعلي أن أجد أنا النصف الثاني من المعنى) (32)

هذا المخرج قد يكون حكواتيا، وقد يكون مؤرخا، وقد يكون مترجما، وأن تنحصر مهمته في أن ينقل المكتوب بلغة الكلام على الأوراق إلى المكتوب بلغة الصور في الفراغ، وللصور خطورتها بكل تأكيد، و قد يراه البعض ساحرا، وقد يراه البعض الآخر كيميائيا، وأن عمله هو خلط العناصر المادية والرمزية والواقعية والحلمية والواقعية والأسطورية واليومية والتاريخية والمحسوسة والمتخيلة، من أجل تركيب عالم مسرحي احتفالي مركب؛ عالم يجوز فيه ما لا يجوز في العالم الواقعي، ولا يكون لفعل التناقض فيه أي معنى، لأنه عالم قائم على زواج العناصر المختلفة، والتي قد تبدي متناقضة ولكنها متكاملة،

وبالنسبة الاحتفالي، فإن   (أخطر كل الصور ..هي تلك التي لها ظلال، ولها خلفية، ولها صوت وصدى، ولها عمق عميق، ولها إطار حقيقي، ولا يهمني أن يكون هذا الإطار خشبيا أو ذهبيا، والمهم أن يؤطر المنظر، وأن يساعد العين على الرؤية والنظر ) (33)

أما أسوأ كل الصور، فهي تلك التي لها شكل وليس بها روح، والتي قد يكون إطارها الخارجي أكثر قيمة من معناها ومبناها الداخلي والمفروض في هذا المخرج أن يرى العالم بأكثر من عين واحدة، وأن يتأمل الواقع انطلاقا من زوايا متعددة، و( مخرج بعين واحدة ليس مخرجا، ومسرح ببعد واحد ليس مسرحا، وطبيعة بلون واحد ليست طبيعة، وحياة بحالة واحدة ليست حياة..) (34)

وأهم ما يميز هذا المخرج الاحتفالي هو حريته وحيويته وهو عفويته وتلقائيته، وهو تمرده الدائم والمتفرد والمتعدد والمتجدد، على نفسه أولا، وعلى فنه وفكره ثانيا، وعلى مساره الوجودي ثالثا، وعلى مسيرته الفكرية والجمالية رابعا، وأسوأ ما يخشاه هذا الخرج هو الثبات والسكون، وهو الجمود على الموجود، وهو التبعية، وهو المدرسية، وهو النمطية، وهو ( الإبداع ) داخل المناهج الجامدة  وعلى النماذج الثابتة، وأيضا هو  السقوط في الأخطاء الشائعة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( إن المخرج الاحتفالي، ليس هو ذلك التقني الذي يتبع منهجا معينا في الإخراج،  ولكنه المبدع الذي يكفر بكل المناهج، والذي لا يؤمن إلا بالحياة وبالحيوية، والذي يستفتي قلبه قبل كل شيء، الذي لا تعتقله القوالب الجاهزة، ولا تستعبده الوصايا والتعاليم الإدارية والسياسية، والذي لا يسير في الطرق السيارة المعبدة، والذي لا يحتكم إلى إشارات الطريق، ولا إلى العلامات فيه، ولا إلى تعليمات السير، وإلى قوانينه وقواعده) (35)

 

الإخراج الاحتفالي بين الغنى والاستغناء

وهذا الإخراج الاحتفالي هو  فعل واحد بثلاثة أضلاع أساسية وحيوية هي : التفكير والتعبير والتدبير، وهو يبدأ بفكرة مجردة نتدبر كيف نجد لها معادلها المادي، وأن ننتقل بها من المجرد إلى المجسد، ومن الذاتي إلى الجماعي، ومن المغلق إلى المفتح، والعلاقة بين التفكير والتعبير هي علاقة جدلية حية، وكل فكرة احتفالية لا نخرجها إلى الوجود الاحتفالي الواسع، ولا نجد لها لباسها الاحتفالي والعيدي،  لا يمكن أن يكون لها أي معنى، وحسب د. خالص شلبي فإن التفكير بلا تعبير مثل الكمبيوتر بلا شاشة

وعندما تكون الفكرة غنية وجديدة، فإن التعبير عنها لا يمكن أن يكون إلا تعبيرا غنيا وجديدا أيضا، والمطلوب من المخرج الاحتفالي أن يضيف للواقع والوقائع شيئا من روحه ووجدانه ومن خياله، وأن يجسد المجرد، ون يجدد القديم، وأن يقرب البعيد، وأن ينطق الصامت، وأن يعيد تركيب الأشياء وترتيبها شكل آخر، وأن يجعلها على الخشبة أكثر إمتاعا وأكثر إقناعا وأكثر إدهاشا

هذا المخرج ينطلق من الفرضية الأساسية التالية، وهي أن هذا العالم قد ضيع وسامته وجماله وحقيقته، وضيع ذاكرته وتاريخه، وأن عليه أن يعيد لهذا العالم روحه الاحتفالية، وأن يعيد للإنسان فيه رؤيته العيدية، وأن يقدم للناس مسرحية تحاكي الممكن الحقيقي وليس الكائن المزيف والمزور

نعرف أن الاحتفالية مع الغنى، في معناه الحقيقي طبعا، لأن العيد هو الامتلاء وهو الجديد، وهو التجديد، وهو الانتشاء، وهو العربدة الجمالية، وهو الحلم الجماعي، والأصل في هذا الغنى، هو أن يكون غنى الداخل الوجداني، وليس غنى الجسد البراني، وأن يكون غنى الجوهر، وليس غنى القشور والمظاهر الشكلانية، ولا يكون المخرج حقيقيا إلا عندما يكون صادقا وتلقائيا، ويشعرنا بأن احتفالية المشهد المسرحي هي انعكاس أمين لاحتفالية الداخل، بكل أفكاره وصوره وأحلامه وأحاسيسه وأضوائه وظلاله وألوانه المتعددة

ومن طبيعة هذه الاحتفالية هو أنها تحيا الحياة، بدل أن تحكيها أو أن تحاكيها فقط، وهي بهذا ضد العرض وضد الاستعراض وضد الاستعراضية، وهي تعبر ـ من خلال إبداعها المسرحي ـ عن غنى الوجود وعن غنى الموجودات، وتعبر عن غنى الروح وعن غنى الوجدان وعن غني الخيال وعن غنى الأفكار، وهي لا تستعرض هذا الغنى، والذي قد يكون له معنى ( الفشر) المسرحي

والمخرج الاحتفالي هو بالضرورة مخرج غني، وهو غني بما هو فيه، وليس بما هو لديه من آليات وتقنيات ومن أدوات وأزياء ومن أقنعة ومن أشياء مستعرة، وأن تكون كل هذه الأشياء متوفرة في السوق وفي المتاجر الصغرى والكبرى

إن المخرج الاحتفالي، في هذا المسرح الاحتفالي، لا يعقل أن يكون فقيرا في مشاعره وأحاسيسه وخياله وأفكاره ومشاهداته، ولا يقبل منه أن يكون بخيلا في عطائه أيضا، أو أن يكون أنانيا، أو يكون انعزاليا، أو يكون متشائما، أو يكون جاهلا، أو يكون عبثيا، أو يكون عدميا، أو يكون مأتميا، وبهذا فهو العارف الحكيم، وهو الغني السخي دائما، وهو الساحر البهي، ومهمته في مسرحه هو أن يقترح عالما أجمل وأغنى وأكثر حقيقية وأكثر إقناعا وإمتاعا، وأن يعطي بغير حساب، وأن يكون ذلك الكريم الذي يسع قلبه كل الناس، والذي يمكن أن يحول اللحظة المسرحية إلى مأدبة فكرية وجمالية باذخة، والذي يحرص على أن يقتسم مع ضيوفه في الاحتفال المسرحي أجمل الأفكار وأصدق الحالات وأنبل المواقف، وكل ذلك بأجمل وأصدق اللغات الكائنة والممكنة، والغنى للذي تراهن عليه الاحتفالية ليس هو الترف، والذي قد يكون مفسدة، ويتجلى ذلك بشكل خاص في بعض التجريب المسرحي، والذي قد يكون مجرد لعب مترفين، وأن يكون بذلك مدخلا للصنعة والتصنع والتكلف ولاستعراض ما يملكه المخرج من أدوات ومن تقنيات ومن أضواء ومن ظلال ومن ألوان ومن أزياء ومن أقنعة ومن مقالب سحرية، وبحسب جان جاك روسو، والذي هو أبو البساطة الاحتفالية، فإن الترف أخو التكلف، وهذه هي السمة الغالبة اليوم على مجمل التجريب المسرح الغربي والأوربي، والذي يستعرض ما لديه من إمكانات بدل أن يقول ما لديه من خطابات، وأن يعيش ما لديه من حالات ومقامات

