مسرحية “النمس”… الشخصية بين المتخيل الروائي والمُجسّد المسرحي/ ذ. رشيد بلفقيه
توطئة
هل خمّن “رحال لعوينة”، أحد شخصيات رواية “هوت ماروك”، وهو يتنقل من عبدة، إلى مراكش، إلى عين إيطي، فحي لموقف، فمقهى الانترنت حيث تورط في توجيه التعليقات في مواقع إلكترونية لحساب أجهزة أمنية. هل خمن خلال رحلته الطويلة أنّ هناك حياةً أُخرى تنتظره في فضاء آخر، وفي زمن آخر على خشبة المسرح؟ ما من شك أنّه لم يفكر في هذا أبدا، ولعله لهذا السبب وقف متلعثما في مدخل العرض المسرحي “النمس” معلنا تبرّمه من استقدامه بالقوة إلى الركح، وانتزاعه من عالمه المُتخيل حيث ظل يلعب في الخفاء دور البطولة متلصصا على الجميع، مُستغلا الأقنعة التي تتيحها الأسماء المستعارة ليكون في قلب أحداث الرواية، مُراقبا أحيانا شخصيات عالمه السبرنيتي، متدخلا أحيانا أخرى لتحريكها مثل الكراكيز.
الشخصية بين المتخيل الروائي والمجسّد المسرحي
يُحفزنا تنقّل الشخصية في فضاءات الرواية وصولا إلى تجسدها على الخشبة على التساؤل كيف أعاد مخرج العرض المسرحي النمس بناء شخصية “رحال لعوينة” في عالمها المسرحي الجديد؟ وهل حافظت تلك الشخصية بوصفها شخصية رئيسية على محوريتها في الأحداث؟ كما يحفزنا على التساؤل أيضا أ أعاد الفضاء المسرحي تجميع وعرض مقومات الفضاء الروائي، أم عمل على تشييد عوالم أخرى للشخصيات نفسها؟
وظيفيا، تتعدد مهمات الشخصية في العمل المسرحي سواء بوصفها عاملا أساسيا فيما يجري من أحداث أم بوصفها دورا معينا له شفرة خاصة يتواصل عبرها الممثل مع محيطه، الأمر الذي جعلها عنصرا بلاغيا، كما حدّدتها آن أوبرسفيلد، لتغدو أحيانا مجازا مرسلا، وتغدو أحيانا أخرى مجازا لجزء من كل معين، أو صورة استعارية عن مختلف مستويات الواقع. يمكن للشخصية أيضا أن تصير طباقا حين تكون بؤرة تجتمع فيها أطرافا متناقضة لواقع معين ما يجعلها موضع توتّر درامي في العمل المسرحي، بما يجعل أداءها البلاغي والمجازي مبررها لتكون صلة وصل بين سياقات مختلفة.
يجعل هذا التثمين البلاغي الشخصية مدخلا نقديا خصبا لإعادة قراءة العرض المسرحي الذي اقتبسه عبد الإله بنهدار وأخرجه أمين ناسور عن رواية ياسين عدنان، بحثا عن ملامح الوصل والفصل بين العملين في تشكلهما التخييلي الخالص في “هوت ماروك”، أو التجسيدي المُشاهد في العرض المسرحي “النمس”.
في رواية “هوت ماروك” رُسمت شخصية رحال لعوينة -المحورية- رسما دقيقا، فهو قصير القامة، رقيق البنية، ذو وجه فأري وعينين ضيقتين. يتميز بأنّه شخص جبان، ومتردد، وخجول، وإمعة ضعيف الرأي واتكالي، يحسّ منذ طفولته -كما يقول الروائي- بضعف شديد في بلورة أفكار أصيلة خاصة به، ولو تعلق الأمر بحالة الطقس، حتى تشبيهه بالسنجاب تقبّله بتصالح كبير ورضى أقرب ما يكون إلى الاعتزاز، لأنه وجد نفسه أقرب إلى السّنجاب منه إلى أي حيوان آخر، فهو مثله يتمتع بذاكرة قوية في حفظ الأسماء والوجوه والتفاصيل الدقيقة.
بالانتقال إلى المسرحية نرصد هذه الأوصاف الدقيقة وقد جسّدها باقتدار الممثل حسن مكيات الذي ساعدته بينته الجسمانية النحيلة، والملابس الفضفاضة التي اختيرت له لإبراز مواصفات الشخصية بالشكل الذي حقق اتساقا مثاليا بين رؤية الروائي ورؤية المخرج، فنتابعه منذ أن يطل علينا في مدخلها من خلف شاشة ليخبرنا بصوت متلعثم عبر عن تفاجئه حين تم الدفع به إلى الخشبة: “خرجت لتوي من رواية اسمها هوت ماروك، خرجت بتواطئ بين الكاتب وفريق هذه المسرحية اللعينة، لم أكن أرغب في ذلك، ولكن قدري ليس بيدي. أنا لست حكيما متمكنا ولا واعظا ولا مثقفا عضويا، أنا فقط رجل لا يستطيع تحقيق أحلامه إلا في العالم الافتراضي، لذلك تحقق معي الشرطة الافتراضية”.
يضعنا هذا الاستهلال في زمن استرجاعي، يؤكده انطلاق الشخصية في إعادة سرد أحداث ماضية من قبيل زواجه، واشتغاله بمقهى الانترنت، خضوعا لرغبة المحققين معه. ومع توالي أحداث المسرحية نرصد أن شخصية رحال لعوينة المسرحية لم تتشكل بعيدة عن مقوماتها الروائية، وإن تم تبئير بعض مميزاتها والتغاضي عن بعضها الآخر. فإن كان في الرواية مثلا قد ظل يعالج علاقته بالمحيطين به بالصمت والهروب، متخذا الحلم مساحة لتصحيح أعطاب واقعه، بأحلام وُسِمت بأنها من النمط الجدّي المُشرّف، فهو لا يحلم إلا حين تكون هناك مبارزة ثأرية ينتقم خلالها من أحد الخصوم، مما جعل استيهاماته في الرواية غرائبية تشبه أفلام الكاراتيه السينمائية التي يحتكر أدوار البطولة فيها، أما في المسرحية فإن أحلامه صارت أكثر عمقا، وإبداعا، وقوة، مما جعلنا أمام شخصية تعيش حياة واحدة بواقعين واحد عسير مفروض عليها، وآخر خيالي وردي تصبو إليه. تعكسهما علاقته بزوجته “حسنية القنفدة” ذات الأذنين الصغيرتين والرأس الذي لا يكاد يفصح عن رقبة تحمله ملامح قنفذ، والتي ظل أصلها الحيواني غائبا عنه إلى أن نبهته إليه أمه “حليمة البجعة”. فُكّكت شخصية الزوجة إلى شخصيتين إحداهما تشكلت مطابقة لسلطة الراوي الذي تصورها زوجة صارمة جِلفة، وباردة جنسيا، تخفي موت مشاعرها بتسلطها الذي يجعلها تتصيد كل فرصة لتسحق سنجابها سحقا امتدادا لعملية السحق عينها التي ظل والده “السرعوف” يتعرض إليها طيلة حياته، أما الوجه الآخر للشخصية نفسها فأنتجته سلطة المخرج الذي شكلها في العالم الافتراضي حنونة، ومتفهمة وودودة، تلبي نزواته وتتجاوز عن أخطائه وعيوبه جميعها.
تخلى رحال لعوينة عن دور البطولة أي الدور الذي منحه في عوالم الرواية امتياز احتكار زاوية الرؤية، ورسم عالم الشخصيات محددا لكل منها مواصفاتها وقرينها الحيواني، حيث كان يعثر بسهولة لكل من يتحرك أمامه من الآدميين على الحيوان الذي يقابله، منفردا بتوجيه تلقي القارئ توجيها دقيقا، ليغدو في العرض المسرحي مجرد شخصية ثانوية بين شخصيات لا تخفي استمتاعها بخروجها من الرواية إلى خشبة المسرح، وتمردها على وجود أي بطل بينها، فنتابعها وهي توقف العرض في مشهد معين لتعيد مناقشة هذا التقسيم معبرة عن رغبتها في تداول دور البطولة وامتعاضها من إسناده إلى شخصيات محددة كل مرة، بما يعبر عن توقها إلى الانعتاق الكامل من كل سلطة بما فيها سلطة الكاتب، وسلطة المخرج، واستغلالها حرية تجسدها لتأكيد ذاتها، ورضوخا لرغبتها يتم تبادل الأدوار عشوائيا أمام الجمهور.
على نقيض رحال لعوينة الذي ظل وفيا لهويته السردية، استحسنت الشخصيات جميعها تخلصها من سلطة السارد في الرواية، واتخذت لنفسها تحت مبرر هويتها المسرحية مسارات نمت خلالها وفق طرائقها، فهيام اللبؤة مثلا التي لم تلج مقهى الانترنت منذ افتتاحه في الرواية إلا مرة واحدة وظلت بعيدة عن عالمه بعد أن دبجت قانونه الداخلي، والتي لم تنجح في جر رحال إلى مجاراتها في الصراع لما لمسته فيه من قابلية للخضوع والمذلة، غدت في المسرحية أكثر حضورا في المقهى مستمتعة بإثارة الجميع والتنكيل بمن يقف في وجهها، فتعددت زياراتها وغدا حضورها لتتابع كل كبيرة وصغيرة بنفسها أمرا معتادا، وصارت تتدخل في اهتمامات الزبائن، وفي نوعية المواقع التي يبحرون فيها، مما سيطور العلاقة بين لعوينة وبين زوجها السيد عماد القطيفة رجل السياسة والمال إلى مستوى المواجهة والصراع بسبب نوبات غيرة الزوج. أما شخصية أبي قتادة الذي كان يلج مقهى الانترنت في الرواية برجله اليمنى، رافعا عقيرته بالسلام، ممتعضا من اختلاط الزبائن، فسيتخلص من شخصية المحجوب ديدي الموظف في الوكالة الجهوية للماء والكهرباء، ذو الذكاء المحدود الذي سيقوده في الرواية إلى نهاية كاريكاتورية، ليصير ذو حضور أكثر قوة وأكثر ذكاء وتشددا، مما سيغير نقاشاته في العالم الافتراضي من وجوب القتال وبذل النفس، وفساد الانتخابات، وبدعة تزكية المرشحين لأنفسهم، ليغدو متخصصا في استقطاب المجاهدات وتجنيدهن ل”نضال ‘النكاح”.
عزز الاستغناء عن العديد من الشخصيات التي كانت تسند وجود رحال لعوينة في الرواية من تضاؤل شخصيته في العرض المسرحي مقابل بروز شخصيات أخرى نافسته على دور البطولة، وهو الذي كان يعتمد اعتمادا كبيرا على المحيطين به في الفضاء الروائي ليُحقق ذاته من خلال مراقبتهم والتخطيط للإطاحة بهم، وهو الذي أدرك حتى في الرواية أن فقدان أي شخص من دائرة المحيطين به يجعله بالمقابل يفقد جزءا من كينونته القائمة على أفعاله وردود أفعالهم. يعكس ذلك مثلا الفراغ الكبير الذي خلفه اختفاء “وفيق الدرعي” عن الحلقيات بالجامعة على إثر الدسيسة الماكرة التي دبرها للتخلص منه، وحالة الكآبة التي انتابته بعد ذلك.
لم يتأت انتزاع رحال من عالمه الروائي إلا من خلال بناء فضاء مواز لفضاء الرواية، استمد مقوماته من تيمة “العالم الافتراضي”، فوظفت السينوغرافيا شاشات الحاسوب لتقديم الشخصيات وعوالمها، وآليات تواصلها المبنية غالبا على الزيف والتناقض، وظلت هذه الأجهزة الإلكترونية طيلة العرض المسرحي تحتكر الأماكن التي تحدث فيها الأحداث الدرامية، وحتى الحوارات ظلت تتم في أغلبها بواسطة شاشاتها. وقد سهّل الأسلوب المجازي في بناء ديكور يراهِنُ على الاكتفاء بالجزء للدلالة على الكل، فظل التحدث من خلال إطار يوحي بتحدث الشخصيات افتراضيا أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وظل جلوسهم إلى شاشات يوحي بوجودهم في “مقهى الانترنت”.
ختاما
اتخذت الشخصية المحورية في المسرحية تمظهرا بلاغيا عندما ركبت من طباقات متعددة يجمعها الجسد النحيل لرحال، وتفضحها تصرفاته الغريبة والمتناقضة، فهو ظاهريا المستكين، المستسلم لمصيره، المتماهي مع جميع الأعطاب المحيطة به من تجاهل المجتمع له، والبطالة التي تخنقه، والعنف المادي، والمعنوي الممارس عليه وعلى طبقته ممثلا في الاستغلال الفاحش لفقره. وفي الوقت نفسه تُغافله بين الفينة والأخرى شخصية الثائر الذي ينتقم من الجميع في عالمه الافتراضي، والذي يخرج عن النص بين الفينة والأخرى ليشجب بعمق وقوة واقع الحال وينتصر لجميع إخوته في الحال، وهو ما جعل شخصيته موضع توتر درامي يمكن أن يتخذ معبرا لاستخلاص مواقف طبقة اجتماعية كاملة تدين القهر الممارس عليها دون ان تتجرأ على تغييره، وترفض سلطة العوالم الافتراضية التي تدجنها وتسلبها قدرتها على التحرر دون أن تتمكن من إخراج نفسها منها.