قراءة نقدية عن مسرحية: “حديقة الأسرار” / رشيد زكي
شاهدت عرض مسرحية “حديقة الأسرار” واستمتتعت حقا. وأكثر من المتعة حرك هذا العمل المتفرد في داخلي رغبة في الكتابة عنه…
في البدء كان النص… هو البداية وهو المنتهى. كان هذا هو الطرح الذي تأسست عليه مسرحية “حديقة الأسرار” والذي اقترحه علينا المبدع محمد الحر و دافع عليه طيلة العرض. انطلق العمل من موضوع بسيط قد يبدو مستهلكا بل هو مستهلك بالفعل… ككل المواضيع. ولكن بفكرة وتصور بهما من العمق ما يستلزم الانتباه لكل كلمة تقال وكل جملة تكتب وكل تحرك فوق الركح استطاع محمد الحر أن يقتسم معنا لحظات من الفرجة والامتاع.
النص كان الغاية والوسيلة من خلال تساؤل أساسي “كيف ومتى تولد الحكاية؟ ” وهو لعمري سؤال لا يعرفه إلا من إحتك بالكتابة وعاش إكراهاتها و خبر إشكالياتها المعقدة. الحكاية فعلا تولد من الفراغ – الخواء. تولد هكذا في لحظة تستعصي عن الزمن. كل كاتب يعيش تجارب تسبق الكتابة وهي التي تغذي مخيلته. يقرأ. يشاهد. يرى ويستمع. لكن لا أحد يدرك بالضبط متى تولد الحكاية في داخله ومتى تأخذ ذلك الشكل الذي يصل للقارئ. ليس غريبا إذن أن تبدأ المسرحية من خلال مشهد افتتاحي يؤسس لهذا التصور. مشهد يحضر فيه الكاتب كشخصية محورية يحدد من خلاله زاوية الرؤية التي سوف يحكي من خلالها حكايته و يتفق مع المتلقي في نوع من “التعاقد” الذي سيحكم الفرجة المسرحية بكاملها “سوف أحكي لكم حكاية من لاشيء”. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ فإن اقتراح المؤلف كان شيئا وجريئا با و مرعبا كنا مرغمين على قبوله.
عشنا نصا مسرحيا كتب أمام أعيننا حرفا حرفا منذ ظهور الشخصية الرجالية (ياسين أحجام) فوق الركح حيث قاده المؤلف إلى ورقة/رسالة، مرمية على الطريق وقال له “هاته الرسالة هي التي سوف تثير الحكاية” كأنه أراد أن يخبرنا بأن الأفكار موجودة على قارعة الطريق وأن الرهان ليس في جمعها بل في طريقة معالجتها لتتحول من العدم إلى الوجود. ليس من باب العبث أو الزخرفة أن تأخذ هاته الرسالة الميكروفون لتقرأ نفسها بنفسها علينا. ستتحول هاته الرسالة فيما بعد من مجرد وسيلة لخلق الفعل إلى الفعل بعينه و كأن الشخصيات الثلاث تتحرك داخلها. حاولت أن أعرف مَنْ مِنَ الشخصيات الثلاث كتبها ولمن وجهها ولكنني لم أتمكن. لا يهم. لكنني أحسست أن بين سطور رسالة الوداع هاته أشياء تجمع الشخصيات الثلاث مجتمعة وتعَبٌِر عن شعور بالضيق والضجر والكآبة الوجودية وانسداد قنوات التواصل مع الآخر.
ليس غريبا إذن أن نشاهد الثلاجة في عمق الركح كعنصر وظيفي داخل الحكاية وليس مجرد قطعة ديكور. الثلاجة في اعتقادي تختزل كل ذلك البرود الذي يحكم العلاقة بين الشخصيات بل أكثر من هذا ربما تحيلنا على ثلاجة مشرحة الأموات أكثر من إحالتها على ثلاجة منزلية. وبالتالي توَلٌَد لديٌَ الإحساس في الأخير أن رسالة الوداع تخص الشخصيات الثلاث التي بدت لي عند نهاية العرض كأنها شخصيات ميتة استفاقت من لحدها لتشرح لنا الدافع وراء رحيلها.
لا يفوتني أن أشير إلى الأداء الخرافي للثلاثي التشخيصي هاجر حميدي وجليلة تالمسي وياسين أحجام. في الربع ساعة الأولى من العرض كانت مساحة اللعب ضيقة لديهم. كان صوت المؤلف هو من يحدد لهم إطار اللعب كالدمى أو ككائنات آلية. شيئا فشيئا بدأت الشخصيات في النطق وانبرى صوت المؤلف للخلف لكنه ظل يتردد في كل الشخصيات حتى نهاية العرض. كان هذا إحساسي على الأقل.
هناك أشياء كثيرة يمكن أن تقال على هذا العرض المتميز الذي بدأ من لاشيء كحبة ثلج طائشة ما لبثت أن تحولت إلى كرة ثلج عملاقة نزلت بثقلها على القاعة بأكملها. وأكثر ما يمكن أن يقال إيجابي بدءا من البراعة في اختيار النصوص المعروضة على الشاشة وانتهاء بالبساطة والعمق في الإخراج مرورا بالذكاء في إختيار قطع الديكور التي كانت كلها وظيفية. أو الدهاء في اختيار صوت مغنية الأوبرا ماريا كالاس التي تتقاطع قصة حبها التراجيدي مع ما تحكيه المسرحية ..إلخ.
بكل بساطة هذا العرض أعادني للمسرح في جوهره. مسرح حقيقي يخلق النقاش ويحرك الأفكار ولا يبحث بتاتا عن الإبهار.
وإذا انتهى العرض التراجيدي بقولة شكسبيرية “هناك شيء نتن في المملكة/الدانمارك” سأعيد بدوري صياغة هاته المقولة وأختم بها أيضا تدوينتي ” هناك أشياء رائعة في مملكة المسرح المغربي”
شكرا على المتعة وعذرا على التجرأ على القراءة….