“ما تبقى لكم”.. مرايا مكسرة لزمن موحش! / محمد بهجاجي
ضمن العروض المتنافسة على جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في نسختها العاشرة، قدم مسرح أفروديت (المغرب) بالأمس بمسرح مولاي الرشيد مسرحيته: “”ما تبقى لكم” . ووفق الأنشطة الموازية تعرف العروض ماقشة تطبيقية يتم خلالها قراءة نقدية، وقد وكلت للمسرحي المغربي (محمد بهجاجي) مهمة مناقشة هذا العرض.
وقد جاءت هاته القراءة كالتالي:
***************
تمثل مقاربة العمل الدراماتورجي الذي اضطلع به عبد المجيد الهواس لمسرحة “ما تبقى لكم” المدخل الأكثر ملاءمة لقراءة هذا العرض على اعتبار أن هذا الأخير يتأسس على نص روائي أصدره غسان كنفاني سنة 1966، ثماني عشرة سنة بعد نكبة ماي 1948، وسنة واحدة فقط قبل هزيمة يونيو 1967. وما بين النكبة والهزيمة توالت النكسات الكبرى والصغرى مخترقة الجسد الفلسطيني والعربي. ومن داخل جدل تلك النكسات انبثقت رواية “ما تبقى لكم” لتكثف كلمة كنفاني ضمن نص قصير نسبيا، كتب في نفَس واحد بلغة شاعرية تصوغ الوقائع وفق نسيج إبداعي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، وتتقاطع فيه الشخصيات متحدثة في الآن ذاته بضمائر المتكلم والمخاطب والغائب. ولقد كان واضحا، من خلال ذلك، إعجاب الكاتب وتأثره بما سمي “تيار الوعي” في الرواية الغربية الحديثة، وتحديدا برواية “الصخب والعنف” للأمريكي ويليام فوكنر، الصادرة سنة 1929.
من هنا التحدي الأول أمام عبد المجيد الهواس (معدّ العرض ومخرجه) الذي كان عليه أن يمسرح نصا روائيا غير تقليدي تجري تفاصيله على أرض الواقع، وفي مناطق وعي الشخصيات ونفسياتهم. أي أنه كان مطالبا باقتحام تلك المناطق، وتقديمها أمام متلقين واقعيين. وتتضاعف المهمة حين يتعلق الأمر بشخصيات متشظية، موزعة بين ماض أليم، وحاضر جريح، ومستقبل بلا عنوان. ولقد كانت موضوعة التصدع الفردي والجماعي المنطلقَ لرصد حياة تلك الشخصيات.
إزاء هذا التحدي وضعنا العرض أمام شخصيتين، كل واحدة منهما مرآة للأخرى. أو لنقل تحديدا إن كلا منهما ترى، في الآخر، صورتها الناقصة. إن مريم هي شقيقة حامد، وهي كذلك “أمه”، أو على الأقل إحدى صور الأم الحقيقية التي هاجرت إلى الأردن، فيما حامد هو الشقيق فعلا، وهو أيضا إحدى صور الأب الراحل. ربما هما كذلك لأنهما يعيشان معا في بيت بلا أم، وبلا مرآة مكتملة. بل إن ما كانا يتوفران عليه هو فقط قطع متشظية من مرايا مكسرة تحجب رؤية الواقع كما هو. من هنا قوة دلالة المرآة في هذا الاختيار الدراماتورجي. ومع ذلك فهذه الروح المرآوية ستنتكس بعد العلاقة التي أقامتها مريم مع أحد أصدقاء شقيقها، زكريا المتورط في الخيانة بعد أن باع أحد مواطنيه إلى العدو. ولقد نتج عن تلك العلاقة “حمل غير شرعي” في لحظات هشاشة كانت مريم تشعر فيها بالعزلة بعد ضياع فرصة الزواج بفتحي نتيجة قرار الأب تأجيل كل فرح إلى أن تحل قضية فلسطين. ثم أساسا بعد رحيل الأب، وهجرة الأم. من ثم توزع المصيران: حامد يقرر الهجرة إلى الأردن بحثا عن الأم، وهروبا من “عار” المصاهرة مع خائن للوطن وللصداقة. أما مريم، المتورطة في علاقة زوجية بلا غطاء أو سقف، فتقرر قتل زكريا بعد أن أصر على إسقاط الجنين. ومقابل ذلك تعلن قرار تسمية هذا الأخير باسم حامد لأنه آخر ما سيتبقى في ذلك العدم الموحش.
