كتاب الخميس (الحلقة السادسة والثلاثون)/ عرض و قراءة: د. عبد اللطيف ندير

اسم الكتاب : مسرحية ” أهل المخابئ “
الكاتب: كريم الفحل الشرقاوي
الناشر: منشورات مركز نون للأبحاث الدرامية والمسرحية والاستراتيجيات القافية

*****************************

صدرت خلال هذه السنة (2019)  ” مسرحية ” أهل المخابئ “، للكاتب والمخرج المسرحي  “كريم الفحل الشرقاوي عن منشورات مركز نون للأبحاث الدرامية والمسرحية والإستراتيجيات الثقافية

والفحل الشرقاوي من بين اهم الكتاب المسرحيين المغاربة الذين يكتبون المسرح الساخر باللغتين العربية والأمازيغية من منطلق البحث والتجريب، ويمتلك رؤية ومشروعا للمنجز المسرحي الذي يشتغل عليه، مما يجعل تجربته وازنة وذات أفق متنور، إذ تتميز بالتعدد في التواصل والتجديد في الإنتاج .

قيمة الفحل الشرقاوي الإبداعية تكمن في المزاوجة بين التأليف والإخراج، وفي عملية الكتابة يجمع كل اصنافها من الإعداد إلى الأدرمة، ومن التأليف الى التوليف، ومن التشظي الى الاقتباس، لذلك فهو متعدد ومتجدد ومجرب، علم المسرح و جال دروبها وخبر اصوله وفروعه واغترف من ينابيعه ليكتب بحسه وحدسه، ويبدع بعشقه وصدقه ووفائه

ريبرتوار الفحل الشرقاوي حافل بالعطاء والاعمال و التجارب المسرحية التي أنجزها منذ الثمانينات الى الان اغلبها نال جوائز في التأليف أو في الإخراج أو في العمل المتكامل من مؤسسات ومهرجانات كبرى داخل وخارج المغرب ومن أمثلة ذلك نذكر على سبيل المثال مسرحيته ” التمثال ” االأكثر تتويجا في تاريخ المسرح المغربي بحصولها على ثلاث عشرة جائزة في موسم واحد. والتي قدمها بثلاث معالجات درامية متنوعة، وثلاث رؤى إخراجية مختلفة.

لذلك اشاطر القول الدكتور عبدالكريم برشيد حول ما قاله في حق هذا المبدع في تقديمه لمسرحية اهل المخابى: “اكتشفت في هذا المبدع بصره الحاد وبصيرته الصادقة وفراسته القوية .. واكتشفت جرأته وشجاعته الأدبية.. فهو مستعد لأن يقول كل شيء .. وأن ينطق كل شيء .. وأن يمسرح كل شئ .. وألا يخشى من أي شئ .. أو من أي أحد .. محافظا على رأس المبدع عاليا . واكتشفت فصاحته الغامضة وغموضه الفصيح .. وعرفت أنه من سلالة المبدعين المنقرضين .. الذين لم تبق منهم اليوم إلا قلة قليلة.  فهو لا يكف عن السفر والرحيل .. وهو دائم الاختراق والاحتراق .. وهو لا يكون إلا حيث تكون الاشياء أكثر صدقا وأكثر جمالا وأكثر نبلا وأكثر صفاء وأكثر فصاحة وأكثر بلاغة” .

لقد عرفت كريم الفحل الشرقاوي منذ أواخر الثمانينات، ومنذ ذلك الوقت الى اليوم لم يتوقف عن ممارسة المسرح مؤلفا ومعدا دراماتورجيا ومخرجا واستطاع خلال مسيرته أن يبصم تجربته بتبات ويحقق من خلالها رصيدا كبيرا من الاعمال استأثرت اغلبها اهتمام النقاد والباحثين وجمهور واسع من المتتبعين.

لا يتوفر وصف.

 

وبالعودة الى النص المسرحي “اهل المخابئ” فان اصداره يعتبر حدثا مهما ليس لصاحبه الفحل الشرقاوي فحسب، بل للخزانة المسرحية المغربية، لأنه يعتبر حقا تجربة مسرحية جديدة في الكتابة المسرحية الساخرة ،بحيث حاز بها على الجائزة الثانية في مسابقة النصوص المسرحية المغاربية التي نظمها اتحاد الفنانين المغاربيين بمدينة الدارالبيضاء والذي تعهد حينئذ بطبعها ولكن مع الأسف لم يكتب لها النور ولم يف بوعده، وبها أيضا مثل المغرب في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. وفي تقديم هذا الكتاب اعتبرها الدكتور عبد الكريم برشيد نصا جديدا وغريبا ومثيرا ومدهشا في كل شيء. نص فيه سريالية تقفز على الواقع.. وفيه شاعرية تتحدى النثرية.. وفيه عبثية تخاصم المنطق وفيه مشهدية تتجاوز الكتابة بالكلمات فقط.. وفيه شخصنة للأشياء.. وفيه أحلام تصل لدرجة الكوابيس وهي تعيد ترتيب هذا الواقع وتؤثثه بنفس عناصر هذا الواقع وبنفس المكونات والمفردات التي نعرفها.. مثل هذا النص لا يمكن أن نقدمه بالكلمات أو ننوب عنه في تقديمه إلى الناس لأنه مكتوب بلغة أخرى.. وعليه فإن ترجمته لابد أن تكون خيانة

لذلك فأعتقد أن نص “أهل المخابىء” يعتبر من بين النصوص المسرحية العربية القليلة الموسومة بالايحاء والمنفتحة على تعدد التأويل وبناء قراءات دلالية، لأنها تفسح المجال للقارئ وجمهور المتلقين للتأمل في منظومة موضوعها ولغتها وحواراتها وشخصياتها …وهذا ما يجعلنا أن تصنف مشروع هذا النص ضمن النصوص التي ستحقق طفرة نوعية في مشروع كتابته، وفي بناء رؤيته

 

الاطار العام لموضوع المسرحية وسياقاتها الدلالية

“اهل المخابئ”  نص فنتازي سريالي يتأسس على تسع طبخات تدور أحداثه وسط مخبإ تحت الأرض.. تعيش بداخله خمس شخصيات غراىبية في أطوارها وعجائبية في شكلها وعبثية في تفكيرها، شوهتها الحرب، واستأنست بدوي القصف الذي يتكرر سعيره ليل نهار. و في كل لحظة وحين، خصوصا بعدما استفحلت الازمة وطال الحصار ونقصت المؤونة وتشقق المخبأ وأصبح آيل للسقوط، كل هذا تسبب في تصدع كيان المجموعة وانشطار تفكيرها بنظرة عبثية وبرؤى سوداوية

ويمثل هذا الشعب المخبئي مجلس نيابي منتخب يسمى “مجلس المخابئ السعيدة” اذ يتكون من  الشخصيات التالية :

السيد عجين: وهو طباخ للعجائن والفطائر.. يحلم بأن يبتكر معادلة عجينة جديدة تنسف كل المعادلات والخلطات المخبئية السائدة والمحنطة..

السيد ملفوف : وهو طباخ.. يحلم بأن يلبس الناس جميعا جلدا محايدا…

السيد النصف : وهو طباخ مختص في طبخ العظام والجماجم.

السيدة عروس  : امرأة عانس في الأربعينات ترتدي ثوب الزفاف الأبيض وقبعة الطبخ.. تحلم بعريس خارج المخبإ ، وبزوج لا تحمل جيناته مواصفات مخبئية…

السيد  المندوب : الرجل العسكري..المتحكم في اعضاء مجلس المخابئ السعيدة .. ينظم اجتماعاتهم ويوجههم ويسيرهم ويتحكم في قراراتهم

كل شخصية من هذه الشخصيات تعيش على حلم  يسكنها، تريد أن تحققه رغم ما يحيط بها من حصار وتذمر .

يجتمع أعضاء ” مجلس المخابئ السعيدة ” اجتماعات مستمرة ودائمة يناقشون فيها اوضاعهم ويدافعون فيها على رؤاهم، فيتامرون فيما بينهم أحيانا، ويتصارعون ويتراشقون ويتحالفون من أجل بناء توازنات وتحقيق احلامهم المختلفة ، غير أنهم في اخر المطاف يظهر السيد المندوب ليؤثر في قراراتهم فيغير مواقفهم المتضاربة حول مصير الشعب المخبئي الأبي. فيزرع في افكارهم التفرقة حتى لا يتوافقوا فيما بينهم، فينشأ بين الأعضاء صراع وجودي مرير من أجل العضو الوحيد الناجي من المخبأ المتصدع الآيل للسقوط.للانتقال الى المخبإ الفولاذي الاكثر امانا .

غير ان حقيقة الامر أن ما يبنيه المندوب للمجموعة من طموح غير قابل للتحقق، لأنه حقا هو من يسير المجموعة بما يتناسب وارادته هو، وبما يتوافق ومخططاته الكابحة لآمال وأحلام كل شخص من المجموعة.

تندرج هذه المسرحية ضمن ما يسمى بالمدينة الفاسدة  ديستوبيا ( Dystopia) التي تنبني على تذمير المجال وتقتيل الأبرياء تشويه الكائنات ووترويع النفوس، كل هذا نتيجة للحروب التي يصنعها الانسان والتي تكون اثارها سلبية على المجتمعات والانسان والطبيعة، مما يجعل انعكاساتها على الافراد وخيمة وماسيها  النفسية والجسدية تبقى قوية البشاعة والفضاعة.

وقد ظهرت مثل هذه الكتابات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فقدمت نماذج كثيرة ومتعددة من الاعمال الروائية العبثية والمسرحيات الساخرة التي تندرج فيما يسمى بمسرح الدوائر المغلقة، وذلك بشخصيات غرائية وعجائبية تسخر من الواقع ومن فضائع الحرب على الانسان والطبيعة بكثير من الانتقاد والسخرية

أهل المخابئ هم مجتمع مصغر، يعيشون مكرهين داخل فضاء محاصر وواقع مغلق، يتقاسمون فيما بينهم معاناة لا نهاية لها ومأساة تتجدد مع دوي مستمر لصفارات الإنذار  ومعاناة قاسية في نقص المعونة والمؤن، هم مجتمع يتوزعهم الأمل والألم، يؤمنون بواقع ديموقراطي تحكمه الانتخابات في اتخاذ القرار لكنهم يمارسون فيما بينهم الطبخات والمؤامرات والدسائس والجلسات السرية، يسخرون من بعضهم البعض، تجمعهم وتوحدهم الاجتماعات وتفرقهم المواقف، يبيعون فيما بينهم الوهم ولا يستقر حالهم على أي حال.

الغروتيسك  في اهل المخابئ

ان المتأمل في مسرحية “أهل المخابئ” يلاحظ انها تتشكل من شخصيات، لها مواصفات خاصة في أسمائها وأشكالها وهيئاتها وأحجامها، وقد صاغها الكاتب في سمات عجائبية تتسم بالكاريكاتيرية، لتفي بالحدث المأساوي الذي تعيشه في واقعها المحاصر في المخبإ جراء الحرب، وتستحضر من خلاله العمق العبثي لتسخر مما يقع، وهي بذلك تقدم رسائل مشفرة في خطابها وتفكيرها وحلمها.

شخصيات أهل المخابئ مشوهة تشويها عضويا تعبيرا صارخا عن مآسي الحرب

فشخصية النصف مبثور نصفها السفلي بدون رجلين وبدون أعضاء تناسلية لكن حلمها كبير في ان تتزوج و تنجب ابنا “الربع” الذي به يعتقد انه سيحرر البشرية المخبئية من أنفاقها وسراديبها وعوالمها المخبئية المظلمة… ، في حين أن شخصية ملفوف فهي شخصية منزوع عنها جلدها بدون ملامح بدون بصمات ومغلفة ومدثرة كليا بالتراب وكأن صاحبها انسان من عجين طيني، بل من كوكب آخر .

في حين أن المندوب رجل غليظ بشكل مبالغ فيه، كل شيء فيه منتفخ، أشبه ما يكون بكرة ضخمة برجلين ورأس، في حين أن باقي الشخصيات (عروس وعجين) تبقى شخصيات كاريكاتيرية في مظهرها وليس في خلقتها، لكن العجائبية فيهما تتجسد من خلال سلوكهما وافعالهما بل وحتى احلامهما وطموحهما .

لا يتوفر وصف.

 

اللغة الحوارية للمسرحية :

ينبني الحوار في مسرحية “أهل المخابئ” على لغة عربية فصيحة كتبها المؤلف بعين المخرج، وحدد معالمها من رؤية التقني، اختار ألفاظها بدقة متناهية حسب كل شخصية وأبعادها النفسية والاجتماعية، وانتقى لذلك جملا انشائية من اجل خلق جو مسرحي متحرك تتفاعل فيه الشخصيات بين الاستفهام والتعجب والامر والنداء وما بين الترغيب والترهيب والعطف والرجاء وما الى ذلك … وقد لازم هذا الحوار كثير من الإرشادات المسرحية التي عمد فيها المؤلف الى توجيه القارئ او المتلقي وتوهيمه بالفضاء المناسب والاطار الذي يرغب فيه هذا المؤلف، لتكون القراءة أو التعامل مع النص مبني على قصدية وملاءمة محددة موصوفة لكل شخصية وللجو العام للفضاء المسرحي

قبل الختم :

لقد استهوتني قراءة هذا النص الممتع والجميل مما جعلني أن اعيد قراءته عدة مرات دون كلل أو ملل، لما يتوفر عليه من مجهود من طرح وفلسفة حول الوجود وحول قيمة الانسان في زمن الحرب ، ولما يتوفر فيه على حبكة درامية قوة وبناء متين، ولغة واصفة وشاعرية، وأسلوب وحوار رصين، فقراءته ماتعة حد الغواية تستفز المتلقي لأن يكون امتدادا للإبداع والخلق داخل عوالم موضوعها الإنساني، لذلك انصحكم انتم أيضا بقراءته لأنني أعتقد يقينا أنه ستستهويكم قراءته مثلما استهوتني، فأهنئ صديقي كريم صادقا على هذا المجهود الجبار الذي يعتبر طفرة نوعية في الكتابة المسرحية المسائلة واشكر وزارة الثقافة لاختيار هذا النص ضمن برنامج باقي الإصدارات واشكر جمهورنا المسرحي المتتبع لفقرات المهرجان وكل عام والابداع المسرحي المغربي بخير .

لا يتوفر وصف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت