بلاغة الجسد وجمالية الركح في مسرحية: “سويقــــــــة” / د.محمد محبوب
يواصل المسرحي الشاب عبد اللطيف انحيلة رحلته الفنية وسفره الإبداعي مع فرقة الرحلة للفنون الحية ساعيا إلى امتلاك الأدوات والآليات، التي تمكنه من إنتاج صيغة مسرحية تنبذ السائد، وتتجاوز الأشكال الدرامية المستهلكة، بحثا عن بلاغة ركحية تتمرد على النص الجاهز، والإخراج المسرحي السكوني القائم على سلطة الإيهام، وهيمنة اللغة المنطوقة، والإضحاك الفج والواقعية السطحية، لذلك، فإن المشروع الفني لهذا الشاب يتأسس على قاعدة الوعي الجمالي والفكري الذي يطمح من خلاله بناء فرجة مسرحية حداثية عبر اعتماد بلاغة ركحية متطورة، وجماليات سينوغرافية تتجاوز سكونية الفضاء وثباتيته لخلق فضاء ركحي يرشح بالحركة المرتكزة على تناغم الديكور والموسيقى وحركات الممثلين، مما أضفى على الركح شاعرية، وخلصه من هيمنة وأحادية اللغة، وحوله إلى فضاء اب مثير للمتعة البصرية، وقادر على إثارة المشاهد، ودفعه إلى التفاعل مع العرض بشكل إيجابي بعيد عن الاستهلاك السكوني والتلقي الآلي لإشارات العرض وشفراته.
وتمثل مسرحية “سويقة” تجسيدا لهذه الخصوصية الجمالية، وترسيخا لمبدأ المغايرة لصورة المسرح السائد، وخرقا لإواليات الفرجة التقليدية، ذلك أن عبد اللطيف انحيلة تخلص من سلطة النص الدرامي، واستعاضَ عن اللغة المنطوقة بلغة جديدة قائمة على الإشارة، والحركة، ولغة الجسد والموسيقى وغيرها من اللغات التي مكنته من الخروج من شرنقة اللغة الكلامية، وبلورة إيقاع ركحي حداثي، لكنه منفتح على المخزون التراثي. وذلك من خلال توظيف الموسيقى الكناوية والعساوية والرقصات والحركات الرياضية لعبيدات الرما وغيرها من الأشكال الموسيقية والممارسات الفنية التراثية الضاربة في أصالتها وعراقتها وتميزها وهويتها المغربية، مما يفصح عن وعي فني بعيد عن الاستلاب، والاسترجاع الحرفي لجماليات المسرح الغربي. ولعل هذا الوعي دفع اللعبة الإخراجية إلى التخلص من الانبهار الشكلاني والجماليات الفرجوية المرئية لفتح الفرجة على الفضاء الاجتماعي وقضايا الناس، حيث تحولت الحركية الجسدية من شكل استعراضي وقيمة جمالية فرجوية إلى رؤية للفعل الاجتماعي لرصد واقع النكسة، وتجليات المعاناة، ومظاهر التخلف، وأشكال الاعطاب المجتمعية. فالحركة بإيحاءاتها وحمولتها الدلالية تعبر عن إحساس كثيف بالتمزق والغربة والفراغ والعدمية والخواء وغيرها من الدلالات التي تؤشر إلى واقع معيش يحبل بالتخلف والإذلال والمهانة، وهو ما عبرت عنه مشاهد مليئة بالدلالة منها مشهد حرق الجسد الذي يحمل دلالة الاحتجاج ويحيل على قضية “أمي زهرة”، ومشهد كنس الأجساد المترامية داخل الركح في تشخيص دال على صورة الإذلال والقهر ومظاهر التراجع في واقع مزري تعريه وتدينه المسرحية بلغة استعارية جسدية تحرص على امتلاك وعيها الاجتماعي بالموازاة مع دلالتها الفنية وسلطتها الجمالية.
إن المسرحية تمثل صرخة قوية ضد التهميش والظلم والجهل والفقر وغيرها من مظاهر المعاناة التي يعيشها الشباب في حياتهم اليومية، والتي تغذي عوامل الياس والإحباط في نفوسهم، وتدفعهم إلى ركوب موجة الانحراف والتطرف وغيرها من أشكال السلوك وردود الأفعال السلبية التي تضر بمستقبل المجتمع وتماسكه واستقراره. فالأصوات التي تصدح قوية داخل المسرحية معبرة عن رغبة الشباب في التعلم والتثقيف هي إدانة صريحة لواقع يفرز مزيدا من عوامل التراجع والنكوص. وهي دعوة كذلك إلى انتشال هذه الشريحة من المجتمع من براثن الفراغ واليأس والجهل والانحراف، مما يفصح عن وعي اجتماعي يسائل اللحظة بشروطها وملابساتها ومتغيراتها، وذلك بحس نقدي نابه، وإدراك عميق للصيرورة الاجتماعية السلبية يتجاوز منطق التحريض ليتأسس على وعي حقيقي بخصوصية المرحلة ودقتها.
ولعل هذا الوعي لا يمثل حالة طارئة بقدر ما يفصح عن خلفية نظرية تسند التجربة الإبداعية للشاب عبد اللطيف انحيلة، وتؤسس لممارسة إبداعية مشبعة بالفكر قائمة على فلسفة للحياة، ونظرة للكون، ورؤية لوظيفة الفن وأدواره في المجتمع والحياة، ذلك أن هذا المنجز المسرحي ينتمي إلى ما يسميه صاحبه بـ “تيار الرحلة” الذي يعتبر الإنسان رحالة بطبعه، والحياة عبارة عن رحلة في الزمان والمكان والتاريخ والفكر والحلم. والرحلة، بهذا المعنى، تأسيس لوعي متجدد ينهض على تعدد التجارب الناتجة عن الهجرة الدائمة والحركة المستمرة التي تفضي إلى إغناء وإثراء حياة الإنسان ووعيه، كما تقود إلى الثورة على الوضع القائم، ونبذ أشكال التنميط والجمود والسكون. ومن ثم، فإن الرحلة شرط وجود، وهوية إنسانية بامتياز تكشف نزوع الإنسان إلى التجدد، وميله إلى الابتكار والإبداع، ونبذه للجمود الذي يعادل الموت والفناء.
والرحلة في المسرحية لا تتم في المكان فحسب، بل هي هجرة داخل الذات بهمومها وآلامها ومعاناتها وأعطابها، حيث الإحساس الكثيف بالاغتراب في فضاء تعيش فيه الذوات واقع التهميش والإقصاء وكل أشكال العنف المادي والرمزي، وتصر على المقاومة ضدا على العجز والإحباط، وكل ما يقود إلى الاستسلام، والإحساس المخيب بفداحة الوجود، ولا جدوى الحياة. ذلك أن المقاومة تتم من خلال فضح الواقع، والبحث عن واقع بديل يضمن الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ويرمي إلى الصمود والتجدد، ويؤمن بحتمية التغيير القائم على العمل والحلم، غير أن المسرحية لا تبدو مستكينة لخلفيتها النظرية، ومرجعيتها الفلسفية، والتصاقها بالواقع، بل إنها تحرص على مواجهة الواقع بأسئلته الحارقة، ومتغيراته الطارئة. فثقافة السؤال تبدو، في هذا السياق، مدخلا أساسيا للوعي بالذات والكينونة واللحظة في أفق تجسيد طموح المغايرة والتجاوز. وإذا كان النزوع إلى التجاوز يطبع المسرحية بطابع الثورية والتجريب، فإن ارتباطها بالمجتمع والتصاقها بهمومه وانشغالاته جعلها تمتلك وعيا عميقا بالهوية والذات الحضارية. ذلك أن مسرحية “سويقة” تحيل على أسواقنا بحمولتها التراثية ودلالاتها الاجتماعية ونَفَسها الاحتفالي التواصلي، وذلك أن السويقة فضاء اجتماعي بامتياز تتمازج داخله الأصوات والروائح والأذواق والحركة والأجساد في تناغم احتفالي وجمالي يجسد الخصوصية والحميمية المغربية. كما يؤشر على طبيعة الهوية، والرصيد المتوارث في بيئة نشم فيها عبق التاريخ، ونستحضر في فضاءاتها الزمن المغربي الضارب في عراقته في أصالته. لذلك، فإن المسرحية اشتغلت بوعي تجريبي يعيد الاعتبار للجسد، لكنه يدرك أن الصيغ والطرائق والتحققات الجمالية لا تنفصل عن الوعي بالكينونة والذات الحضارية. ومن ثم، تنزع الممارسة الدرامية في هذه المسرحية إلى الاحتفال “باعتباره وعيا يحقق وجوده في العمل الجمعي وفي المشاركة الجماعية المنتجة في تكوين عمل جماعي يلغي ديكتاتورية المؤلف/ النص الأدبي”(1). ويمنح للجسد سلطة وللركح ديناميته وحركيته الشاملة واحتفاليته الفرجوية التي تتعاضد فيها العناصر والمكونات والأنساق الركحية لصناعة فرجة تتسم بحيويتها وإبداعيتها وشفافيتهـــا. (2).
وهكذا، فإن الطابع الاحتفالي يتحقق من خلال الحركية والحرارة التي تطبع فضاء “السويقة”، والذي انعكس على دينامية الركح وإيقاعه، حيث بدا الركح مجالا لأنشطة لعبية متعددة، وحضور متألق ولافت لجسد الممثلين في تناغم مع الموسيقى والديكور والتأثيث السينوغرافي الذي، رغم بساطته، فهو يملك أبعادا إيحائية، ذلك أنه يتشكل من أبواب عالية مزخرفة تحيل على مهارة الصانع التقليدي المغربي، وتفصح عن جمالية العمارة التقليدية المغربية. هذا فضلا عن وجود صناديق خشبية وغيرها من مؤثثات الركحية التي تحيل على فضاء السويقة وجماليته وطابعه التجاري، وأنشطته المهنية، وانشغالات أصحابه واهتمامات مرتاديه. ومن ثم، فإن هذه الحركية التي تطبع الفضاء الذي تؤثثه الأجساد والأصوات والموسيقى التراثية يتجاوز الإحالة على المكان ورسم فضاء احتفالي بامتياز إلى صناعة فضاء يتعدى حدود المرئي ليشمل المتخيل، مما يفتح الفرجة على الفضاء الاجتماعي بشساعته وامتداده داخل مخيلة الجمهور واستيهاماته، حيث يستحضر الجمهور فضاءات من قبيل سويقة الرباط أو سويقة مراكش، أو سويقة سيدي قاسم (شارع الرباط) وغيرها من الفضاءات التي تضج بالحركة، والتي تجد امتدادها في ذاكرة ومتخيل الجمهور. وهكذا، فإن المسرحية استطاعت أن تطابق بين المسرح كفضاء للواقعية، بتعبير هيجل، والفضاء الركحي بامتداداته التخييلية واستيهاماته لدى المتلقين وهو ما نصطلح عليه في اللغة المسرحية بالفضاء الداخلي.
نخلص إلى أن المسرحية نجحت في التخلص من طابع الإخراج الواقعي القائم على ثباتية الديكور ونمطيته وفخامته لتمنح جاذبية وجمالية للركح تقوم على لغة الجسد، وسلطة الحركة، وتنوع الأنشطة اللعبية، وتناغم الموسيقى والحركة والرقص، مما أضفى مسحة شاعرية على الركح، وأشر على موهبة واعدة في مجال التمثيل والإخراج، وطموح لتأسيس فعل مسرحي يثور على القوالب الجاهزة، وثباتية الرؤية والفن والنظرة للكون والعالم لبناء المغايرة والتحول، واقتحام لحظة الإبداع باعتبارها صيرورة دائمة، ونسفا مستمرا لسلطة النموذج والجاهز. فتحية تقدير للإبداع الشبابي ومزيدا من التألق والعطاء .
: هوامـــــــش
• مسرحية “سويقة” من تأليف وإخراج وسينوغرافيا: عبد اللطيف انحيلة
مكان العرض : القاعة الكبرى لدار الشباب بسيدي قاسم
(1): خطاب التجريب في المسرح العربي” عبد الرحمان بن زيدان، الطبعة الأولى 1977، مطبعة سندي، ص6.
(2): نفسه، ص8