ولأن عبد المجيد الهواس قد اعتمد، تقريبا، نفس خطاطة غسان كنفاني في تعيين الشخصيات فقد أضاف، إلى مريم وحامد وزكريا، شخصية الصحراء التي أنطقها عبد المجيد الهواس، بكلمات غسان كنفاني، لتكون ذلك الجسر المبهم الرابط بين غزة والأردن ولتكون، في الوقت ذاته، الأم الغائبة الحاضرة، مضيفا إليها شخصية فنان الشارع، الحارس لفضاء الصحراء، الشاهد على ما يجري، العاجز عن إنجاز ما يعتاد فنانو الشارع على إنجازه أمام الملأ.
أما المدخل الثاني لقراءة العرض فيهم استراتيجية الاختيار الإخراجي التي اعتمدت تقسيم الخشبة إلى فضاءين متوازيين أفقيا: فضاء الأسرة الذي يظهر بمثابة رحم موبوء يرشح ب”العار” والخيانة، والفضاء الخلفي ذو الوظائف المتعددة المتقاطعة: الصحراء والممر والشارع (مكان إقامة الفنان).
نحن إذن أمام خشبة تشبه الشخصيات تماما. لا فقط لأنها منشطرة إلى فضاءات مختلفة مثل مريم وحامد. ولكن كذلك لأنها كانت تحاول أن تنصبغ بعمق المحكيات، وبالألوان والأضواء تناغما مع حاجيات التعبير النفسي للشخصيات.
وفق هذا التصور، أقام العرض توازيا بين الصور ومجازاتها، ومنطوق الكلمات ودلالاتها، خاصة حين يتآلف صوت الماضي المنقول بتقنية الشريط المصور مع أصوات الشخصيات وحركاتها عبر مشاهد واقعية للنكبة، وضمنها تصريح لغسان كنفاني ذاته متحدثا عن معنى الارتباط بالقضية، وحدود وآفاق الدفاع عن الوجود الفلسطيني. كما يتم التوازي الحاد، من ناحية ثانية، بين قيم الشرف والنبل والسمو، وواقع الحضيض النتن بشخصياته وأمكنته وهوائه، ثم بين معنى الإقامة على الخيط الرفيع بين ادعاء اقتراف الخطيئة أو امتلاك البراءة.
استحضارا لكل لهذه المعاني، نعتبر “ما تبقى لكم” مسرحية بأبعاد متنوعة. هي مسرحية شخصيات إشكالية متصدعة سقطت في “العار”. مع أنني كنت أتمنى تعزيز دينامية هذا السقوط بتوضيح تفاصيل ارتماء مريم في مستنقع زكريا انطلاقا من خطاطة تجعل السقوط أكثر إقناعا حتى يتأسس منطق لزمن “الخطيئة” المضاعف: الزواج من خائن، و”خيانة” شرف الأسرة. وبهذا الخصوص أشير إلى أنني سبق أن اعتبرت، في سياق مماثل، أن موضوع التشظي الهوياتي، خاصة تصـدع الواقع الأسري، صار الانشغال المميز لكثير من عروضنا في الآونة الأخيرة… وربما هذا من العوامل المهمة التي وجهت عبد المجيد الهواس نحو رواية “ما تبقى لكم”.
المسرحية هي كذلك مسرحية أمكنة “عدوانية”. البيت والممر والشارع والصحراء فضاءات مدمرة لما يتبقى من إنسانية الفرد والجماعة… وهي، في بعـد ثالث، مسرحية صور مندحرة لزمن مرتبك. وفي هذا السياق أتساءل: ألم يكن من الأفضل أن يتم توظيف الساعة “الأشبه بقبر”، كما في العرض وفي الرواية، بشكل آخر مختلف يجعل الزمن بطلا فعليا من أبطال العرض كما أشار إلى ذلك غسان كنفاني ذاته، وكما جعله الهواس آلية ضبط لتحرك الشخصيات، وذلك بالشكل الذي يؤزم العلاقة بالزمن الذي لا يقاس فقط بالساعات المعلقــة على الجدران. بل بتلك المعلقة في أذهان الشخصيات وقلوبها لتصير هي ضابط الوقت، ووجيب القلب، وحاضن آلام الانتظار التي تجرعتها مريم في أفق استرجاع حامد.
وبعد، أحيي صديقنا المبدع عبد المجيد الهواس الذي يسعى دائما إلى اقتراح أعمال تُصنع بهدوء على نسيج شاعري يرسم المعاني بالصور والضوء والاستعارات.
أشيد كذلك بالحضور المشع للممثلين: قدس جندول (مريم)، سلمى المختاري (الصحراء)، أنس العاقل (زكريا)، عبد الرحيم تميمي (حامد)، ولبوبكر آيت يحيى (فنان الشارع)، وللتقنيين وكل مبدعي هذا العرض.