وقدر هذا المخرج الاحتفالي هو أن يحيي احتفالا مسرحيا استثنائيا، في لحظة زمنية استثنائية، وأن يجعله مختلفا ومخالفا للزمن اليومي العادي، وأن يؤسس له زمنه الاستثنائي الخاص، وأن يحتفظ له بعنصر الغرابة وعنصر الإدهاش، وأن يوجد له كونه وعالمه ونظامه وشبكة علاقاته الإنسانية الجديدة، وأن يحرص على أن لا يعيش مع ضيوفه نفس الاحتفال مرتين، وأن لا يكرر نفس الأحوال مرتين، وأن لا يشعرنا بأننا أمام مجرد صور منقولة من الواقع، وأن يقنعنا بأننا فعلا داخل حياة أخرى جديدة ومتجددة، حياة نؤسسها جميعا نحن لآن هنا، وأن يكون دور المخرج فقط هو أن يكون مثل المايسترو في الأركسترا، أي أن يضبط حركية الاحتفال المسرحي فقط، من غير أن يتحكم في الأجساد والأرواح والنفوس الحية التي ترتجل حياتها بشكل أني وعفوي وتلقائي

والأساس لدى المخرج الاحتفالي، هو أن يكلم الأجساد والأرواح والنفوس الحية قبل كل شيء، وأن يقترح على ضيوف احتفاله  لحظة زمنية صادقة وواضحة شفافة، وأن  يكون من أهم سمات هذا الاحتفال البساطة والعفوية والتقائية، وأن يكون ( أكثر حيوية وأكثر عفوية وأكثر قربا من الاحتفال الشعبي الشرقي والأفريقي والمتوسطي) (36)

وهذا المخرج الاحتفالي هو ( أناه) أولا، بكل محمولات هذه الذات الثقافية والفكرية والجمالية والأخلاقية، وبكل أبعادها ومستوياتها ودرجاتها المتعددة والمتنوعة، وهو لا يمكن أن يكون إلا بصمته الخاصة وتوقيعه الخاص وأسلوبه الخاص، وكل إبداع لا يتضمن هذه البصمة الخاصة ولا ذلك التوقيع الخاص، ولا ذلك الأسلوب المتفرد، لا يمكن أن يكون إحراجا مسرحيا حقيقيا

والمخرج الاحتفالي هو الذي يعيدنا إلى أنفسنا، والذي يعيد لنا ذاكرتنا الحية، والذي يعطيا الفرصة لكي نعيد اكتشاف العالم، وأن نراه في حجمه الحقيقي، وفي أضوائه وظلاله وألوانه الصادقة، بعيدا عن أصباغه وأقنعته الكرنفالية الخادعة، وهو الفمان الساحر الذي يجعلنا نستعيد زمننا الحقيقي الضائع، والذي يجعلنا نسترجع إحساسنا الطفولي بالعالم، وأن نعيد اكتشاف الوجود والموجودات في صورتهما الحقيقية، وأن نستعيد دهشتنا التي ضيعتها العادة، وأن نعيد للاحتفال العيدي فرحته وبهجته، وهو الذي يعطيا شيئا أكثر وأكبر وأخطر من مجرد حكاية تحكى أو مجرد رواية تروى، أو مجرد صور تشاهدها العين، وتسمعها الأذن ثم تنسى، وهو الذي يجعل المحتفل معه يعرف أنه ليس عينا فقط، وليس أذنا تسمع، ولكنه جسد وروح، وأنه وجدان وخيال، وأنه نفس وعقل، وأنه حس وحدس، وأنه حركة وطاقة محركة، وأمه فعل وانفعال وتفاعل وفاعلية، وأنه حرية وحيوية، وأنه إرادة وقدرة، وأنه كينونة وصيرورة، وأنه مسيرة حياة ومسار أعمار متحركة

إن اللحظة العيدية التي يقترحها علينا المخرج الاحتفالي، ينبغي أن يكون لها ما قبلها وما بعدها، وأن يكون ما بعدها مختلفا عما قبلها، ويقول المثل الشعبي ( الدخول للحمام ليس مثل الخروج منه) بمعنى أننا ندخل هذا الحمام بأوساخنا، ولكننا نخرج منه متطهرين، ونكون أخف وزنا، وكأننا قد ولدنا ولادة جديدة، وهذا هو نفس المعنى الذي نجده في الاحتفال المسرحي الحقيقي، فهو يطهرنا نفسيا، ويقنعنا فكريا، ويمتعنا ويسعدنا، وقد يشفينا أيضا، وهو  الفعل الجديد الذي يجدد علاقتنا بذاتنا وبمن حولنا وبالتاريخ والجغرافيا وبالعالم

وهذا المخرج لا يخلق شخصيات المسرحية من العدم، ولا يأتي بأحداثها وحواراتها وعلاقاتها ومواقفها من الفراغ، وهو فقط يخرج ما بداخل النص، ويخرج ما بداخل الحياة اليومية، ويخرج ما بداخل التاريخ، ويخرج ما بداخل نفسه أيضا، ولهذا فقد كان اسمه المخرج، وهو بهذا يشبه المرأة المولدة، والتي تخرج الجنين من بطن أمه، وهي بهذا لا توجد اللاموجود، ولكنها فقط تخرجه من الظلمة إلى النور، ومن المغلق إلى المنفتح، ومن الغياب إلى الحضور، ومن المجهول إلى المعلوم، وهذا هو دور المخرج الاحتفالي أيضا، أي أن يعيد ترتيب الموجودات في الوجود، ويعيد تركيب العناصر المادية الموجودة تركيبا جديدا، وأن كون في صورتها الفنية والجمالية أكثر إقناعا وأكثر إمتاعا منها في الواقع

 

المسرح الحي والكتابة المشهدية الحيوية

وبخصوص الكتابة، والتي هي درجة التأسيس الخلاق في العملية الإخراجية يقول الاحتفالي (الكتابة المسرحية ليست فعلا تقنيا خالصا، ويمكن أن نتعلم التقنيات ـ وفي جميع المجالات ـ في ساعات أو في أيام معدودة فقط، ولكن التقنية وحدها لا تعطي شيئا جديدا يسمى الكتابة المسرحية، وذلك لأن الأساس في هذه الكتابة هو أنها روح قبل كل شيء، هي روح المكان وروح الزمان وروح اللحظة التاريخية الحية، وهي وجدان الناس الأحياء في المجتمعات الحية، وهي عقلهم المفكر، وهي خيالهم وذاكرتهم وهي ذوقهم وتاريخهم، وهي آدابهم وأخلاقهم وحسهم الجمالي) (37)

وتؤكد الاحتفالية على أن ( المسرح هو النص أولا، وهو الانتقال من الشفهي إلى المكتوب، والأصل في الكتابة أنها التزام ومسؤولية، والديمقراطية هي ذلك النص ( المقدس) المكتوب، والذي يسمى الدستور، ويسمى القانون، والذي يضبط عالم المسرح؛ والذي هو صورة مصغرة لعالم الناس والأشياء، وللمسرح قانونه وله شرعه، والاجتهاد في هذا المسرح يكون في النص ومع وجود النص، وليس خارجه ولا ضده، لأن الخروج عن النص انقلاب وفوضى) (38)

وبحسب الاحتفالي دائما، فإن هذه (الكتابة المسرحية ليست فعلا تقنيا خالصا، ويمكن أن نتعلم التقنيات ـ وفي جميع المجالات ـ في ساعات أو في أيام معدودة فقط، ولكن التقنية وحدها لا تعطي شيئا جديدا يسمى الكتابة المسرحية، وذلك لأن الأساس في هذه الكتابة هو أنها روح قبل كل شيء، هي روح المكان وروح الزمان وروح اللحظة التاريخية الحية، وهي وجدان الناس الأحياء في المجتمعات الحية، وهي عقلهم المفكر، وهي خيالهم وذاكرتهم وهي ذوقهم وتاريخهم، وهي آدابهم وأخلاقهم وحسهم الجمالي) (39)

وهذا الكاتب المسرحي، وبخلاف ما قد يظن الجميع، ( لا يكتب وحده، ولكن تكتب معه الجغرافيا، ويكتب معه التاريخ، ويكتب معه السياق، ويكتب معه المجتمع، ويكتب معه المناخ، وهذا الكاتب المسرحي لا يكتب لحسابه الخاص، ولكنه يكتب للناس، انطلاقا من ثقافة الناس، وانطلاقا مما يريدون) (40)

وهذا ما يفسر أن نجد هذا الكاتب ـ في الأدبيات الاحتفالية ـ يحمل اسم الكاتب العمومي مرة واسم ساعي البريد مرة أخرى، وهو يطمح لأن يكون في دوره التبليغي أكبر من مجرد ساعي بريد، وأن يصل إلى درجة الرسول، وأن يكون فصيحا وبليغا وأمينا، وأن يحسن ترجمة الواقع والوقائع ترجمة شعرية أمينة ومقنعة

 

النص في المسرح الاحتفالي

في البدء إذن، كان ويكون وسوف يكون النص، وهو في درجة الكتابة العالمة والفاهمة، لأنه روح المسرحية وأدمها وخارطتها، وهو دستورها وقانونها، وهو ذاكرتها المستقبلية، وفي هذا المعنى يقول شخص المخرج في كتاب ( الرحلة البرشيدية) بأنه خارج هذا النص، لا وجود إلا للفوضى والعبث والتيه والضياع، وفي نفس هذا المعنى يقول الاحتفالي ( أنا لا أحترم إلا النص المحترم، وإذا لم يكن كذلك، فما هو بنص، ولا حتى نصف نص، أو ربع نص.. إنني أحترم المسرح الذي يحترم النص، سواء أكان سماويا أو كان وضعيا، وسواء أكان اسمه الدستور أو كان اسمه القانون، وتصور معي دولة المسرح كيف كانت ستكون بدون هذا النص المنظم؟) (41)

والدولة المسرحية ـ في الاحتفالية ـ تقوم أساسا على المشاركة والاقتسام، وعلى الجوار والحوار، وعلى الفاعلية والتفاعل وهذا النص المنظم ـ كما تقول الاحتفالية ـ لا يمكن أن تتحقق الفاعلية المسرحية فيه إلا به وفيه ومعه ومن خلاله، فهو البدء الذي يحيل على كل شيء، ويعد بكل شيء، ويؤدي إلى كل شيء، و( يمكنك أن تفسره كما تشاء، فذلك من حقك، ولكنه لا يمكن أن تلغيه، أو أن تغتاله .. اقرأ نصك كما تريد، وأعد كتابته إن كنت تقدر، ولكن، إياك ثم إياك أن تبدأ من الفراغ، أو من اللانص، لأنك في النهاية، ومهما فعلت، فانك لن تصل إلا للفراغ، إنه لا أحد فينا يمكن أن يهرب من النص) (42)

والإنسان أساسا نص حي، أو هو ديوان نصوص متحركة ومجددة ومتجددة، وذلك في عالم حي، لا وجود فيه إلا للنصوص الحية، والعمر أيضا نص، والقدر نص، والصدفة الخلاقة نص، والإلهام نص، والوحي نص، وما لا يكتب بالأقلام يمكن أن تكتبه الحياة بالصور وبالحالات وبالمواقف وبالمقامات وبالاختيارات وبالأحلام وبالأوهام وبالشطحات الصوفية

وكل واحد منا ـ كما يقول الاحتفالي ـ ( يحمل نصا أو يحمل نصوصا متعددة بداخله، وأنا لا شيء في المسرح يغريني إلا الحوار، وأصدق هذا الحوار هو الذي يدور بين النصوص التي فينا، وبين النصوص التي لها وجود خارجنا، والتي يمكن أن تصبح هي أيضا نصوصنا، ويكون ذلك بالتبني أو بالتمثل أو بالزواج او بالاعتناق أو التماهي أو بالاختراق أو بالاحتراق أو التحدي أو بالتجاوز ) (43)

والخروج عن النص، لا يعني إلغاء هذا النص، والخروج من هذا النص لا يمكن أن يكون له معنى، إلا إذا كان تأسيسا لنص آخر، أو محاولة لإيجاد نص آخر، بلغة أخرى، وبأبجدية أخرى، وبمفردات أخرى، وبمعجم أخر، وأن يكون النص الجديد أكثر عقلانية وأكثر جمالية، وأكثر حياة وحيوية، وأكثر إنسانية ومدنية

 

المخرج والنص والتحدي

 بحسب قانون التحدي والتجاوز، فإنه يمكن للإنسان أن يغير كل شيء في الوجود، انطلاقا من ذاته ونفسه ومرورا بعلومه وفنونه، وانتهاء إلى تغيير تضاريس الطبيعة، وإلى أن يعيد الإنسان كتابة التاريخ كتابة جديدة، وبنفس هذا التحدي ينبغي أن يواجه المخرج النص، وأن يحيّنه، وأن يثوّره، وأن يكلمه، وأن يحاوره، وأن يفككه، وأن يعرفه، وأن يفجره من الداخل، وأن يستحضر الغائب فيه، وأن ينطق الصامت فيه، وفي كل نص تختبئ آلاف الإمكانيات والاحتمالات الإخراجية، والتي تحتاج لمن يرفع الحجب عنها، أو لمن يترجمها إلى لغة المسرح، وإن جود مخرج، لا يحسن ترجمة المكتوب، ليس مخرجا، وقد يكون مجرد صانع فرجة فقط

والأصل في الاحتفال أنه فعل جماعي واجتماعي، هكذا هو في معناه الحقيقي، ويمكن أن يكون فرديا في الحالات الشاذة والاستثنائية، وهو خروج الفرد من فردانيه، وخروج المنعزل من عزلته، وخروج الغريب من غربته، وخروج المنفي من منفاه، والعيد لحظة في الزمن، وقد يكون هذا العيد ساعة من الساعات، وقد يكون يوما من الأيام، وفي هذا لمعنى يقو الاحتفالي:

(لست وحدي من يقيم هذا الاحتفال، فهو العيد يا صاحبي، لا تنس هذا، ولا أحد يستقدم العيد، أو يقيمه، لأنه يأتي في موعده، ويحيي ذاته بذاته، إنني فقط أقترح نصا، وأقترح الممثلين، وأقترح رفاقي المعيدين معي، وأقترح مكانا للتلاقي، وأقترح زمنا محددا له، وأقترح موضوعا للحوار، أما ما سوف يكون في هذا الاحتفال، فإنني لا يمكن أن أعرفه إلا بعد أن نحياه في حينه..نحياه بشكل جماعي) (44)

هذه المسرحية الاحتفالية إذن، وإلى جانب أن لها طول ولها عرض، ولها عمق، فلها إيقاع

أيضا، وهي (سريعة كطلقة رصاص، وأراها أحيانا أخرى بطيئة مثل غيمة في السماء،

وأراها مقنعة وممتعة، وأراها موحية ومعبرة،  وأراها مستفزة ومشاكسة، وأراها واضحة

وغامضة، وأراها قريبة وبعيدة، وأراها بسيطة ومركبة، وأراها متحركة ومحركة، وأن

تكون إلى جانب كل هذه مزلزلة ومخلخلة، وأن تكون كذلك الشعر الذي قال فيه الشاعر:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه      فليس حريا أن يقال له شعر

أما أنا الاحتفالي، فإنني أقول دائما ما يلي:

إذا المسرحية لم تهززك عند مشاهدتها    فليس حريا أن يقال لها مسرحية) (45)

 

الإخراج الجديد في الرؤية الاحتفالية المتجددة

الإخراج الاحتفالي لا وجود له، ولا وجود لوصفة إخراجية جاهزة يمكن اعتمادها في الإبداع المسرحي، ونقدمها للسوق باعتبارها وحدها الإخراج الاحتفالي الصحيح والسليم، وأن من يبتغي غيرها فإنه لا يمكن أن يقبل منه ذلك، والموجود حقيقة هو شخص المخرج الاحتفالي، وهو ذلك الفنان العالم والحالم والمفكر والساحر والمخاطر والعراف، والذي يبدع ولا يتبع، والذي يعيد تركيب المكتوب، ويعيد معايشة لمعيش اليومي، ويعيد رواية االمحكي، ويعيد المتخيل الفردي والجماعي، وذلك انطلاقا من القناعة  الاحتفالية العاامة، والتي هي ( التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)                                                               

وهي قراءة الواقع والوقائع قراءة فكرية وجمالية جديدة، وهي إحياء احتفال عيدي جديد روح جديد وبوعي جديد وبمتخل جديد، وهو احتفال مسرحي له زمنه المافوق واقعي، وله مناخه المابعد طبيعي، وله منطقه  الذي لا يشبهه أي منطق، وله لغته الفردوسية الآتية من الحكاية ومن الخرافة ومن الأسطورة ومن العوالم البعيدة الخفية

وبحسب الاحتفالي، فإن الأصل في فعل هذا الإخراج المسرحي، هو أنه إبداع فكري وجمالي أكثر منه مجرد فعالية وآلية تقنية فقط، وهو عملية كيميائية مركبة تركيبا سحريا، وبهذا المعنى فهو رؤية وهو موقف، وهو حياة وحيوية، وهو إحساس وتخيل، وهو طاقة حرارية محركة، وهو قراءة بدرجة كتابة، وهو توقع بدرجة نبوءة، وهو فعل جديد لتأسيس لحظة احتفالية وعيدية جديدة ومجددة ومتجددة؛ لحظة سحرية فوق واقعية، وكل مخرج مسرحي حقيقي هو بالأساس نص خفي، أو هو نصوص كثيرة مضمرة، وكل إخراج هو حوار بين نصين مختلفين، وقد يكون زواجا بين نصين متكاملين، بين نص المؤلف ونص المخرج، وعن هذا الزواج يولد نص ثالث هو نص الاحتفال العيدي

أما عندما لا يكون هذا المخرج نصا حيا، ولا يكون نصا فكريا وجماليا وأخلاقيا حقيقيا؛ ولا يكون ممتلئا وغنيا بالحالات وبالتصورات وبالاقتراحات وبالفرضيات، ويكون فقط مجرد تقني، فإن أقصى ما يمكن أن يعطيه هو أن يكتفي بأن يحرك الأجساد المادية في الفضاءات الصماء والخرساء والعمياء، ولا شيء أكثر من ذلك، وليس في مثل هذا الفعل أي شيء من الخلق والإبداع

وزواج نصين، في أي احتفال مسرحي،لا يمكن أن يكون زواجا مشروعا بدون حب، أو بدون عشق صوفي، وبدون اتحاد، وإن وجود مخرج، لا يختار نصه، لا يحب نصه، ولا يتماهي فيه، ولا يتحد به، ولا يلبسه من تحت جلده، لا يمكن أن يكون مخرجا مسرحيا حقيقيا، وقد يكون مجرد متعهد حفلات، أو مجرد ممون أعراس، ولا شيء أكثر من ذلك، وبالتأكيد، فإن ما ينطبق على نشأة هذا الكون، بكل عوالمه الظاهرة والخفية، يمكن أن ينطبق أيضا على نشأة الكون المسرحي، و( يؤمن المتصوفة بان الحب أساس الوجود، فالكون قد أوجدته المحبة الإآـهية ، ومن ثم ففي أعماق كل شيء تلهف وتطلع واشتياق إلى مبدعه وخالقه) (47)

وشعرية الإخراج المسرحي الحقيقي لا يمكن أن تكون بدون لمسة سحرية، وبدون نزعة صوفية، تتمل الوجود في كليته وشموليته وفي مطلقيته وفي مسيرته ومساره وفي قدسيته القائمة على عشق الجمال والكمال

وهذا الإخراج المسرحي الاحتفالي، هو نص أدبي وفكري أولا، نص ناطق بحروفه وكلماته وعباراته، وناطق أيضا بحركته الداخلية، وبصوره ومشاهده المقترحة، وقد يظهر للبعض أنه مجرد أوراق، وأنه مجرد حبر أسود على ورق أبيض، في حين أنه حياة وحيوية، وأنه حرية وتحرر، وأصدق كل النصوص هو النص الذي يخفي أكثر مما يظهر، ويكون الغامض فيه أكثر من الواضح، ويكون الممكن فيه أخطر من الكائن، أو ما يمكن أن نظن أنه هو وحده الكائن، وهو النص المغلق، مثل مغارة علي بابا المغلقة، والذي يحتاج إلى كلمة السر السحرية         ، وذلك من أجل الولوج إليه، ومن أجل الوصول إلى كنوزه العجيبة والغريبة الموجودة داخله

والاحتفالية لا تقول للمخرج كيف يختار نصه، ولا كيف يقرأ هذا النص، ولا كيف يفهمه، ولا كيف يحياه، ولا كيف يراه، ولا كيف ينصت إلى خطابه الداخلي، ولا كيف يترجمه ترجمة أمينة وغير خائنة، ولا كيف يفك شفرته، ولا كيف يعيد كتابته بأبجدية المسرح المتعددة والغنية، وفي هذا الإخراج لا وجود للتعليمات ولا وجود للحدود، لأنه عالم بلا ضاف، تماما كما هي أمه الاحتفالية، وتماما كما هي الحياة التي لا تحدها الحدود

وهذا الإخراج الاحتفالي يبدأ دائما من النص، وتحديدا من الكلمة السحرية والشعرية المؤسسة في هذا النص، أي من درجة الوجود ومن درجة الامتلاء، وليس من درجة العدم ومن درجة الخواء والفراغ، ووجود هذا النص يسبقه دائما فعل سابق، والذي هو فعل الاختيار، والذي يقوم أساسا على الحرية وعلى الاستقلالية وعلى المعرفة وعلى الرشد الفكري والجمالي والأخلاقي، والمخرج الحقيقي هو الذي يختار النص الحقيقي، تماما كما أن المخرج الاحتفالي هو الذي يختار النصوص الاحتفالية، والتي يقرأها بعد ذلك قراءة احتفالية وعيدية حية

هذا المخرج إذن، يختار نصه، تماما كما يختار الزوج زوجته، وتختار الزوجة زوجها، لبناء مسار وجودي واحد مشترك، ومع هذا النص يختار المخرج عالمه وكونه ويختار ذاكرته الآنية والمستقبلية، ويختار احتفاله أيضا، بكل أجساده وأرواحه، وبكل ظلاله وألوانه، وبكل أصواته وأصدائه، ويمكن لفعل اختيار النص أن ينسحب على اختيار شخص الممثل المعادل للشخصية في نص المسرحية، وتؤكد الاحتفالية أن نجاح مسرحية الوجود تقوم أساسا على عدالة توزيع الأدوار فيها، بحيث يكون كل واحد حيث ينبغي أن يكون، وهذا ما ينسحب على المسرحية أيضا، بحيث يشترط فيها التوزيع العادل والمنصف، وبغير هذا، فلن يكون الملك ـ الممثل مقنعا، ولن يكون المجنون مقنعا في دوره، ولن يكون القاضي مقنعا أيضا، ولن يكون المهرج مقنعا كذلك، وبغير هذه العدالة المسرحية، تصبح المسرحيات فوضى غير منظمة، وتكون بعيدة عن الإقناع الفكري والأخلاقي وعن الإمتاع الفني والجمالي

وبخصوص هذا المخرج المسرحي، القارئ والمؤسس، والذي يفترض فيه أن يكون ساحرا وعالما ومفكرا ومهندسا ومؤرخا للوجدان الشعبي العام، وبخصوص هذا المخرج يقول الاحتفالي ( المخرج الاحتفالي ليس هو ذلك التقني الذي يتبع منهجا معينا في الإخراج، ولكنه المبدع الذي يكفر بكل المناهج، والذي لا يؤمن إلا بالحياة وبالحيوية والذي يستفتي قلبه قل كل شيء، والذي لا تعتقله القوالب الجاهزة، ولا تستعبده الوصايا والتعاليم الإدارية والسياسية، والذي لا يسير في الطرق السيارة المعبدة، والذي لا يحتكم إلى إشارات  الطريق، ولا إلى العلامات فيه، ولا إلى تعليمات السير، وإلى قوانينه وقواعده) (48)

والإخراج الاحتفالي هو أساسا نظام آخر، وذلك في كون آخر وفي عالم آخر، وفي سياق آخر، وهو نظام معرفي وجمالي أكثر إقناعا وأكثر إمتاعا من النظام الواقعي، وقد يكون في حقيقته مجرد محاولات لإحداث النظام في فوضى العالم، وفي فوضى الواقع والوقائع، وفي فوضى الحياة والأحياء، وفي فوضى الوجود والموجودات، وبهذا المعنى فهو المنطق الجمالي والشعري، والذي يحتكم إلى الخيال وإلى الوجدان وإلى الحدس الصوفي أكثر من احتكامه إلى العقل المحض، وفي هذا المعنى يقول أينشتاين (سوف ينقلك المنطق من الألف إلى الياء ، أما الخيال فينقلك إلى كل مكان)

وأكسجين المخرج ـ والذي يحيا به وفيه، هو الخيال الخلاق، ومخرج بلا خيال، أو مخرج محدود الخيال، أو مخرج فقير الخيال، لا يمكن أن يصل بالمسرحية إلى أي أحد، ولا لأي مكان، ولا لأي زمان، وهذا الخيال المطلوب لا يعني قلب الحقائق، ولكنه يعني العودة إليها، وهو إعادة تشكيل الحياة في صدقها ومصداقيتها، وفي منطلقها الحقيقي والشفاف في مسرح الواقع، ينم توزيع الأدوار بشكل مغلوط، وقد يصبح اللص فيه قاضيا، ويكون الأمي فيه عالما ومفتيا، ويكون المحتال نبيا أو متنبئا، ويكون التافه ناجحا ومشهورا، ويكون الأعمى قائدا ومرشدا للمبصرين، ودور المخرج المسرحي ـ في الاحتفال المسرحي ـ هو أن يعيد ترتيب الناس، وترتيب الوقائع، ليس بحسب بما هو كائن، ولكن بحسب ما كان ينبغي أن يكون، أو بحسب ما ينبغي أن يكون، وذلك حتى نكون المسرحية مقنعة فكريا وأخلاقيا، وأن تكون ممتعة جماليا

إن الأصل في الإخراج الاحتفالي هو أنه فعل حيوي صادق ومدهش بالضرورة، وأنه تفاعل تلقائي وعفوي وجديد وشفاف مع عناصر الوقائع اليومية والمعروفة والمألوفة، والتي يفككها بطريقة سحرية، ويعيد تركيبها بشكل جديد، وبهذا فقط يستعيد الفن المسرحي دوره الحقيقي في الوجود، والذي هو أن يعيد للحياة شعريتها وسحريتها وجمالياتها المصادرة والمغيبة في فعل هذا المخرج الاحتفالي يتم الانتقال من درجة الصانع والمتصنع، ومن عتبة العرض والاستعراض والاستعراضية إلى درجة وعتبة الحفل والاحتفال والاحتفالية، وما يميز هذا المخرج هو أنه لا يملك ( بضاعة) يعرضها، وكل ما يملكه هو حياته وحيويته، وهو حالته الشعورية والوجدانية، والتي يعمل من أجل أن يقتسمها مع ضيوف احتفاله وعيده

وأهم ما يميز هذا الفعل الإخراجي الاحتفالي هو بساطته، وهو صدقه، وأنه فعل لا تصنع فيه ولا تكلف، وأنه ليس عرضا وليس استعراضا، لأن الأساس فيه هو أنه ساعة فرح، وذلك في يوم احتفالي لا يشبه كل الأيام، وأنه بذلك مأدبة حسية باذخة، وهذا المخرج ليس متعهد حفلات، وليس مخرج منوعات، ولا هو مقدم سهرات، ولا هو صانع ألعاب سحرية أو بهلوانية في سيرك

والإخراج الاحتفالي هو أساسا إخراج حي وحيوي، وهو ينكتب بشكل تلقائي وعفوي، ولعل أهم ما في هذا الإخراج هو التجربة الحية، وأن أهم ما في هذه التجربة هو صدقها ومصداقيتها وهو طاقتها الإبداعية الخلاقة، والكامنة أساسا فيها، وهو حريتها التي لا تخضع للتعليمات المدرسية  أو الإملاءات السياسية أو الدينية، أو الأخلاقية المختلفة ) (49)

هذا المخرج الاحتفالي قد يستخدم التقنيات، وهو يعي بأن الإبداع المسرحي أكبر وأخطر من التقنيات، وأن المفروض في كل التقنيات والآليات أن تكون في خدمة رؤيته الإنسانية، وليس أن يكون هو في خدمتها، أو أن يكون مجرد عارض ومستعرض لها، حتى يبهرنا، مثلما يفعل الساحر في السيرك،  وفي هذا المعنى، يقول الكاتب الاحتفالي في رسالة له للمخرج المسرحي يوسف الريحاني، وذلك على هامش تقديمه لاحتفالية ( الناس والحجارة) يقول ( إن التقنيات، سواء في الإبداع الأدبي أو الفني، لا يمكن أن تكون مطلوبة لذاتها إذا لم توضح الرؤية الإخراجية، وأن تكون في خدمتها، وإذا لم تجسدها بشكل حقيقي، فإنها لابد أن تكون مجرد ثرثرة، وأن تكون تقنيات بلا معنى، أو تقنيات المنوعات، وان تكون مبهرة حقا، ولكن من غير أن تقول شيئا

وفي كتاب ( الرحلة البرشيدية) يقول الاحتفالي (نني أعرف مخرجا كبيرا، في الحجم والعمر، همه الأكبر هو أن يكون غريبا ومدهشا، وبحثت كثيرا في مظاهر الغرابة فيه، فوجدتها في سلوكه، ولم أجدها في مسرحه، ووجدت الجنون في شطحاته وبهلوانياته، ولم أجدها في إبداعه ..) (50)

وبخصوص المنهجية، يقول المخرج الاحتفالي (في البدء، أشتغل فقط، ومن بعد يأتي المنهج، وكل نهج يسير فيه إبداعي، فذلك هو منهجي .. منهجي المؤقت طبعا، لأنه لا شيء رسمي وثابت، ولاشيء دائم في مسيرتي العمرية، أو في مسيرتي الإبداعية) (51)

الاحتفالي لا يعيش خارج الكون، وهو يلتزم بالنص المكتوب، وإذا لم يعجبه فإنه يعمل على تغييره، ولكنه أبدا لا يمكن أن يكون فوضويا، ولا يمكن أن يكون عدميا، ولا شيء أسوأ من أن نمارس تخريب أجمل وأصدق وأقدم  ما في المسرحية، وأن يتم ذلك بدعوى التجريب،

ويقول الاحتفالي ( إن الإنسان اليوم، وفي ظل الشروط الجديدة، أصبح مطلوبا منه أن يكون عينا فقط، وأن تقتصر مهمته على أن يرى، وأن يعيشها في الصور أكثر مما يعيشها في الواقع، وأن يسمع فقط، من غير أن يتكلم، وأن يقتنع فقط، من غير أن يعترض، ومن غير أن يحاور أو يجادل، أو أن يكون له رأي يمكن أن يعبر عنه ) (52)

وليس هذا ـ بالتأكيد ـ هو ما يسعى إليه الإخراج الاحتفالي والمخرج الاحتفالي

إن الإخراج ـ في المنظور الاحتفالي ـ هو أساسا سلطة اقتراحية، وهو فعل تفكيك وتركيب وهو فعل ترتيب، أو إعادة ترتيب، وهو فعل تجديد وتجميل وتنظيم واستحضار، وبخصوص دور المخرج الاحتفالي في العملية الإبداعية، نجد شخصية المخرج الاحتفالي في ( الرحلة البرشيدية) يقول ( إنني فقط أقترح نصا، وأقترح الممثلين، وأقترح رفاقي المعيدين معي، وأقترح مكانا للتلاقي، وأقترح زمن محددا له، وأقترح موضوعا للحوار، أما ما سوف يكون في هذا الاحتفال، فإنني لا يمكن أن أعرفه، إلا بعد أن نحياه في حينه.. نحياه بشكل جماعي) (53)

يتحدث بعض النقد المسرحي، مرة عن سلطة المؤلف، ومرة أخرى عن سلطة المخرج، أو سلطة السنوغراف، وتكون هذه السلطة عادة في درجة الاستبداد بالرأي ، وبهذا يتم الحديث عن دكتاتورية المؤلف أو دكتاتورية المخرج، مع أن الأصل في دولة المسرح هو المشاركة والاقتسام، أي اقتسام السلطة ـ إن كان لها وجود أصلا ـ وليس احتكارها، وما يملكه المؤلف أو المخرج، في هذا المسرح، هو سلطة الاقتراح، والاقتراح فقط، أي اقتراح البدء واقتراح نقطة الانطلاق في هذا العيد المسرحي، أما نقطة (الوصول) فإنه لا يمكن أن يحددها إلا روح الاحتفال، في شموليته وكليته

 

المسرح بين الواقعي والافتراضي

وفي هذا المسرح العربي اليوم كثير من التجارب وكثير من الدعوات وكثر من الاختيارات وكثير من المزاعم وكثير من الادعاءات وكثير من الاجتهادات وكثير من الفرضيات الواقعية أو الخيالية، ولقد ساق الواقع الجديد أحاديث كثيرة عن المسرح الافتراضي، والذي جاء في أعقاب إغلاق المسارح في زمن الجائحة، وفي هذا المعنى جاء سؤال د. محمد الوادي ( من أهم التحولات الكبيرة المرور من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، هل واكب المسرح العربي هذا المرور؟) وجوابا على هذا السؤال يقول الاحتفالي ( من واجب هذا المسرح أن يواكب كل التحولات التي تحدث في الواقع التاريخي، وأن يتمثل التغيرات التي تلحق العلوم والفنون والصناعات في كل بقاع العالم، وهذا ما ظل يحدث على امتداد كل تاريخ هذا المسرح، ابتداء من اليونان إلى اليوم، ومن حق هذا المسرح أن يغير متغيراته، وأن يجدد آلياته وتقنياته وأساليبه ومنهجياته ولغاته ومصطلحاته وشكلياته المشهدية المنظورة، ولكن ليس من حقه أن يخالف ثوابته، وأن يفرط في روحه وفي جوهره، وأن يتخلى عن ذاته ليصبح غيره، وبالتأكيد فإنه ليس من حق هذا المسرح أن يكون هو السينما، لأن السينما ذات أخرى وصناعة أخرى، ولها بالتأكيد لغاتها الأخرى، وليس من حقه أن يكون هو الراديو أو هو التلفزيون، أو هذه الوسائط الرقمية المختلفة

إن المسرح هو أبو كل الفنون، وهو ابن كل العلوم، وهو أخو كل الصناعات، القديمة والجديدة معا، والكائنة والممكنة أيضا، ومن طبيعة هذا المسرح أنه بيت مفتوح في وجه كل الاحتمالات، هو بيت يدخله كل الناس الأحياء، وتدخله كل القضايا، وتدخله كل الأزمان التاريخية، وتدخله كل المخترعات والمكتشفات العلمية الجديدة، لقد رحب بالكهرباء، يوم ظهرت الكهرباء ورحب بالصورة الثابتة أولا، ورحب بالصورة المتحركة بعد ذلك، ومع كل هذه التحولات ظل المسرح دائما هو المسرح، وهذا ما ينبغي أن يعيه المسرحيون العرب، أي أن لا يفرطوا في روح المسرح، وفي جوهر المسرح، وفي أبدية المسرح، وذلك في مقابل ما هو ظرفي ومرحلي وعابر) (54)

إن من طبيعة الاختيارات الفكرية والجمالية الكبرى في التاريخ، أنها لا تبنى على الظواهر العابرة والمؤقتة والاستثنائية، ونهر هذا المسرح، له مجراه الثابت الذي لا تغيره الأحداث والوقائع العابرة، وعلى امتداد قرون طولية ظل هذا المسرح هو نفسه، ولقد جاء الراديو وبقي المسرح هو المسرح، وجاءت السينما وبقي هذا المسرح هو المسرح، وجاء التلفزيون وبقي المسرح هو المسرح، وجاءت كل هذه الوسائط الإعلامية المختلفة، وسيبقى هذا المسرح وفيا لروحه ولفلسفة وجوده، ولأنه فن حي، فهو يتغير مع المتغيرات، ولقد قد أخذ من كل الفنون والآداب والصناعات والمخترعات أهم ما لديها، وتمثل جديدها واستوعبه ومسرحه، ولعل هذا هو ما يفسر مقولة أن (المسرح فن خالد) ويأتي هذا من مرونة هذا المسرح ومن انفتاحه ومن قابلته على التطور وعلى التجدد، وعلى أن يلعب في كل مسرحية جديدة دورا جديدا، وأن يرتدي لكل دور جديد زيا مسرحيا جديدا، وأن يقول في كل موقف تاريخي جديد حوارا مسرحيا جديدا،

وفي ظل الجائحة عاش ها المسرح شهورا استثنائية مرعبة، وكان ضروريا أن يختبئ ليعيش ويحيا، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي، والذي عاش شهورا طويلة في ظل تلك الظروف الوبائية المرعبة، مؤمنا بأنها زمن استثنائي عابر، وبهذا فهو بهذا متحركة فرضتها ظروف طارئة، ولقد تكيف معها الناس معها مؤقتا، حتى تكون الخسارة نصف خسارة أو ربع خسارة، وأن لا تكون كاملة، ولذلك فقد اهتدينا جميعا إلى حلول مؤقتة، سواء في التلقي الفني، أو في التواصل،الاجتماعي أو في التعليم والتكوين، ولكن هذا المؤقت ينبغي ألا يدوم، وإلا كان معنى ذلك أن البشرية قد انهزمت، وتخلت عن أعيادها وعن احتفالاتها وعن مسارحها وعن مقاهيها وعن حدائقها العمومية وعن مساجدها وعن مواسمها، وعليه، فإنه لا يصح منطقيا أن نبني قواعد وقوانين ثابتة ودائمة، وذلك على رمال متحركة، وعلى ظروف غير دائمة، وعليه، فينبغي أن نعيش هذه اللحظة، بكل إكراهاتها ولزومياتها، ولكن من غير أن نفرط في الحياة الحقيقية، والتي ينبغي أن تكون هي المنتصرة في النهاية

وأعتقد أنه يمكن أن نعمل عن بعد، وأن ندرس، وأن ندرّس عن بعد، وأن نبعث بالمعلومات، أو أن نتلقاها عن بعد، وأن نشاهد المسرحيات ومباريات كرة القدم المصورة عن بعد، ولكنه أبدا لا يمكن أن نحيا الحياة الحقيقة عن بعد، ولا يمكن أن نعيش اللحظة الاحتفالية الحقيقية إلا في المكان هنا، وفي اللحظة الحية الآن.

إن من طبيعة هذا الإنسان الحي هو أنه لا يمكن أن نسجنه في سجن، وأن نعتقله داخل الحجارة، وذلك لأنه كائن اجتماعي، وأنه كائن مدني، وأنه كائن له خيال، وأنه يمكن أن يخترق الجدران بخياله، وأن يخرج من عالم الحجارة إلى عالم الناس، وهذا ما قدمته منذ قرابة نصف قرن في المسرحية التي أعطيتها عنوان (الناس والحجارة) والتي تقوم على إمكانية خروج السجين من سجنه الوجودي، اعتمادا فقط على قوة الإرادة داخله، واعتمادا على الطاقة السحرية التي يوفرها الخيال الخلاق، وبهذه الطاقة الحيوية يخرج من عالم الحجارة المغلقة ليدخل عالم الناس الأحياء، ويكون ذلك من خلال المرآة، والتي تفصل بين عالمين متقابلين ومتكاملين هما : عالم الناس وعالم الحجارة، وعليه، يكون من الضروري أن نبحث اليوم عن واقع فتراضي، وذلك مادام أن هذا الواقع الواقعي والحقيقي ممنوع ومقموع ) (55)

إن المسرح لا يعرف المستحيل، ولا يؤمن بالمستحيل، وهو سفر أبدي وسرمدي في الزمان وفي المكان، وجوهر هذا المسرح الراحل والمسافر هو التحدي، والحياة أساسا ـ في معناها الحقيقي ـ هي التحدي أيضا، ونعترف بأن هذه الأزمنة الآن، هنا، هي فعلا أزمنة شاقة وصعبة، ولكنها عابرة، وبأن الآتي دائما هو الأجمل والأكمل

 

مركزية الاحتفالية وهامشية الاحتفاليين

هذا الواقع التاريخي اليوم، هو واقع غير حقيقي، وهو لا يستقيم مع العقل والمنطق، وعليه، فإنه ينبغي أن يرتفع، هكذا تقول الاحتفالية، وهكذا يردد الاحتفاليون في بياناتهم وفي كل تصريحاتهم الشفهية والمكتوبة، وهذا الواقع اليوم هو إرث غير شرعي، وقد تسرب إلينا من مرحلة تاريخية غير شرعية، والتي هي المرحلة الاستعمارية، والتي اتسمت بالوحشية وباللاإنسانية، وبالعدوانية، وبالعنصرية وبالشوفينية، وبالكراهية، وفي ظل تلك ( الثقافة) الاستعمارية تم الاعتداء على الحق والحقيقة باسم القوة، وتم تقسيم هذا العالم الواحد الأوحد والموحد، إلى عوالم هي عوالم متعددة ومتفاوتة ومرتبة في سلالم فرضتها الدبابات والظائرات، ولم يفرضها العقل والمنطق، وبهذا وجدنا أنفسنا، ومن حيث لا ندري ولا نريد، أمام العوالم الثالثة التالية: العالم الأول والعالم الثاني والعالم الثالث، ووجدنا أنفسنا أمام مركزية واحدة مستبدة وأمام عدد لا يحصى من الهوامش الثقافية واللغوية والفنية، ووجدنا أنفسنا أمام تسميات لا أساس لها من المنطق: والتي هي الفن وهي ما قبل الفن وهي ما قبل المسرح وما قبل الدراما، وما بعد الدراما، وهي الإنسان وما قبل الإنسان، وهي ما يعد الإنسان أو هي الإنسان الغربي والأوربي الكامل والسوبرمان

إن أهم ما يميز المسرح الاحتفالي هو أنه مسرح الهامش، وهو بهذا مسرح الإنسان المنسي والمقصي والمبعد والمستلب، وفي هذا المعنى يقول بيان أربيل للاحتفالية المتجددة (وما لا يعرفه أغلب المسرحيين والباحثين اليوم، هو أن هذه الاحتفالية، في فكرها وفنها، تظل الأقرب إلى الهامش منها إلى المركز، وبهذا فقد أمكن أن نقول بأن مسرحها الحقيقي هو مسرح الثقافات الهامشية، ومسرح المراحل التاريخية المقصية والمنسية، ولعل هذا هو ما جعلها تقول بأنها مسرح من لا مسرح له، وبأنها صرخة من لا صوت له، وبأنها بيت من لا بيت له، وبأنها مظلة من لا مظلة له، وبأنها فكر من لا فكر له، وبأنها علم من لا علم له، وبأنها سند من لا سند له) (56)

إنه لا عنصرية ولا تراتبية في الاحتفالية إذن، والإنسان إنسان فيها أو لا يكون، وهو واحد أوحد، والإنسانية تقابل الوحشية، تماما كما أن المدنية والتمدن يقابلان الغابوية والوحشية والهمجية، وإذا كان ابن رشد يقول (الحق لا يضاد الحق) فإن الاحتفالية تقول ( الإنساني لا تضاد الإنسانية) لأنها حق وحقيقة، وعليه فإن هذه الاحتفالية (ترفض ثنائية الآخر والنحن، وتؤكد على أن الآخر ينبغي أن يكون موجودا في النحن الإنسانية الكبرى، والتي تعوض (الأنانية) الغربية ب ( النحنية) الشرقية، وبهذا فهي ترفض ثنائية المركز والهامش، وتؤكد على أن المراكز تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الذوات المختلفة، والتي قد تكون ذوات مادية أو رمزية، فردية و جماعية، وترى أن من حق أي واحد من الموجودات الحية في هذا الوجود الحي، أن يقول (أنا المركز) من غير أن يصادر حق الآخر في أن يكون مركزا أيضا) (57)

وبالنسبة للاحتفالية، فهناك أشياء كثيرة يمكن أن نتعلمها من الآخرين، وأن نعلّمها للآخرين، وهناك أشياء أخرى غيرها تستعصي على التعليم وعلى التلقين وعلى الاقتباس وعلى البيع والشراء وعلى الاستيراد والتصدير، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفالي يقول:

( قد تعلمني تقنيات الأشياء، ولكنك أبدا لا يمكن أن تعلمني كيف أحس وكيف أشعر وكيف أحلم وكيف أتوهم وكيف أفكر وكيف أفرح وكيف أغضب وكيف أغني وكيف أرقص وكيف أصلي وكيف أفعل وكيف أتفاعل وكيف أنفعل وكيف أحتفل وكيف أعيّد وكيف أكتب وبأية لغة أكتب وكيف أعشق وكيف أحيا كما أشاء وكيف أعيش حريتي وأحيا حيويتي) (58)

هو الحق في الوجود إذن، والحق في الهوية والحق في الخصوصية، هكذا قال بيان أربيل للاحتفالية المتجددة، والذي أكد على هذا المطلب الوجودي، والذي (يظل مطلبا احتفاليا، والذي يؤكد على الوجود المختلف والمخالف، وعلى الحق الطبيعي والمشروع في أن نكون نحن هم نحن وليس غيرنا، وعلى أن نكون لنا بصمتنا المميزة، وعلى أن تكون لنا ملامحنا الخاصة، وعلى أن بكون لنا فكرنا الذي يشبهنا ونشبهه، وعلى أن يكون لنا فننا الذي هو جزء من حياتنا اليومية، ولهذا نقول بأنه من حق ليوبولد سنغور مع إيمي سيزير في أفريقيا أن يؤسسا تيار الزنوجية في الأدب والفن، وأن ينحازا إلى هويتهما الأفريقية المقموعة، ومن حق أحمد سلار في مدينة أربيل العراقية أن يؤسس الاحتفالية الكردية، وأن يعطيها أشياء من لغته ومن ثقافته ومن تراثه ومن عبقرية الأرض ومن عبقرية الإنسان، وأيضا، ومن حق الفنان علي مهدي أن يؤسس الاحتفالية الأفريقية في السودان، وأن يعطيها شيئا من احتفالية الإنسان والأرض والتاريخ، وبهذا يكون من حق كل المهمشين والمنفيين والمنسيين ثقافيا، وفي أي بلد كانوا، أن يضعوا بصمتهم الخاصة على أجناسهم الأدبية والفنية، وأن يعلنوا عن وجودهم الإضافي، وأن يمارسوا حقهم الطبيعي في التعبير الحر، وأن يكونوا أوفياء لتلك (النحن) التي أوجدتهم، لغويا وثقافيا وحضاريا، والتي لها ديوانها الاحتفالي الخاص والغني بالأشكال وبالألوان وبالحركات وبالإشارات وبالإيماءات وبالعلامات المختلفة والمخالفة) (59)

