“سدرة الشيخ” … تراجيديا شعبية/ محمد الروبي

عن عرض سلطنة عمان الذي جاء مسك الختام لمهرجان المسرح الخليجي بالشارقة

 

في ختام طيب منحنا العرض العماني (سدرة الشيخ)، الذي قدمته فرقة صلالة الأهلية، متعة بصرية وفكرية أهم ما يميزها أنها لا تتعالى على الجمهور ولا تتعمد استعراض قدرات إخراجية غير مبررة. فكل شيء في هذا العرض محسوب بدقة وانضباط . المشهد يؤدي إلى المشهد والغناء والموسيقى جزء أصيل من بنية العمل. والتمثيل تحكمه القاعدة الذهبية ( لا شيء أكثر لا شيء أقل ) إلا في قليل من مشاهد غلبت عليها المبالغة وحرمت فيها الإضاءة الغائمة بعض الممثلين من إظهار انفعالاتهم على الوجوه.

اعتمد العرض على نص – كتبه المخرج – مستوحيا حدثا تاريخيا سبق وأن استوحته رواية ( الشيخ الأبيض ) التي كتبها الشيخ سلطان القاسمي ونشرت منذ سنوات. وهي الرواية التي وقعت أحداثها في بداية القرن التاسع عشر عن ذلك الرجل الأمريكي الأبيض ( جوهانس بول ) الذي تبناه طفلا الشيخ محمد بن عقيل أحد سادة ظفار والتاجر المعروف وصاحب أسطول من السفن ومنحه اسم عبد الله.

وعلى الرغم من زخم الأحداث والشخصيات بالرواية إلا أن المخرج الكاتب ( عماد الشنفري ) استخلص منها حدثا وحيدا يليق بالدراما المسرحية مكثفا صراعه حول سؤال وحيد وهو من الأحق بالحكم؟ هل هو ذلك الذي ولد على هذه الأرض ويسعى في فسادها أم ذلك المستنبت فيها الحافظ لفضلها الساعي لنمائها؟

قد تكون صورة ‏‏‏‏٥‏ أشخاص‏، و‏أشخاص يقفون‏‏ و‏منظر داخلي‏‏

على هذا السؤال بنى عماد الشنفري أسس صراعه، صانعا من بطله (عبد الله | جوهانس ) بطلا تراجيديا يحمل على كتفيه خطئا لم يكن هو سببه. وهو الصراع الذي يتشكل منذ المشهد الثاني للمسرحية حين عاد الشيخ محمد بذلك الطفل ممسكا بيده، معلنا قومه بأنه تبناه بعد أن مات أبويه ضمن من ماتوا في صراعه مع غزاة جاؤوا يحتلون أرضه. إعلان الشيخ تبنيه للطفل الغريب يسد علي أخيه ( سعيد ) ممرا كان ممهدا لتولي الحكم بعد موت أخيه، وهو ما لن يرضى به. ولكنه كما (ياجو- شكسبير) لن يلجأ إلى العنف المباشر بل إلى الحيلة للخلاص من الشيخ وترتيب أن ينتخب شيخا على قبيلته من بعده.

لن يتوقف الصراع عند هذا الحد، لكنه سيمتد حين يربط الحب بين عبد الله ابن الشيخ محمد بالتبني وبين مريم ابنة الشيخ سعيد الكاره لهذا العبد الله. وهو الحب المحكوم عليه بالموت، بل سيموت بالفعل حين تصرخ مريم ملتاعة على أبيها الذي نال جزاءه موتا بعد أن اكتشف عبد الله أن سعيدا هو من حرض على قتل أبيه. فكيف سترتبط مريم بمن كان سببا في فقدانها الأب؟

من هذه الأحداث صنع المخرج عرضا مسرحيا تميز بانضباط الإيقاع محولا المكان الواحد إلى أماكن عدة رغم ثبات الكتلتين الرئيسيتين عبر فواصل الإضاءة وعبر شاشة الخلفية التي تتغير عليها الأماكن وتمنح عمقا لخشبة المسرح. فمرة هي بحر تتقابل فيه سفينة الشيخ محمد مع سفينة الغزاة في المشهد الأول ومرة هي سماء لصحراء تحيا عليها القبيلة ومرات هي ظلال لسحب غائمة تعكس حالات شخصيات العمل. وأمامها تقبع كتلتين، الأولى هي تلك السدرة الضخمة المعادلة لثبات القبيلة ورسوخها وأيضا لما تمثله لعبد الله من انتماء لا للمكان فقط ولكن للقيم التي رباه عليها أبوه. وهو ما سيؤكده المشهد الأخير حين يلوذ بها عبد الله بينما الحبيبة مريم تنوح على أبيها في وسط المسرح. في مقابل هذه الكتلة ( السدرة ) تقبع كتلة أخرى أنحف كثيرا من السدرة للتتراوح المشاهد بين هذه وتلك حسب طبيعة المكان الذي يدور فيه المشهد.

قد تكون صورة ‏شخصين‏

على جانب أخر نجح المخرج في أن يغلف مشاهده بغلالة موسيقية وغناء حي كانا بمثابة المعلقان علي الأحداث من دون تزيد، بل وزادها ثراء جمال صوت قائد ما يمكن أن نسميه ( الجوقة) أو (الكورس) بالمفهوم اليوناني القديم ولكن برداء عربي موشي بأغان وإيقاعات تراثية حققت متعة مخلوقة من الأحداث ومتناغمة معها وغير مقحمة عليها، فمنحت للعرض جمالا مضافا.

وسط هذه الأجواء ( نصا وتشكيلا ) جاء أداء الممثلين ( باختلاف درجات الخبرة ) منسجما معها، ضابطا لإيقاع العرض، كاشفا عن قدراتهم الأدائية وعن استيعابهم لمنهج العرض ورؤية مخرجه.

لكن يبقى أن الاهتمام المبالغ فيه أحيانا ( وإن كان بدرجة أقل من عروض أخرى ) بجمال الصورة ( عبر الإضاءة الكابية ) حرم المتلقي في كثير من المشاهد من رؤية وجوه الممثلين العاكسة لانفعالاتهم. وهو ما يجب أن ينتبه إليه كل من المخرج ( عماد الشنفري) ومصمم السينوغرافيا ( خالد الشنفري) إذا ما قدر لهما إعادة هذا العرض في مناسبة ومكان أخرين.

أخيرا نقول وبضمير مستريح أن هذا العرض – وعلى الرغم من تلك الملاحظات التي أوردناها هنا – هو عرض لا يمكن أن تتجاهله منصة الجوائز. وأظنه سينافس بقوة على عدد كبير منها.

 

قد تكون صورة ‏شخصين‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت