مضمار الانتحار وما بعد أفق التوقع عرض كاليغولا انموذجاً / يوسف السياف
ثلاثة حقب زمنية اختزلها خطاب عرض مسرحية (كاليغولا) – للمؤلف العبثي/ الوجودي جزائري المولد وفرنسي الجنسية الكاتب و(المخرج) والفيلسوف ( Albert Camusالبير كامو) و(للمخرج) الاوكراني (OleksandrKovshun اوليكساندر كوبشون), ضمن عروض (مهرجان بغداد الدولي للمسرح) والذي قدم يوم (الثلاثاء) المصادف (25-10-2022م), ذلك العرض الحاصل على الجائزة الاولى في المهرجان بعد ان حصلت على نفس الجائزة في مهرجان القاهرة التجريبي لعام (2021م) – حقبة (العصر الروماني) وبالتحديد منذ عام (37م حتى 41م) في ظل حكومة الامبراطور (غايوس) الملقب بـ(كاليغولا) اي (صاحب الحذاء الصغير) نتيجة حبه منذ طفولته للحرية وللحرب وركوب الخيل الامر الذي جعل امه ان تقوم في صناعة ملابس وحذاء صغيره له وبذاك السبب لقب بهذا الاسم – وحقبة ما بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية والمتمثلة بـ(موت الفلسفة القديمة) الحديثة والثورة الصناعية / انفجار الفلسفة مقابل البوس الكوني ومخلفات الحروب الطاحنة – وحقبة العصر الحالي ما بعد (2014م) وحتى عرض المسرحية والمتمثلة بعصر الحرب البيولوجية والتكنولوجية والحرب الباردة بالإضافة الى الحرب العسكرية (الاوكرانية) التي لا بد من ذكرها موطن (المخرج) ذاته, فما تلك الازمنة الثلاث الا محطات للنقاش تطرح على طاولة الدراسة ومن اجل تبيان ابرز اباطرة العصر الاسوأ حكماً على مر التاريخ, اذ ان (كاليغولا) وغطرسته وغبائه وامله بالحصول على الحرية والخلود وجنون العظمة وتحقيق الذات بـ(امتلاكه القمر/ المستحيل في وقته) لتعويض القدر بفقدان عشيقته / اخته ما هي الا امتداد متعالق مع غطرسة الطاغية (ادولف هتلر) وامله في امتلاك الارض ومن فيها لا سيما (فرنسا) موطن المؤلف, عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية انتجت هذا النص في ظروف قاهرة عاشها (المؤلف) نفسة مع افراد مجتمعه بالكامل, اذ ان ما اراده (كامو) في فلسفة نصه (الوجودية) تتمحور في اظهار هشاشة السلطة الرومانية التي تعد بنية سلطوية اعتكز عليها نص المؤلف كنسق ظاهر, الا ان هذا النسق كان بصيص من النور يضيء للباحث فسحة من الفضاء المظلم لمعرفة تلك الانساق المضمرة التي يعكسها المؤلف على واقعه, الاجابة مني عن سبب كتابة هذا النص من قبل المؤلف في سنة (1938م) كنتيجة لما حل ببلده (فرنسا) من دمار في ضل الاحتلال (النازي) لِأرضه وبقية بلدان العالم المحتلة, وردة فعل تقعد مذهبه الوجودي ورفضه التام للحرب لا سيما الحرب (الهتلرية), طاغية ومتمرد مثل (هتلر) بوجهه (الكاليغولي) لا يفهم معنى للحياة والوجود, اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية اجتمعت في سلطة غاشمة, اذ ان كل تلك الانساق والاحالات المكانية والزمانية التي كانت مضمرة في نص المؤلف لا سيما زمكانية ما (بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية) هي هواجس اراد المؤلف البوح بها, وصف انثروبولوجي مضمر يكسر افق التوقع في الادب العالمي, شخصيات تحمل فلسفت المؤلف وتدين حتمية الانسان والعبودية ومحاسبة البشر وغياب القيم, لا فرق بين ثنائيات (الجريمة / الفضيلة , العقاب/ الثواب, الحب/ الكره, الموت/ الحياة, الجنون/ العقل, النظرية / الممارسة, الفن / الحياة, المهيمن / الهامش), اذ ان (كامو) قدم لنا (كاليغولا) بلا اخلاق اشبه بالوحش المتعطش للدماء والعاشق المغرم المحب لكشف الحقيقة وزنا المحارم, لتأثيث مأثوراته الفلسفية لا سيما تصوره لطبيعة الانسان المتمثلة في ان (الرجل بلا اخلاق هو وحش تم اطلاقه على هذا العالم), جملة فلسفية تنفر من الانماط الهرمية للفكر والتحرر من الذات انطلق منها (كامو) ليؤسس احد اهم انساقه المرفلوجية / السلطوي, كامتداد ينطلق من شخصية (هتلر) رجوعا الى (كاليغولا), حقيبة معرفية تتضمن سياق نص مليء بالانساق المضمرة لا سيما ايقونة الحب المحرم, اذ اختلفت الانساق المضمرة عن التي نقرأها اثناء القراءة او المشاهدة, حب (كاليغولا) لأخته (دروزيلا) وممارسة الرذيلة معها والعزم على الزواج منها قبل موتها في بداية احداث المسرحية, بالاضافة الى اجبار النساء على النوم معهن بموافقة ازوجهن, وقتل الابناء امام ابائهم واجبار التجار على دفع الضرائب او اخذ اموالهم ومنع ابنائهم من الميراث, بالاضافة الى المشكلة الاغرب على مر التاريخ في فرضه للطاعون على شعبة نتيجة عدم وجود كارثة حدثت اثناء حكمه فما تلك الانساق التي اجد بانها غير معلنة الا سياق باحت به فلسفة (كامو) وتصب في الوحدة الفنية العليا للنص المتمثلة في الجملة الفلسفية (لكامو) الاشهر في القرن العشرين الا وهي (انتحار الفلسفة), الا ان وجهة نظر (كامو) تكمن وبشكل سطحي في فكرة الاستيلاء على القمر, ما هذه الفكرة الا فكرة غبية الا انها عظيمة في وقت كتابة النص, اذ ان ما يطرحه (كامو) في بنية النص المتشظية الكامنة بطروحاته الفلسفية لا سيما مفهومه حول الافكار العظيمة التي يقول عنها بانها في بدايتها سخيفة, وهذا ما تمثل في امال (الكيغولا) بالاستيلاء على القمر, في وقته كانت تحسب على انه فكرة غبية وسخيفة الا انها اصبحت عظيمة بعد ان بدأ علماء الفلك والوكالات العالمية بالبحث عن كيفية الصعود الى القمر, نعم هي معالجة غروتسكية الا انها تتمثل في انعدام المعنى والتمرد من اجل ولادة الوعي, فكرة تبحث عن هدف وجود الانسان بالإضافة الى الإجابة عن اسئلة (كامو) ازاء ديالكتيكية صخرة الملك (سيزيف / الخنفساء), وبهذا انطلق (المخرج) في خلق رؤيته الاخراجية ازاء هذا النص الفلسفي ابتداءً من الرفض للعلم الذي يأتي بالحروب للبشر, وما هي الا فكرة (كاموية) كانت منعكسة على رؤية (المخرج) في تأثيث بداية خلقه (لكاليغولا) ضمن خطاب العرض الكامل, بالإضافة الى ديالكتيكية عملية القتل ابتداءً من السيف وانتهاءً بالأسلحة الميكانيكي لا سيما (المسدس) التي وظفها (المخرج) رمزيا في عملية القتل, اذ عمد (المخرج) على خلق الشخصية من رحم التكنولوجيا, فما المؤثرات الصوتية والموسيقا والاكسسوارات التي حولت (كاليغولا) وكانه شخصية سايبورغية يتحكم القمر (الكترونيا) في افعالها, عرض مليء بالدلالات والعلامات التي توحي بانه (كاليغولا) ولد من رحم العلم (الكاموي) الذي يأتينا بالحروب, نسق ثقافي مضمر يجده الباحث محورا مهم في تحويل هذا النص السردي النفسي الفلسفي الى خطاب يوازي العروض المعاصرة, اذ ان (العبثية تولد من صوت الكون) جملة لا يمكن ان تهمل وانت تعزم على اخراج نص (لكامو), تبناها (مخرج) العرض واشتغل عليها, وبذا نجد ان البوليفونيا المسموعة والمقروءة طرحت كوسيلة لكسر افق توقع الجمهور ازاء رؤية (المخرج), فما مشهد الافتتاح بوقعه المؤثر انطلاقا من سكون الحركة وانعكاس التكوين الجسدي وقفة الممثلين (ستوب كادر) على الجدار/ الكتلة الاكبر على المسرح وبهوت لون الاضاءة ألّا لوحة استذكارية لما جرا من مأساة في زمن (كاليغولا) لذلك الشعب المظلوم, اراد منها (المخرج) ان يقول كرسالة للسلطات الظالمة المتعطشة للحرب, في ان المشهد يعاد وسيخلد التاريخ افعالكم, فما يفعله الطغاة ما هو ضرباّ من الجنون, جنون رمز له (المخرج) في زي الشخصيات.