في كردستان العراق، وفي إطار مهرجان أربيل العالمي للمسرح، ألقيت يوم 13 ـ 12 ـ 2018 محاضرة بعنوان ( الاحتفالية مسرح الثقافات المهمشة) والتي تولى التقديم لها الدكتور كريم عبود، وفي يوم قبل ذلك، أي يوم 12 ـ 12 ـ 2018 كنت قد أصدرت، باقتراح من الاحتفاليين العراقيين الأكراد (نداء أربيل إلى كل مسرحيي العالم) والذي هو دعوة من أجل الالتفات إلى ثقافات الهامش، وهو نداء من أجل تجاوز ثنائية المركز الغربي ـ الأوربي وبقية العالم، وفي ذلك المهرجان المسرحي الدولي صدر نص ذلك البيان الاحتفالي، والذي ناقشه كبار المسرحيين الأكراد والعرب في مدينة أربيل، وقد كان على رأسهم رائد المسرح الاحتفالي الكردي أحمد سلار والمخرج الكردي الكبير أرسلان درويش، والذي سبق وقدم منذ أكثر من عشرين سنة مسرحية ( اسمع يا عبد السميع) باللغة الكردية، هذا بالإضافة .إلى ثلة من المسرحيين من العراق ومن تونس ومن الأردن ومن السودان، يبرز اسم علي مهدي، والذي سبق وأشارت إليه ديباجة ( بيان عمان للاحتفالية المتجددة) ونعتته بنعت (شيخ الاحتفالية في المسرح السوداني) والذي جسد (البعد الروحي والصوفي في الثقافة السودانية بشكل عام، وفي المسرح السوداني بشكل خاص، ويمكن أن نشير إلى أن الاحتفالية قد اكتسبت أبعادا أفريقية جميلة ونبيلة بفضل هذا المسرحي، وبفضل أبحاثه التي تصب كلها في إيجاد لغة مسرحية احتفالية بكر وعذراء، بلغة تستمد جذورها ومفرداتها من العيد، ومن اليومي، ومن الطقس الديني، ومن المناخ العام، ومن الإيقاع الأفريقي، ومن الموروث الشعبي ) (60)

 

ولادة احتفال جديد في عالم جديد

 وهذه الاحتفالية اليوم، وهي تطمح لأن تؤسس لهذا العالم الجديد احتفاله المسرحي الجديد، تجد نفسها مضطرة أن تتساءل:

وهذا الاحتفال الجديد ـ في عمره الجديد، وفي زمنه الجديد والمتجدد، كيف ينبغي أن يكون؟ هو اليوم أكثر عيدية وأكثر احتفالية وأكثر حرية وحيوية وعفوية بكل تأكيد، أو هكذا على الأقل ينبغي أن يكون، وهو مطلوب لأن يكون أكثر احتفاء بالحياة وبالحيوية وبالحرية وبالتحرر وبالأمن وبالأمان وبالحضور وبالتلاقي

ــ وبعد هذا، أو قبل هذا، هو احتفال من؟ احتفالنا نحن أم احتفال الآخر؟ ولقد أكدت الجائحة أنه في هذا الكون الواحد لا وجود لإنسان واحد، وأن مصيره هو مصير واحد، لأن الكل موجود في سفينة واحدة تسمى كوكب الأرض. وبالتأكيد هو احتفال الإنسان الحي، واحتفال كل الإنسان، وليس احتفال شعب أو احتفال أمة أو احتفال حزب أو احتفال جيل أو احتفال طبقة أو احتفال طائفة معينة، هو احتفال النحن الإنسانية الكبرى، وذلك في كل أبعادها ومستوياتها، والتي يكمل بعضها البعض، من أجل إيجاد لحمة إنسانية متضامنة، ومن أجل تأسيس لغة مسرحية كونية يفهمها ويتفاهم بها كل الناس في كل زمان ومكان وهذا الاحتفال الإنساني، المحتفي بالإنسان وبالحياة، من الذي يقيمه؟ ولمن يقيمه؟ أو مع من يقيمه ويحييه؟ وبأية مناسبةّ؟ وبأية لغة؟ وهل تكفي لغة واحدة، وثقافة واحدة، وحساسية واحدة، حتى يمكن الإحاطة بكل أبعاد ومستويات ومنغلقات هذا الفرح الإنساني والكوني؟

وفي غمرة هذا الفرح الإنساني المكتسب والمستحق، هل يجوز أن نقول لكل الإنسانية احتفلي بهذا الشكل ولا تحتفلي بذاك؟ ومتى كان للتعبير عن الفرح الصادق ضوابط وقواعد وقوانين جامدة؟

وما الداعي لإقامته؟ وبأية لغة يمكن إقامته؟ باللغة اللفظية أم بلغة الجسد، أم بلغة الأزياء؟ أم بلغة الأقنعة؟ أم بلغة الأشياء الناطقة والمتكلمة؟

هذا الاحتفال هو دائما سيد نفسه، وهو الذي يؤسس لحظته الآنية، وهو الذي يعطيها الحياة والحيوية، ويعطيها معناها ومبناها، وهذا الاحتفال هو في البدء موعد للتلاقي، موعد لا يخلفه الزمن، ولا يغفل عنه التاريخ، ولا يتخلف عنه إلا المتخلفون من الناس، وهذا الاحتفال لا تأتي به إلا شروطه الذايتة والموضوعية، ولا تسوقه إلا سياقاته الاجتماعية والنفسية والوجدانية والروحية الحقيقية، وفي هذا المعنى يقول المخرج الاحتفالي ( لست وحدي من يقيم هذا الاحتفال، فهو العيد يا صاحبي، لا تنس هذا، لأنه لا أحد يستقدم العيد، أو يقيمه، لأنه يأتي في موعده، ويحيي ذاته بذاته) (61)

  

آخر الكلام

وفي أخر هذه البيانات الاحتفالية الثلاث،أريد أن أقول كلمة حق ، في آباء الاحتفالية المسرحية،  مغربيا وعربيا ودوليا، والذين كانوا معنا، وكانوا قبلنا، وعاشوا الاحتفالية من غير أن يسموها، ولهذا أجدني مضطرا لأن أقول الكلمة التالية:

لقد رحل الطيب الصديقي، بعد أن فهم روح الاحتفالية فهما صحيحا وسليما، وبعد أن أسس الإخراج الاحتفالي، بكل طقوسيته المغربية والعربية والأمازيغية والأفريقية والموريسكية والمتوسطية، وبعد أن أسس الأغنية الغيوانية الاحتفالية، والني كانت صوت الإنسان وصوت الأرض وصوت الحياة وصوت الوجدان الشعبي في صورته الناطقة والصادقة، كما أسس مسرحا للناس، وأعطاه اسم ( مسرح الناس)

ورحلت ثريا جبران، أيقونة الأداء المسرحي الاحتفالي، ولقد تجسدت احتفاليتها الصادقة في إنسانيتها وفي حيويتها وفي صدقها وفي عفويتها وفي بهجتها وفي شفافيتها، وأبرز ما يميز أداءها المسرحي هو الإحساس الصادق، وهو البساطة والحيوية، وهو التلقائية والعفوية، وهو السخاء في اقتسام الحالة المسرحية مع الضيف الاحتفالي، وذلك في الفضاء الاحتفالي المشترك، وفي المناخ الاحتفالي العام، وفي الساعة الاحتفالية والعيدية الجميلة، والتي لا يمكن أن يصل إليها إلا الواصلون من أهل الفهم والرأي والذوق

ورحل عبد السلام الشرايبي، الكاتب الذي استفتى قلبه، والذي كلم ذاكرته الغنية بالصور وبالأسماء وبالحكم وبالأشعار الشعبية، لقد استخرج المسرح من شعر الملحون، وبعث الروح في شعراء فن الملحون وفي أسماء وشخصيات هذا الفن الشعري، ولقد أوجد عالما مسرحيا بألوان وبأصوات وبألحان وبحكمة الإنسان المغربي الشعبي البسيط، وكان في احتفاليته وفيا لمدينته الاحتفالية، والتي هي مراكش، عاصمة البهجة والفرح، وعاصمة الاحتفالية والعيدية

ورحل فريد بنمارك، المخرج المسرحي والإذاعي المؤسس، رائد الفعل التجريبي في المسرح المغربي، وأحد الذين آمنوا بالاحتفالية، وذلك  باعتبارها رؤية ورؤيا، وباعتبارها نظاما للتعبير الحر والتلقائي والعفوي، وباعتبارها نظاما في الحياة اليومية، وباعتبارها منظومة فكرية وجمالية يمكن أن نبدع فيها وعلى ضوئها الإبداعات المسرحية الصادقة والجميلة والنبيلة

