(رضوان احدادو) في تعدديته من الكتابة الدرامية إلى التأريخ للحركة المسرحية بالشمال / د. محمد محبوب
لا يمكن الحديث عن مسار وسيرورة المسرح المغربي تأليفا وبحثا دون استحضار شخصية رضوان احدادو بتجربته الزاخرة والثرية، فهو يمثل بالنظر الى خصوبة عطائه وقيمة ابداعه، وعمق أبحاثه وتنظيراته تلخيصا وتكثيفا لتاريخ المسرح المغربي، وعلامة مضيئة من علامات المسرح بمنطقة الشمال. لقد وسم الرجل المسرح في الشمال بسمات هي الوشم على الجسد أو الحفر على الرخام، كما يقول برشيد، إنه رجل متعدد المواهب والكفايات ومتنوع العطاء. فقد كتب القصة القصيرة، والمقالة النقدية، وأرخ للمسرح، ونظر للفعل المسرحي منخرطا في إثراء النظرية الاحتفالية، وتعميق تصوراتها ورؤيتها للعمل الدرامي باحثا عن صيغة جمالية درامية عربية تنزاح عن الصيغة الجمالية الغربية .
غير ان الرجل يبقى رمزا كبيرا من رموز الإبداع في مجال الكتابة الدرامية خاصة، حيث راكم رصيدا جماليا مميزا، ودخيرة أثرت المكتسب الفني والرصيد المغربي . و يكفي الرجوع الى ريبرتواره المسرحي لاستكشاف هذا الثراء كما وكيفا، فانطلاقا من نصه المسرحي (الأرض والزيتون) مرورا بنص (في انتظار زمن الجنون) و (اهل المدينة الفاضلة) و (زمن مضى ولم يمض) و (البحث عن متغيب) و (الحافلة رقم3) و (طارق الذي لم يعبر) و (المتنبي يخطئ زمنه) و(الباب والرأس) و(تيرينا والملاك الصغير) وانتهاء وليس نهاية ب(المشاءاو الأراجيح تحلق عاليا)، وغيرها من المسرحيات التي تربو عن الأربعين مسرحية يحضر مبدع متميز جذير بصفته واسمه يفرض علينا التقدير، ويجسد النبوغ المغربي في تجلياته ومظاهره البارزة، وأبعاده الحداثية والتجديدية التي منحت للهواية المسرحية قيمتها ومكانتها على المستوى الفكري والجمالي. لقد أسس المبدع رضوان احدادو مع ثلة من المبدعين الهواية على قاعدة الفعل النضالي والممارسة الجمالية الواعية، وأرسى دعائم كتابة مغايرة، تفجر القوالب الجاهزة والأنماط المستهلكة، وتبني نصا حداثيا دراميا يرشح ببلاغته اللغوية وجماليته الركحية، يعب من التراث بخصوبته وأصالته، وينفتح، في الآن ذاته، على الصيغ والطرائق الجمالية الحديثة. كما يتحصن بمرجعيته الاحتفالية التي تشكل الخلفية النظرية التي ترفد وعي الكاتب وتثري ممارسته الجمالية .
كل ذلك، جعل رضوان احدادو يمتلك حسا فنيا متميزا ورؤية عميقة قائمة على استكشاف الواقع وقراءته، واعادة انتاجه وفق منظور مركب يزاوج بين الخصوصيات الجمالية والانفتاح على الشرط الاجتماعي.