ان ما بعد افق التوقع وانتحار الفلسفة تركيبتان للحياة وتجربة موضوعية اعتكز عليها (المخرج) في تكوين عرضه المسرحي, اذ ان شخصيات العرض وهي تقفز للخروج من الحدث المرئي ما هو ألّا ذهاب الى المجهول, وما انعدام المعنى في شخصية (كاليغولا) الا تمرد من اجل ولادة وعي اخر, وبذلك نجد ان (كامو) في خطاب النص رافظاً للشعراء كنسق معلا للجمهور وواضح في الحوار من خلال طرده لـ(شيريا) كمثال للشعراء الذين اعتبرهم شاهدوا زور وكاذبون وتنقصهم الحرية, الا ان ما اراده (كامو) في هذا الحوار ونجده مضمراً في نصه هو في رفضه للمثقف كونه يستطيع ان يجعل عقله مترابط مع نفسه, مما حاول ان يناقض ذلك بشخصية (كاليغولا) على انه وصف للفحولة وعظم الذات لطرح انساقه القبيحة والمتناقضة الغير واعية الحاضرة مع الشخصيات الاخرى المؤسلبة والبائسة, وبذات المعنى بنى (المخرج) سينوغرافيا عرضه من خلال ابراز الانساق الثقافية المتمثلة في شخصية (كاليغولا) وعشيقته الراحلة (اخته), بالاضافة الى عشيقته الثانية تلك الشخصية التي توافقه الراي في الاستيلاء على نساء الغير والترحيب بمفهوم زنا المحارم وطرح فكرة فتح بيوت الدعارة, مما يجعل الباحث ان يكشف سياق العرض الغير معلن فلسفيا في ان (المخرج) واستخدامه للأسرة الطبية المعاصرة التي احاطت الفعل المسرحي, قطع اسفنجية كونت جدار يحيط (روما) بأكملها, نسق يعلن عن تفشي الفساد ورغبة (كاليغولا) الجامحة بامتلاكه عنوة اعراض الرجال بل وصل به الحال للاستيلاء على اخته, سينوغرافيا انطلقت من فيض الثقافة تترجم حال الدولة. وبتكاملية السينوغرافيا مع تكرار الحركة الميكانيكية اثناء خروج ودخول الشخصيات ما هي الا علامة رمزية للطاعة العمياء كديالكتيكية مستمرة طيلة حكم الطغاة المتعاقب في فرض للسيطرة القمعية على المجتمعات, ولما لشخصية (كاليغولا) من تقارب مع شخصية (بوتن) رئيس دولة (روسيا) المعلن عن بدء الحرب على البلاد (الاوكرانيا) بلد (المخرج) من عام (2014م), ما هي الا استمرارية لرؤية (كامو) في نص المسرحية المبنية على شخصية (كاليغولا), اذ ان ما يريده (المخرج) في ظل الحرب الانية ألّا انعكاس لما اراده الكاتب وقت كتابة النص, وبذا اختزل خطاب العرض ثلاث حقب زمنية لتأكيد رفضه للحرب.