ورحل عبد الواحد قيصر، الممثل الذي كان أول من صرخ ضد الحجارة وضد الحدود وظل البيروقراطية وضد الطبقية وضد تسليع الإنسان، وذلك  قي احتفالية ( الناس والحجارة)

ورحل الدكتور عبد الواحد خيري، ذلك الطالب الممثل الذي أصبح أستاذا، وكانت مدرسته الأولى هي فرقة مسرح الطلائعي مع المخرج الكبير إبراهيم وردة، ولقد تزامن اعتلاؤه خشبة المسرح لأول مرة مع ظهور أول بيان للمسرح الاحتفالي سمة 1976، ومع مسرحية (عطيل والخيل والبارود)

وفي الختام، أوجه تحياتي العطرة لكل الاحتفاليين الصادقين في العالم، وأقول لهم: كل احتفال وأنتم بأحسن حال، وكل عيد جديد وأنتم بألف حالة صادقة وبألف رؤية جديدة ومتجددة،

وردا على سؤال: كيف جئت إلى الاحتفالية، يقول الاحتفالي ( أنا ما جئت الاحتفالية، ولكن جيء بي إليها، ومن غير أن أدري، وجدت نفسي أعيش بشكل احتفالي، وأفكر بشكل احتفالي، وأتواصل مع الناس والأشياء بشكل احتفالي، وأكتب مسرحياتي بشكل احتفالي، ولقد أسعدني الحظ أنني وجدت نفسي هكذا، وشكرت الله على كل هذا، وبقيت طوال مساري الوجودي والفكري والإبداعي وفيا لروح هذه الاحتفالية، والتي تسكنني وأسكنها، ولو كتب لي أن أولد من جديد، فإنني لن أكون إلا هذا الاحتفالي الذي أنا كائنه الآن؛ هو قدري الجميل، الذي منحني القدرة على أن أكتب بأجمل اللغات، وعلى أن أفكر بشكل سليم، وعلى أن أكون مؤمنا دائما بأن القادم من الأيام والأعوام أجمل وأكمل)(62)

ولكل احتفالي الرؤية والفكرة، ولكا من يهمه أن يرى الخفي والبعيد والحقيقي والجميل والعالي والصادق، أقول ما قال الله تعالى في كتابه العزيز ( لقد كنت في غفلة من أمرك، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد) سورة (ق)

وعليه، فعليكم أن تحذروا أن تخدعكم أبصاركم، وأن تشغلكم الألوان والأصباغ والأزياء والأقوال والأمثال الخاطئة والإشاعات المغرضة والأقنعة الخارجية عن رؤية الحقائق الجميلة الباطنية

 

الهوامش:

1 ــ ع الكريم برشيد ( حدود الكائن والممن في المسرح الاحتفالي) دار الثقافة ـ الدار البيضاء 1985 ــ ص 10

2 ــ  الجاحظ ( رسائل الجاحظ ج1 تحقيق عبد السلام هارون ـ مكتبة الخانجي  ـ ط 5 ـ ص 1985

3 ــ  ع الكريم برشيد )غابة الإشارات ) طبعة تريفة ـ أبركان 1999 ـ ص 48

4 ــ  الجاحظ ( البيان والتبيين) تحقيق عبد السلام هارون ـ مكتبة الخانجي ج1 ـ ص 117

5 ــ غابة الإشارات ـ نفس المرجع السابق ـ ص 193 ـ 194

6 ــ عبد الرزاق الربيعي (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) المكتبة العربية للنشر ولتوزيع ـ القاهرة 2021 ـ ص 13

7 ــ  الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد ـ نفس المرجع السابق ـ ص 13

8 ــ نفس المرجع السابق ـ ص 15

9 ــ د. مصطفى رمضاني ـ كتاب جماعي ـ الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة ـ الإمارات

10 ــ عبد الرزاق الربيعي الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد ، نفس المرجع ـ ص 57 ـ 58

11 ــ ع الكريم برشيد (الاحتفالية وهزات العصر) مندى الفن والثقافة الدارالبيضاء  2007  ــ ص 198 ـ 199

12 ــ ع الكريم برشيد (الاحتفالية وهزات العصر) منتدى الفن والثقافة ــ الدار البيضاء ـ ص 257 ـ 258

13 ــ ع الكريم برشيد (الرحلة البرشيدية ) حوارية الكاتب والكتابة ـ إيديسوفت ـ الدار البيضاء

14 ــ ع الكريم برشيد (البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة ) الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة 2014 ـ ص 111

15 ــ (الرحلة البرشيدية )  نفس المرجع السابق

16 ــ  (غابة الإشارات ) مرجع سابق ـ  ص 5

17 ــ  ع الكريم برشيد (غابة الإشارات ) مطبعة تريفة ـ أبركان 1999 ــ  ص 5

18 ــ ع الكريم برشيد (فلسفة التعييد الاحتفالي ) منشورات توبقال ـ الدار البيضاء ـ  ص ص 80

19 ــ عبد السلام لحيابي ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ) إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ 2015 ــ  ص 223

20 ــ ع الكريم برشيد ( أنا الذي رأيت) إيديسوفت ـ الدار لبيضاء ـ ص 161

21 ــ  ع الكريم برشيد (الكتابة بالحبر المغربي)  مطبعة رانو الدار البيضاء 2003 ـ ص 10

22 ــ ع الكريم برشيد (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الأول ـ  منشورات تانسيفت ـ مراكش ـ  ص 108

23 ــ حوار د يوسف الريحاني مجلة ( النبوغ)  الدار البيضاء ـ العدد الأول

24 ــ ع الكريم برشيد (البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي ) مراكش مارس 1979

25 ــ ع الكريم برشيد (فلسفة التعييد الاحتفالي) م س ــ ص 106

26 ــ  فلسفة التعييد الاحتفالي ـ نفس المرجع السابق ـ ص 106

27 ــ ع الكريم برشيد  ( شكوى المهرج الحكيم  ) إيديسوفت ـ  الدار البيضاء 2017 ـ ص 7 ـ 8

28 ــ عبد الرزاق الربيعي ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) المكتبة العربية للنشر والتوزيع  ـ القاهرة 2021 ـ ص 60

29 ــ  د. يوسف الريحاني ( عبد الكريم برشيد ـ رسائل إلى المخرج المسرحي يوسف الريحاني ) منشورات باب الحكمة ـ تطوان 2021 ـ ص 45

30 ــ  د.يوسف الريحاني ـ نفس المرجع السابق ـ ص 43

31 ــ د. يوسف الريحاني ( عبد الكريم برشيد ـ رسائل إلى المخرج يوسف الريحاني ـ نفس المرجع ــ ص 45

32 ــ ع الكريم برشيد ( الرحلة البرشيدية) م س

33 ــ  ع الكريم برشيد (الرحلة ابرشيدية) م س

34 ـ الرحلة البرشيدية ـ نفس المرجع السابق

35 ــ د يوسف الريحاني ـ م س ـ سابق ـ ص 44

36 ــ ع الكريم برشيد ـ الصدمة المزدوجة ـ دائرة الثقافة الإعلام ـ الشارقة ـ ص 129

37 ــ  عبد الكريم برشيد ( المسرح المغاربي : مشروع وجود ومشروع هوية) مخطوط

38 ــ نفس المرجع السابق

39 ــ نفس المرجع

40 ــ مرجع سابق

41 ــ ع الكريم برشيد (الرحلة البرشيدية ) إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2017 ـ ص 186

42 ــ (الرحلة البرشيدية) نفس المرجع ـ ص 186

43 ــ  (الرحلة البرشيدية ) نفس المرجع ـ ص 186 ـ 187

44 ــ (الرحلة البرشيدية) نفس المرجع

45 ــ نفس المرجع السابق

46 ــ د. يوسف الريحاني ( عبد الكريم برشيد رسائل إلى المخرج يوسف الريحاني ) باب الحكمة ـ تطوان 2021 ـ  ص 45

47 ــ  طه عبد الباقي سرور ( من أعلام التصوف الإسلامي) دار نهضة مصر للطبع والنشر ـ القاهرة  ص 60

48 ــ  نفس المرجع السابق ـ ص 45

49 ــ  نفس المرجع السابق ـ نفس الصفحة

50 ــ (الرحلة البرشيدية) م س

51 ــ  (الرحلة البرشية) م س

52 ــ ع الكريم برشيد ( زمن الاحتفالية) أفريقيا الشرق ــ الدار البيضاء 2016 ــ ص 49

53 ــ (الرحلة البرشيدية) م س ـ ص 188

54 ــ  د. محمد الوادي ـ المسرح العربي وسلطة القول ـ كتاب تحت الطبع

55 ــ د.محمد الوادي ـ نفس المرجع السابق

56 ــ ع الكريم برشيد (بيان أربيل للاحتفالية المتجددة) مدينة أربيل العراقية

57 ــ (بيان أربيل للاحتفالية المتجددة ) نفس المرجع السابق

58 ــ (بيان أربيل للاحتفالية المتجددة ) نفس المرجع

59 ــ  ع الكريم برشيد (بيان أربيل للاحتفالية المتجددة) نفس المرجع

60 ــ ع الكريم برشيد ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة ) الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة 2014 ـ  ص 30 ـ 31

61 ــ  (الرحلة البرشيدية ) ص 1884

62 ــ عبد الرزاق الربيعي (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) م س

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت