نص مسرحي: ”الشيخ والجسر” / تأليف: عماد كاظم عبد الله
مونودراما
الإهداء:
“إلى شهداء جسر الناصرية.. والى كل من مات في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.. إلى ضحايا الحروب من المدنيين والأطفال والنساء.. إليّ فتى ضاع أثناء الهروب من حروب لا طائل منها يحاول أن يعود”
(ـ ترفع الستارة ..الديكور عبارة عن سلمٌ صغير من الخشب القديم في وسط يسار المسرح يتصل بمنظر لجسر يمتد عبر فضاء المسرح باتجاه يمين المسرح وفي أسفل المنظر نهر على جرفه ترتفع أعواد البردي
*باب كوخ صغير من البردي والقصب في أسفل يمين المسرح
…صوت ترتيل للقرآن الكريم يصدر من داخل الكوخ يتداخل مع صوت منخفض لنقيق الضفادع تتخلله أصوات طيور ليلية )
-الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم:
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
صدق الله العظيم
*يخرج من باب الكوخ شيخ أعمى غير طاعن في السن يتلمس الأرض بعصاه وهو يمشي بخطى ثابتة مطمئنة يرتدي دشداشة بيضاء نظيفة لكنها غير مكوية مع معطف عسكري…لكنه لا يرتدي نظارات سوداء
-الشيخ: بسم الله …بسم الله… بسم الله…بسم الله….بسم الله (*يتوقف في وسط المسرح, يرفع رأسه إلى السماء) شكرا لله .. شكرا لله منزل النعم ودافع النقم ..الواحد الأحد الفرد الصمد الذي هو في السماء اله وفي الأرض اله…سبوحٌ قدوس.. رب الملائكة والروح
(*يأخذ الشيخ نفسا عميقا بعد أنُ يتقدم خطوات قليلة نحو الجمهور)
– الشيخ: الحمد لله.. الحمد لله أن العين ليست مسؤولة عن الشم وإلا كيف كنت سأستمتع بهذا النسيم.. الله .. ما أعذب النسيم هذه الليلة.. الحمد لله الحكيم الذي لم يجعل الحواس كلها في جهاز واحد وزّع البصر والسمع والشم والتذوق واللمس وجعلها تبعا للفؤاد أجيبيني أيتها العصا العزيزة..لو كانت العين هي التي تشم الروائح وتميزها…كيف كنت سأستمتع بهذا النسيم وعيناي عاطلتان عن العمل … مثلي تماما..ومثل هؤلاء الجنود العاطلين عن القتال هه هههههه
* يستمر الشيخ في مخاطبته للعصا …بعد أن يحتضنها لبرهة ثم ينزلها
– الشيخ: لا بأس ..لا بأس.. أنتِ يا حبيبتي لن تتخلي عني وسأميز بك النسيم فأنت رفيقتي منذ صباي ..بك أرى الأشياء وأكتشف الطرقات…أنا طوع أمرك..