والواقع أن تجربة الأستاذ رضوان احدادو تبدو مرتبطة ارتباطا عضويا بسيرورة تشكل الممارسة المسرحية المغربية، فهي تساوق هذه التجربة و تتصادى معها، وترسم ملامح تطورها وحدود تمثلها للواقع. ومن ثم، فإن الكتابة الدرامية لدى هذا الكاتب المبدع جاءت موصولة بالتحولات الاجتماعية، وتطور الأنساق الجمالية للمسرح، مما أسس لتجربة غنية تزاوج بين الفعل النضالي، و سيرورة الانتهاك والخرق بما هو سلوك ابداعي فني (1). وإذا كانت تجربة احدادو تتصادى مع الواقع، وتعكس خصوصية المرحلة ومتغيراتها، فإن ذلك لا يعني اكتفاءها برسم ملامح الواقع واستنساخه، بل إنها كتابة تقوم على تثوير الشكل والمضمون، حيث يصنفها الدكتور خالد أمين ضمن خانة الكتابة الطلائعية باعتبارها كتابة قائمة على الجرأة، فهي تقتحم ساحة الصراع السياسي والاجتماعي والإيديولوجي معبرة بنفس ثوري عن قضايا المجتمع، ساعية الى استكناه الواقع، ومحاولة ضبط سيرورة واليات اشتغاله، مما يجعل الممارسة المسرحية مشروعا مفتوحا يستهدف تجاوز حالة الثبات والتخلف لصياغة مشروع حداثي .فالكتابة تمثل لدى الرجل التزاما وفعلا نضاليا، وممارسة جمالية واعية. ذلك أن الوعي بالشروط التاريخية والاجتماعية ليس كافيا، فهو في حاجة الى وعي جمالي قائم على الخرق، وتحطيم المألوف والعادي والثورة على سلطة النموذج والجاهز (2). لذلك تنزع تجربة احدادو الى الرفض للسائد والمبتذل والتمرد على الكائن، واستشراف لما هو ممكن وأرحب (3). فقد انخرط رضوان احدادو في مغامرة التحطيم والتغيير استنادا الى وعي تجريبي، مما دفع الناقد خالد أمين الى اعتبار هذا النوع من المسرح طلائعيا وتجريبيا بامتياز، مسرح مهووس بشتى أشكال الرفض والتمرد على التقاليد المسرحية المهيمنة (4) وإذا كان الوعي بالمغايرة والنزوع الى التجاوز سمة طبعت الكتابة لدى رضوان احدادو، مما جعل الدكتور خالد أمين يصنف تجربته في خانة الطلائعية، فإن الدكتور عبد الكريم برشيد يقرأ التجربة من زاوية انتماء الكاتب الى التيار الاحتفالي معتبرا ان مسرحه يندرج ضمن خانة المسرح الإنساني، وهو مسرح (ينطلق من الجزء الى الكل من البسيط الى المركب ومن المحلي الى العالمي و من اليومي الى التاريخي ومن الواقعي الى الأسطوري) (5).
الأستاذ رضوان احدادو
وعليه، فإن تجربة رضوان احدادو تجسد حصيلة معرفة عميقة بأسرار الصناعة المسرحية، وهي من جهة أخرى وليدة ارتباطه بمحيطه وتجربته المعيشة . فقد جاور الرجل رجالا عظاما من طينة عبد الخالق طريس و تأثر به، وعايش الأستاذ العربي المساري، وتأثر بفكر علال الفاسي. وبذلك، استطاع أن يشكل شخصيته المبدعة التي قادته الى الانخراط في الفعل السياسي بصفاء الفكر، ورهافة الفنان، ومبادى وقناعات المثقف الأديب. وهذه القناعات دفعته الى إعادة الاعتبار لرجالات الفن والفكر والسياسة بالشمال مؤرخا موسوعيا للظاهرة المسرحية والأدبية ولرجالات الفن والإبداع والسياسة بالشمال. وفي سياق ذلك، أصدر كتابه الرائد عن التجربة المسرحية لعبد الخالق طريس، ذلك الرجل الوطني الصادق الرهيف الإحساس، الممارس للكتابة المسرحية، التي وظفها في خدمة الوطنية والالتزام الوحدوي ضد النزوع الاستعماري الانفصالي . كما أرخ رضوان لشخصيات ورموز إبداعية أثرت الحركة المسرحية بالشمال مثل ثريا حسن 2005 محمد الدحروش 2006 ومحمد النشناش 2009 . هذا فضلا عن تأريخه للحركة المسرحية المغربية المعاصرة، مبرزا في الآن ذاته مكانة تطوان باعتبارها معلمة تاريخية مغربية حاضنة للمسرح منذ 1860. وهكذا فإن رضوان احدادو المتعدد الانتماءات، على حد تعبير برشيد (6)، فهو التطواني، والموريسكي، والأمازيغي … تشبع بروح الحضارة المتوسطية ذات النفحة الأندلسية .وذلك لأن الرجل منغمس في جغرافية الفضاء مضمخ بأريج المكان (7). ولعل وفاءه لهذا الفضاء الحضاري دفعه الى ركوب مغامرة التأريخ والتوثيق ساعيا الى ترميم الذاكرة المسرحية المشروخة، واستعادة وهج الابداع الركحي بالشمال ضدا على نزوعات التهميش والتغييب .وقد ركب هذه المغامرة متسلحا بزاد أساسه العشق للمسرح ، ورصيده في ذلك ثقافته المسرحية العميقة والواسعة ،وخلفيته المنهجية التي اكتسبها من تمرسه في الكتابة الدرامية، والتقصي في المجال الواسع للمسرح. هذا فضلا عن اعتزازه بالانتماء الى هذا الفضاء الذي يحمل عبق التاريخ، ويختزن موروثا ثقافيا وحضاريا زاخرا يعكس تلاقح الثقافات وتنوعها في المشهد التطواني والشمالي عامة، مابين ثقافة عربية ذات جذور مشرقية، وأخرى اندلسية موريسكية، وثالثة أمازيغية، مما شكل حافزا أساسيا للتنقيب والبحث في تاريخ المسرح بالشمال رغم غياب الدعم المؤسسي الذي يحول الفعل التأريخي من مبادرة فردية معزولة ومحدودة التأثير الى مشروع حضا ري طموح يرمي الى بناء الذاكرة المسرحية والثقافية عامة، واعادة صياغة التاريخ المسرحي المغربي على أسس علمية بأدوات منهجية تقوم على التوثيق العلمي الدقيق من خلال الاستعانة بالوثائق الخطية، والشهادات الواصفة للعروض المسرحية، و مجمل الأنشطة ذات الطابع المسرحي التي شهدتها مدن الشمال وبقية المدن المغربية خلال المراحل الأولى لتشكل وظهور فن الخشبة ببلادنا. وقد نجم عن النبش في ذاكرة المسرح بالشمال إضاءة جزء هام من تاريخنا المسرحي، وتسليط الضوء على جهود الرعيل الأول من المسرحيين بمنطقة الشمال الذين خاضوا معركة التأسيس للفعل المسرحي وما رافقها من صعوبات وإكراهات ترتد إلى غياب مرجعية صلبة في مجال الثقافة المسرحية في تلك المرحلة التأسيسية، وانعدام الموروث المسرحي المتكامل باستثناء أشكال فرجوية لاتحمل في أغلبها صفة الممارسة الدرامية المتكاملة والواعية بأبعادها التمسرحية ودلالاتها الفنية.
ورغم هذه العوائق والإكراهات فقد أصر هذا الجيل على استنبات صيغة مسرحية مغربية تمزج بين الصيغة الدرامية الغربية من جهة، والبعد الوظيفي للفعل الدرامي، حيث زاوج الرواد المؤسسون بين جمالية العرض المسرحي والدلالة النضالية التي تحول الممارسة الدرامية من أبعادها الترفيهية البسيطة إلى وظيفة التوعية والتحريض في سياق التجاوب مع طبيعة المرحلة التي اتسمت بالتسلط الاستعماري، الذي حاول الإجهاز على الهوية والإنسية المغربية.
وقد جاءت حفريات رضوان احدادو في ذاكرة المسرح بالشمال محكومة بهذه الشروط، لكنها اتسمت بالجدية والاجتهاد والعمق، وذلك بالنظر إلى نزوع الفعل التأريخي إلى القراءة التحليلية التي تمنح للعمل التوثيقي دلالته الثقافية وطابعه الفني والأدبي في مناخ تأسيسي مشبع بالرح الوطنية، والإحساس بالانتماء، والاعتزاز بالهوية والكينونة، مما جعل الفعل التإسيسي مقرونا بالوعي الوطني الذي دفع رواد الحركة الوطنية إلى استخدام النشاط المسرحي واجهة نضالية ضد المستعمر وأذنابه.
ولاشك أن المغامرة التأريخية لرضوان احدادو، التي استهدفت انتشال ذاكرة الشمال المسرحية من النسيان والتهميش، تحولت إلى فتوحات قادت إلى تفجير مفاجآت عصفت بمجموعة من اليقينيات التي ترسخت في التاريخ المسرحي المغربي، منها اعتبار المسرح فنا طارئا دخل إلى المغرب في عشرينيات القرن الماضي، حيث على وقف على وجود فعلي للممارسة المسرحية بالشمال منذ نهاية القرن التاسع العشر الميلادي وتحديدا سنة 1860، وذلك ينم عن عراقة هذا الفن، وامتداده عميقا في التاريخ المغربي، ومن ثم فإن التأريخ للذاكرة المسرحية للشمال لا ينفصل عن التأريخ للذاكرة المسرحية المغربية الجماعية. لذلك يدعو المؤرخ المسرحي رضوان احدادو إلى إعادة صياغة التاريخ المغربي من زاوية التعدد الذي يفضي حتما إلى التكامل، وذلك باعنماد منهجية التأريخ الجهوي، حيث أن المدخل لتأريخ شامل للفعل المسرحي لبلادنا يمر، في تقديره، عبر البحث والتنقيب في تاريخ المنجز المحلي في سياق بناء تاريخ شمولي للمسرح المغربي.
مجمل القول أنه يمكن تلخيص سيرة رضوان احدادو في عبارة مركزة وجامعة إنه «مفرد في صيغة الجمع»، فهو كاتب درامي متمرس، ومؤرخ مسرحي عميق المعرفة وواسع الاطلاع، ومنظر مسرحي احتفالي عارف بأسرار الركح وخبايا الفرجة، وهو السياسي المتشبع بالقيم التعادلية النبيلة التي تشربها من رواد الحركة الوطنية وزعمائها الأفداد كعبدالخالق الطريس وعلال الفاسي، وتجسدت في سلوكاته وقناعاته وإبداعه. فتحية تقدير وإجلال لكاتب أعطى فأجزل، وأبدع فأتقن، وناضل من أجل ترسيخ القيم النبيلة والإبداع الأصيل الراقي، تحية للمبدع رضوان احدادو.
الهواميــش
1/ محمد محبوب «المسرح المغربي أسئلة ورهانات» الطبعة الأولى غشت 2011 مطبعة لورانجي. مشرع بلقصيري ص 110
2/ نفسه ص 90
3/ خالد أمين « الحافة رقم 3 والجسد المسرحي المعطل، قراءة في النص الاحتفالي للرائد رضوان احدادو» ضمن كتاب «اليوم التكريمي للمبدع المسرحي رضوان احدادو » تأليف جماعة من الأساتذة. الطبعة الأولى، منشورات مؤسسة المسرح الأدبي، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ص 82.
4/ نفسه ص 82
5/ عبدالكريم برشيد « رضوان احدادو، والبحث عن المدينة الفاضلة» ضمن كتاب «اليوم التكريمي للمبدع المسرحي رضوان احدادو » ص 32.
6/ نفسه ص 30
7 محمد العربي المساري « رضوان احدادو مؤرخ للظاهرة المسرحية بالمغرب» ضمن كتاب «اليوم التكريمي للمبدع المسرحي رضوان احدادو » ص 15.