* يمد الشيخ عصاه يتلمس الأرض ويستمر في كلامه
– الشيخ: إنْ قلتِ لي امض… مضيت وإن قلتِ لي …ارجع… رجعت أنت عيناي اللتان أبصر بهما لقد تعودتُ عليك وتعودت علي بك أدافع عن نفسي.. ليس لي غنم فأهش بك عليها لم ينحن ظهري بعد فأتكئ عليك
* يبدأ الشيخ بالإشارة بالعصا لجمهور المسرح مقلدا صفة حاكم عسكري
– الشيخ: حتى لو أصبحتُ رئيسا لهذه البلاد.. سأتخذك مستشاري الخاص..وسأصدر أمرا بذلك وسأجري لك راتبا ضخما…تحت بند…تحت بند تحت بند, مخصصات عصا تستطيعين أن تفعلي به ما شئتِ,و تشتري من الحلي ما تزينين به رقبتك الجميلة وسأحيي الجماهير المتجمعة بك
* يبدأ الشيخ بتحية الجمهور ملوحا بالعصا بطريقة الزعماء, يسمع أصوات الهتافات….ثم يتوقف بصورة مفاجئة وينزل العصا ويبدأ بمعاتبتها
– الشيخ: ربما فهموا إشارتي إنها تعني العصا لمن عصى لكن العصا للأعمى أيضا وللشعوب الجامحة
* يبدأ الشيخ بجلد ظهره بالعصا بعد أن يجلس على الأرض
– الشيخ: أيها الجامح …يا كثير الطلبات لقد أبرمتنا باحتياجاتك….تريد الحرية والخبز والنظارة السوداء خذ….خذ…خذ لعلك تفكر بالضمان الاجتماعي من سمح لك بالتفكير أصلا
*يمسك بالعصا ويحاول السيطرة عليها
-الشيخ: لا لا لا ..أنت لن تفعلي ذلك وأنا لن أفعل ذلك..لن أكون حاكما ..هل سمعت بحاكم أعمى…أعمى قلب…ممكن…لكن أعمى بصر…مستحيل فهو لن يرى شعبه غير أعداء مبصرين لن أرضى بأن أكون حاكما فالملوك أشقى الناس أشقى من الفقراء المعدمين ما لنا والسياسة نحن العمي لا نتدخل بالسياسة ولكن يقولون إن الذي لا يتدخل بالسياسة تتدخل السياسة فيه وان لا صداقات في السياسة هذا الأمر لا ينطبق علينا أنا وأنت فعلاقتنا ليست سياسية.. علاقتنا… علاقتنا…علاقتنا مثل علاقة العصا بالأعمى..أو مثل علاقة الأعمى بالعصا فأنت …فأنت فأنت أصابعي التي أميز بها الخشن من الناعم والقبيح من الجميل وأنت لا تكذبين علي فالمكان الوحيد الذي يتواجد فيه الكذب هو دماغ الانسان وكل ما حوله من مخلوقات تنطق بالصدق أنت الصادقة..ولو تزوجتُ سأطلب من المرأة التي سأتزوجها أن تسمح لي أن أراها بك
*يبدأ الشيخ برسم صورة امرأة في الهواء بواسطة العصا ويحدد تفاصيل جسدها ويبدأ بمداعبة الفراغ الذي شكله
-الشيخ: أظنها لن تسمح لي بذلك بسبب الغيرة منك …و ليس لسبب آخر هي حتما ستغار منك فأنت عيناي…وأنا سأنادي تلك الزوجة قائلا …يا نور عصاي بدلا من يا نور عيوني..هههه هههههههههههههههههههههه ربما حاولت كسرك…ربما ربطتك بحجر ثقيل ورمتك في النهر
*يهمس الشيخ في أذن العصا
-الشيخ: يقولون إن المرأة إذا شعرت بالغيرة تصبح حمقاء ومفترسة..هكذا أخبرني الجندي (نواف) عن المرأة…وعن علاقة الرجل بها
*يبدأ بمداعبة العصا واحتضانها بشدة ويستمر في كلامه مع العصا كأنها امرأة
-الشيخ: وعن علاقة الرجل بها..وعن علاقتها بالرجل وأخبرني أشياء أخرى لا أستطيع أن أبوح لك بها هههه هههه ههههههههه…أشياء تجعلني أتصبب عرقا كلما مرت ببالي تجعلني مضطربا بين الرغبة والخوف من الأشياء المجهولة لكني ,لكني…لم أعرف امرأة في حياتي غير أمي…أمي كم أشتاق إلى يديها فقد كانت دليلي في ليلي السرمدي هذا .. أمي المسكينة حملتني …كرها ووضعتني كرها وربتني كرها لكنها لم تشتك يوما مني كم أشتاق إلى عطر عباءتها…أذكر أنها كانت تمسك بيدي فأسلم نفسي إليها أنطلق معها وهي تجمع الخضروات وتجمع الحطب …كانت تضع الحطب على رأسها تحمل الخضروات بيد وتمسكني بيد أخرى..وكانت تربط يدي بخيط سميك تربط طرفه الآخر برقبتها كي لا أسقط في النهر
*يجلس على الأرض ممددا رجليه ويقول بحزن
-الشيخ: يقولون أنها قد ماتت.. هكذا قال لي الجنود الذين كانوا يحرسون الجسر…لا زلت أذكر نبرات صوتها الباكي وهي على فراش الموت..لا زلت أذكر وصيتها للجنود وكلماتها الأخيرة…..يا أولادي لقد قمت بخدمتكم سنين طويلة مثلما خدمت ابني الأعمى هذا..غسلت ملابسكم …..وطبخت لكم طعامكم كنتُ أماً لكم
*يبدأ الشيخ بالمسح على رأس العصا مثلما يمسح على رؤوس اليتامى
-الشيخ: وصيتي هذا اليتيم الأعمى أوصيكم به أطعموه من طعامكم واسقوه من ماءكم علموه السباحة كي لا يغرق في النهر
*ينهض الشيخ ويبدأ بالحركة باضطراب
-الشيخ: يومها سحبني نائب الضابط محمود من يدي بقوة قائلا تعال معي، ثم رفعني بكلتا يديه وصاح إلى النهر أيها الصغير الأعمى.. كان الماء باردا…وصاخبا مثل صوت نائب الضابط محمود
*يبدأ الشيخ بتقليد نائب الضابط محمود ووقفته العسكرية ولهجته الآمرة بعد أن يضع العصا تحت إبطه
-الشيخ: اضرب بيديك ورجليك الماء، حافظ على استقامة ظهرك.. ارفع رأسك إلى الأعلى يومها.. رأيت الموت.. رأيت الموت هو الكائن الوحيد الذي أبصرته بعيني, كان كائنا مائيا ضخما ينفذ إلى الرئتين يملؤهما بالماء ويجعلك تضرب بيديك ورجليك في كل الاتجاهات هكذا…هكذا…هكذا (يضرب بيديه مثل سباح)
*يتوقف الشيخ عن الحركة
-الشيخ: كان الجنود يصرخون بنائب الضابط محمود…رفقا بالصغير, رفقا بالأعمى يا سيدي لكنه كان يصرخ بهم دعوه حتى يعرف معنى الموت فلا يعرف قيمة الحياة إلا من وقف على أعتاب الموت وحين أوشكت على الغرق سحبني…كنت كالعصفور المبلل المكسور الجناح ضمني اليه قائلا لقد تعلمتَ معنى الموت وآن لك أن تتعلم معنى الحياة..اعلم إن حياة هذا الجسر حياتك …وموته موتك… فنحن هنا نحمي الجسر ..ونرأف بك.. عليك أن تعتمد على نفسك منذ الآن ..فأمك قد رحلت ولن تراها ثانية
*يغير الشيخ نبرته ويبدأ بتبادل الأدوار بينه وبين نائب الضابط محمود
-الشيخ: وحين سألته إلى أين رحلت؟ قال لي…لقد رحلتْ إلى عالم الظلمات..وحين قلت له…إلى عالمي؟! قال لي ..لا …لكنها ماتت وحين قلت له..وما الموت؟ قال..الموت…الموت هو الموت أنا لا أملك إجابة واضحة..فأنا مثلك لم أر الموت ..وإنما اقتربت منه مرات عديدة….الموت هو الموت، ربما أنا لا أحسن الإجابة..كذب كل من قال ان هناك أسئلة بلا اجابات..بل ان الذي لا يتوفر باستمرار هو الرغبة في البحث وطلب المعرفة، أنا تعاملت معك بشرف الجندية وسأسلمك الى من يتعامل معك بشرف الانسانية، فهناك من يدفع الناس ليرتقوا أعالي الجبال وهناك من يمد يديه لينتشل من في الوادي والحقيقة أن كلا الروحين تعيشان في القمة..سأسلمك إلى العريف صادق فهو أدرى مني بهذه الأمور
*تتغير نبرة الشيخ حين يتذكر العريف صادق,يبدأ بالمشي بسكينة وطمأنينة عالية
-الشيخ: يا الله ..عريف صادق، يقولون إن الجنود إذا دخلوا قرية أفسدوها..لكن عريف صادق كان من عالم آخر لم يكن جنديا…كان وليا صالحا، يشع بالخير والصلاح..كان يكتم من العلم أكثر مما يظهر، كم أشتاق إليه فقد علمني أشياء كثيرة..قال لي أن الظلمة والنور موجودان في قلب كل إنسان و في القلب فقط يمكن أن يوجد أحدهما دون الحاجة إلى وجود الآخر..فاجعل قلبك مشرقا بالنور دائما، قال لي كل شيء حولك يتكلم…أنت من لا يسمع..علّمني الإصغاء إلى تسبيح الطيور وغناء البردي ..أسمَعَني آهات الجرف، جعلني أحس تململ الريش في القصب..علمني كيف أصلي..وكيف أقول يا رب..يا رب..يا رب..علمني كيف أسمعُ صوتَ الله في قلبي علمني أشياء كثيرة، قال لي ..لا حريةَ أوسع من أن تصبح عبداً لله..وقال لي …إن الطريق إلى الله يشبه جريان الجداول نحو البحر وليس من بحر بلا حدود سوى كرم الله ومحبته لنا علمني الصلاة….وقال لي إن الصلاة أن تعي ما تقول وأن تكون صادقا في حضرة الرب أعطاني مذياعا حفظت منه القرآن، قال لي المذياع شيخ الأعمى حركة بسيطة من أصبعك تركب موجة الشيطان..وأخرى تكون فيها مع الله…والأمر اليك علّمني أن لا أؤذي شيئا.. علمني حب الناس ..وحب النهر وحب الجسر.. لا أعلم إن كان على قيد الحياة أم مات، فليرحمه الله حيا أو ميتا هو وكل الذين أحسنوا إلي والذين لم يحسنوا إلي وكل الذين عرفتهم والذين لم أعرفهم الجنود والمدنيين…فليحفظ الله الأحياء منهم، وليحفظ الله الرحمة بين الناس.. والنهر والجسر..الطيور والأسماك باستثناء التي أأكلها طبعا ههههههه ههههههههههه
*يبدأ الشيخ بالضحك بصوت عال ويجلس العصا أمامه كامرأة
-الشيخ: روح الفكاهة هذه تعلمتها من الجندي ماجد، كان يصنع المقالب مع زملائه الجنود… ومعي أيضا. مرة أخذني معه إلى المدينة قائلا تعال معي نذهب إلى الحمام العمومي، سأجعل نساء المدينة ينادين خلفك ويتغنين بجمالك ورجولتك، ثم أجلسني في محل لكوي الملابس وقال لي اخلع ملابسك واستمتع بالبخار وتركني ومضى، ولكي أن تتصوري ما حل بي يومها، وعمال المكوى وزبائنه يصيحون بي ماذا تفعل …هل أنت مجنون..هههههه..لماذا تقوم بخلع ملابسك….ألا تخجل
*ينهض الشيخ ويستمر في كلامه
-الشيخ: لكني رددت له الصاع صاعين، فبعد أن أخذني من المكوي…ضحك كثيرا وبعد أن مشينا خطوات قليلة، صرخت آآآآآآآآآآآآآآه….لقد دخل مسمار في رجلي، كنت أعرف طيبة قلبه. وحين أخذ ينظر أسفل قدمي ركلته بكل قوة صارخا بوجهه استمتع بهذه الضربة…فحسنة الأعمى أنه لا يرى الأشياء القبيحة. يقولون إن أنفه كُسر يومها لكنه لم يخبرني ولم يعاتبني. هكذا قال لي أصدقاؤه الجنود… يقولون إن ضربة الأعمى قاتلة.. هكذا ابتدأ الجندي قتيبة تقريره لضابط الأمن عني… كان الجندي الوحيد الذي لا يعاملني بعطف ولطف كان جميع الجنود يكرهونه لأنه كان جاسوسا لضابط الأمن، هو الوحيد الذي طالب بإبعادي وطردي من الكوخ. كان الجندي الوحيد الذي أميزه من رائحته لا من صوته، كان الجنود يلوذون بالصمت عند قدومه. ما أحقر أن يكون المرء جاسوسا على أهله وأصحابه، لقد وقف جميع الجنود معي ضده ونزعوا مخاوفهم بعد أن خطب فيهم نائب الضابط محمود قائلا الشر أشبه بنهر جارف، وجهود الخيرين مثل الحجارة التي تلقى هنا وهناك لتوقفه. فإذا لم تجتمع في موضع واحد فمن المؤكد إنها ستنجرف لتضل تتدحرج غائرة في عمق الألم جنود كثيرون عرفتهم ومضوا… أنت أيتها العصا صديقتي الوفية … ما تركتني مذ عرفتك أيتها الغالية
*يقترب الشيخ من سلم الجسر ,يتلمسه بالعصا ثم يخاطبها بانكسار
-الشيخ: ما لك لا تحسنين الإصغاء هذه الليلة؟ هل بدأت تشعرين بالغيرة أنت أيضا؟ هيا هيا…لا تكوني إمرأة ههه ههههههههههههه.. لا تخافي فإني لو تزوجت سأتزوج امرأة طيبة القلب مثلك تجيد الإصغاء، قليلة الكلام..طيبة….جميلة…ولكن كيف سأعرف إنها جميلة؟ الحسنة الوحيدة في حياة الأعمى أن كل النساء جميلات عنده لذلك لا يختارون العمي محكمين في مسابقات الجمال، الجمال ليس شرطا..شروطي بسيطة أن لا تكون عمياء، و أن تحبك وأن تقبل أن أنام بينكما هههههه.. وسأشترط عليها أن تعاملك باحترام وبرقّة وإلا سأفعل كما يقول الصينيون المرأة كالسجادة عليك أن تنفضها مرتين في السنة على الأقل ماذا لو تآمرتما عليّ؟ كلا كلا علي أن لا أفكر بسوداوية أبدا.. فنحن من نصنع مخاوفنا ثم لا نواجهها ونبدأ بالهروب..معظم الذين يهربون لا يدركون مم يهربون، لأن عقولهم مشلولة
*يعود الشيخ بسرعة إلى وسط المسرح ,يجلس باتجاه الجمهور بسكينة
-الشيخ: علي أن أفكر ببساطة…فالتفكير سمّ الأعمى، سأعاملها برفق وهي ستبادلني المحبة كي أراها جميلة
*يمسك بالعصا ويتلمس أجزاءها
-الشيخ: الجمال في الأشياء يكمن في تناسق وانسجام أجزائها وفي النفوس يكمن في سكون هيجانها لذلك سأختار امرأة هادئة جدا
* يتجه الشيخ نحو الجسر ويبدأ بصعود درجات سلم الجسر..ثم يجلس باتجاه الجمهور
-الشيخ: لا أشعر بالراحة، قلبي مقبوض هذه الليلة لا أدري لم تأخر الجندي أحمد في رفع أذان الفجر ( يبدأ بقراءة موال بطريقة حزينة)
إإإإإإإإإييييييييييييييييييييييه
جاورتُ أهلَ الفرحْ…..جاءَ البُكا أمّنا
دافعتُهُ بالرجـــــا….قال:الردى أم أنا
أحلامُكُم بُعثِرتْ……أحلامكم والمنى
قلتُ المنى باقية….أحلامُنا مِنْ ذهب
قال استمع يافتى…أسمعتُها مَنْ ذهب
أحلامكم ساكنة…ثار البكا منذُ هَــــبّْ
قلت :أبونا الأسى…قطرُ الردى أمّنا
إإييييييييييييييييييه….إيييه
لعلّي استيقظت هذه الليلة باكرا، هذه أول ليلة يضيع مني الزمن فيها، الزمن الذي أُبصرُ ظلمته وأعد دقائقه المظلمة .. ربما التهمت الطيور الكبيرة الجنود، هكذا حدثني العريف سالم عن الطائرات التي تنشر الموت والرعب والدمار. قال إنها طيور كبيرة ترمي بالنار، تأتي كلما نشبت الحرب…تهاجر إلينا في مواسم الحروب. وحين سألته ما الحرب قال لي ….الحرب أم مجنونة تأكل أبناءها كلما جاعت ولكن هل توجد أم تأكل أبناءها
**يتلمس الشيخ سلم الجسر بيديه ويحتضنه ثم يبدأ بالنزول شاهرا عصاه ويبدأ بالمبارزة المتخبطة
-الشيخ: تعالي أيتها الطيور، لقد عكرت صفو حياتي قبل مجيئك ..سأقاتلك بعصاي العزيزة هذه وأعيد ترتيب زمني الذي تحاولين بعثرته، ما أنت إلا طيور خائبة و إلا لكنتِ عصافير أو بلابل تنثر الحُب والسلام والجمال آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه…أيتها الطيور الجبانة المتعالية القلب صغير جدا …لكنه أوسع من الكون غير أن ذرة كره واحدة تلونه بالعتمة والدخان وأنت طيور بلا قلب….بلا قلب…لا تستحقين الجناح ..لا تستحقين الجناح
*يبدأ الشيخ بالمشي السريع القلق المتعثر بعد أن يضع كفه قرب أذنه للإستماع إلى الأذان
-الشيخ: ربما لم يستيقظ الجندي أحمد لرفع الأذان..ربما هو مريض…ربما ارتكب ذنبا منعه من النهوض للصلاة. قال لي عريف صادق مرة إن الذنب غلٌّ تُلبِسه روحك…و إزميلٌ تثلم به شيئا من عقلك ربما…ربما…لا لا يجوز أن أسيء الظن به فهو لا يمنعه عن رفع الأذان إلا الموت أو المرض أو الإجازة الدورية. لكن العريف سالم كان يؤذن بدلا عنه كلما ذهب أحمد في إجازته الدورية. لا أدري… حتى المذياع لا يعمل الليلة، ليس سوى هذا الطنين المزعج
*يُخرج الشيخ المذياع من جيبه ويبدأ بتقليد صوت التشويش على المذياع
-الشيخ: وششششششش أي صوت أذان هذا..وأي مخلوقات تفهم لغة المذياع اليوم وششششششششش.. ربما فاتني وقت الصلاة. ربما أكون قد استيقظت مبكرا، فأنا أستيقظ وأصلي الليل وأقرأ القرآن كل ليلة … ثم أصعد حتى أتوسط الجسر وأدعو الله وأسبحه حتى أسمع صوت الأذان الذي يرفعه أحد الجنود الذين يحرسون الجسر ..أنزل لأصلي الفجر ثم أنام حتى يمر بي جندي آخر يوقظني كي أفطر معهم سأدخل لصلاة الفجر…سأدخل وأصلي الفجر وليسامحني الله ربما تقدمت …ربما تأخرت فليس على الأعمى الوحيد حرج
*يدخل الشيخ إلى الكوخ…
*همهمات صلاة …تقطعها أصوات طائرات وأصوات قصف
*صوت انفجار شديد …يخرج الشيخ مرعوبا
*منظر الجسر في يمين المسرح يبدو محطما ومثلوما
-الشيخ: ما هذا الصوت المرعب؟ يا إلهي …ربما هو الطائر..أي طائر مرعب له هذا الصوت..أي طائر يجعل الأرض تهتز هكذا ما الذي جرى؟ أخشى أن يكون الطائر الكبير قد أكل الجسر سأتأكد من وجوده
*يقترب من سلم الجسر وهو يحارب بعصاه الهواء وينقل قدميه بحذر وخوف شديدين…يبدأ بتلمس السلم بالعصا وبيديه
-الشيخ: الحمد لله…هذا السلم ما زال موجودا.. سأنادي على الجنود، أحمد نائب ضابط …مصطفى.. عريف سالم…عريف سالم أين أنتم؟ هل حانت صلاة الفجر أم لا؟ ما لكم لا تجيبون؟ هل أكلكم الطائر أيها الأحبة؟
*يبدأ باستنشاق الهواء بقوة لتمييز الرائحة ثم يبدأ بالسعال الشديد
-الشيخ: ما هذه الرائحة التي تملأ المكان..خليط من التراب والبارود والدم، وما للسلم يهتز هل جثم الطائر على الجسر؟ أين أنتم ..يا حراس الجسر؟ يا حراس الجسر
*يعود إلى منتصف المسرح
-الشيخ: يا الهي ..أنا خائف…وجائع، يقولون إن الخوف يلغي جميع الغرائز. أنا جائع..أنا جائع هل أصعد الجسر وأتفقده…وأتفقد الجنود، هل أناديهم من بعيد؟ نائب ضابط مصطفى…أنا الشيخ الأعمى أين حصتي من طعام الإفطار عريف سالم..هل جاءت الأم المجنونة التي تأكل أبناءها؟ لكني لست ابن الحرب، أنا ابن الأسى والظلام.لكني لست ابن الحرب لن نستبدل قمحنا بالرصاص، لن نغني لأطفالنا كي يكبروا قبل الأوان، لن نحمل الحمائم مذبوحة ونغني أغنية النصر، أنا ابن النهر وابن الجسر وابن المحبة وابن الصبر، أنا ابن كل هذا الجمال الذي لم يُكتب لي أن أراه لكني أراه بقلبي..وأسمعه بأذنيّ
* يبدأ الشيخ بالحركة نحو اليمين وينصت بعد أن يضع يديه على إحدى أذنيه ثم يكرر الحركة بعد أن يتجه إلى يسار المسرح ووسطه
-الشيخ: يا الله ما سر هذا السكون، أين اختفت البلابل والعصافير، ربما ابتلع الطائر الشمس يا الهي أين تتجه البلابل والعصافير حين تستيقظ ولا تجد الشمس. أيها الجنود…يا جسر…يا شمس ألا يجيبني أحد
*يتجه الشيخ بخطى ثابتة نحو السلم ويتوقف عند حافته يمسك بطرف الجسر
-الشيخ: سأصعد الجسر وأعبر حتى الضفة الأخرى، لن أترك عقلي فريسة للوهم. ماذا أخبرني العريف صادق عن الوهم، ها تذكرت قال لي الوهم أشبه بغاز ثقيل يملأ فضاء الوعي كلما أفرغته توهج مصباح المعرفة أكثر سأكسر الوهم باليقين، لا بد أن أعرف ماذا جرى؟ سأصعد…سأصعد الجسر لأعرف لماذا ينام الآخرون من حولي يوما ما ستصفع السماء كل من لم يستيقظ بنفسه. توكلت على الله…توكلت على الله.. بسم الله ..بسم الله..بسم الله.. بسم الله بسم الله بسم الله
**يبدأ الشيخ بالصعود
موسيقى جنائزية منخفضة.. ..مع صوت خارجي يصاحبان الشيخ في صعوده البطيء المرتجف…يمضي ولا يعود
-الصوت : شيخ أعمى يسكن ضفة النهر، كانت عيناه عصاه وقلبا يعشق مهد صباه، تعود أن ينهض يوميا عند الفجر ويمشي حتى منتصف الجسر …ليدعو الله. ما ضلّت قدماه الدرب ,ولا يوما تاه، استيقظ يوما منتصف الليل على صوت القصف وصلى الفجر –قبيل أذان الفجر- ومشى نحو الجسر يحث خطاه بعصاه تحسس طرف الجسر
وقال لها : فلنمضِ …بسم الله …بسم الله وحين تهاوى من فوق الجسر ، لم يصرخ خوفا أو يطلقْ آآآآآآآآآآآآآآآه . كان يفكرُ بين الجسر وبين الماء في آخر لحظات العمر، هل ضلّت قدماه الدرب أو مات الجسر
-صوت الشيخ: (يردد الصدى) هل ضلت قدماي الدرب؟ هل مات الجسر؟ هل ضلت قدماي الدرب؟ هل مات الجسر؟ هل مات الجسر
انتهــــــــــــــــــــــــت
عماد كاظم عبدالله/ العراق*
009647711878194
العنوان:العراق-بغداد-ساحة الأندلس-مبنى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق-نادي الشعر
البريد الألكتروني: emadkad1968@gamil.com