نص مسرحي: “حرج” / تأليف: عزيز ريان

عن قصة ليوسف إدريس تحت عنوان: كومة لحم

 

إهداء إلى شعب مصر الكريم.

 

الشخصيات:

الأرملة: طويلة ممشوقة عمرها خمسة وثلاثون

ـ بنات طويلات قبيحات فائرات بسمرة:

الأولى: عمرها عشرون.

الثانية:  ثمانية عشرة.

الثالثة: السادسة عشرة.

المكان: الحجرة فقيرة ومرتبة وأنيقة. لمسات الإناث الأربع.

 

الفصـــــــل الأول:

المشهـــد الأول:

المكان: حجرة ضيقة وفقيرة ومرتبة.

(الأم وبناتها الثلاث جالسات في صمت).

الأم: لن يأتي اليوم.

البنت الكبرى: ولماذا يا أمي؟

البنت الوسطى: لأي اتفاق نهاية وإن طال. لقد انتهى اتفاقنا معه.

البنت الصغرى: ولماذا لا نجدد الاتفاق؟

الأم: وكيف سنصل إليه؟ لا نعرف حتى أين يسكن؟

البنت الكبرى: سنرسل الصبي ليطلبه. أمي؟ ولماذا لا تتزوجه إحدانا؟

البنت الوسطى: ماذا؟ أعمى؟ ألا تخجلين؟

البنت الصغرى: هو أعزب. ونحن نحتاج لرجل يملأ الدار علينا ويحمينا.صراحة تعودناه وتعودنا صوته.

الأم: من منكن الأصلح وصاحبة النصيب؟

البنت الوسطى: ماذا؟ أنصوم ونفطر على أعمى؟ لا يعقل. أحلم بعريس..كامل.

الأم: مسكينة أنت.لا تعرفين في عالم الرجال، ليس الرجل بعينه يا ابنتي.

البنت الصغرى: إذن،تزوجيه أنت يا أماه.

الأم: (تلاحظ قبول الفكرة من كل بناتها) أنا؟ عيب. والناس؟

البنت الكبرى: أمي دعيهم يقولون وليقولوا ما يحلوا لهم. فقولهم أهون من بيت فارغ من رنين صوت رجل.

الأم: (بتعجب) أأتزوج قبلكن؟ مستحيل.لا يعقل.

البنت الوسطى: تزوجيه يا أماه. فأملنا في زواجك. من الأفضل أن تفعلي قبلنا لكي يتنبه الرجال إلينا فنتزوج بعدك. مللنا العنوسة (يتجمعن حول الأم)

(يخرج من جانب الخشبة الأيسر جوقة نساء بلباس أبيض).

الجوقة: أمنا.. أنت الأمل..لا تقتلي..الحلم..الرجل..فريسة من العدم..لا جمال..لا غنى.. وحظنا أصابه الشلل

(تحيط الجوقة بالأم وبناتها الثلاث ويخرج الجميع بشكل متلاحم).

 

المشــــهد الثاني:

نفس الحجرة. الأم وبناتها والمقرئ الأعمى.

(صوت المقرئ العذب يجرح الصمت بما تيسر من الذكر الحكيم. بعدها يدخل رجل وشاهدان وتتم عملية الزواج بالأم . ينتهي المشهد بزغرودة..يخرج العدل والشاهدان وينام الجميع في شكل متلاصق على أرضية الخشبة. تسمع أصوات وهمهمات. يدخل طيف بنظارة وعصى متجها لمكان المقرئ).

الطيف: هيا يا شيخنا أفق.

المقرئ: دعني. فصلاة الفجر بعيدة.

الطيف: أنت لم تنم أصلا. لم ينم أحد الليلة. انتظر غدا تفرغ الدار وأكمل طقوس ليلتك.

المقرئ: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟

الطيف: أنا لا يراني غيرك.

المقرئ: ماذا تقول؟ أراك؟ أتهزأ بي يا هذا؟ أتعيرني بما أصابني.

الطيف: لا عليك أنا مثلك لا أرى بعيني. قلبي بصيرتي.

المقرئ: ههه كلنا نوهم عاهتنا بهذا التعبير. ونتعثر في كل لحظة. ما علينا قل من أنت وماذا تريد مني؟وكيف دخلت إلى هنا دون أن يراك ويسمعك أحد؟

الطيف: ستعرفني لاحقا. أنا قريب منك.ولا يراني ولا يسمعني غيرك.

المقرئ: آه، إذن قل لي ماذا تريد مني؟

الطيف: أنا من يسألك ماذا تفعل هنا؟

المقرئ: ماذا؟ أجننت؟ أنا هنا زوج شرعي على سنة الله ورسوله.

الطيف: كيف فعلت؟ دخلت لوسط النار واسترحت.

المقرئ: كيف؟ ماذا تقصد؟

الطيف: ستعرف ما أقصد لاحقا. هيا عد لسهادك. حتى هن لم ولن ينمن الليلة. كمن يصب الزيت في النار. تدخل الجوقة بلباس أحمر.

الجوقة: العمى واحد.. لا عين له.. والغد.. اشتباك وتنهد.. وأسرار ووله.. الفقر رجل فاسق.. لو لم تقتله..سيقتلك.. سيقتلك

الطيف: سأقتله إذن. سأقتله إذن. يخرج وراء الجوقة.

 

المشهــــد الثالث:

نفس الحجرة الضيقة. الأم تتحرك بشكل سريع وعلامات السعادة بادية عليها. بعد وجبة العشاء للخمسة: الأم وزوجها المقرئ،وبناتها الثلاث. ينتهي العشاء ويتحلق البنات والأم حول المقرئ.ضحك وجو مفعم بالحيوية بين الجميع. صوت المقرئ يغني أغنية عبد الوهاب: من غير ليه.

المقرئ: (للأم وهو يهمس لها. ويذهب للمرحاض قبل الخلود للنوم) مساؤكن سعيد.

الأم: (للبنت الكبرى) ما رأيك يا ابنتي في العريس؟

البنت الكبرى: (بهمس) أمي، لقد انتهينا من الموضوع. لن أتزوج صبيا للأعمى. تحس بالخجل وهي ترى أمها تمتقع.

الأم: أأتزوجه أنا كذلك هذه المرة؟ لا أدري ماذا تنتظرن؟ وكيف سأنجح في توفير اللقمة لكن كل يوم. حتى أنكن لستن بالفاتنات لكي تخترن بوقاحة. هيا ابقين في انتظار العريس المبصر.أنتن العاميات. ولن تفهمن أن الرجال ليس بعيونهن. لقد تعبت من العمل في بيوت الأغنياء وزوجي لن يستمر كل عمره في التلاوة في بيوت الفقراء. العمر قصير ولا نعرف ما يخبأه الغد.

(ينام الجميع. تدخل الجوقة يقودها الطيف بلباس مغاير).

الطيف: هذا العالم.. يحب أن يصاب بالعمى..كي يعيش..والأعمى..سلاحه البصيرة

الجوقة: الصمت يحل..فتعمى الأذان..في الصمت..يتسلل الإبهم..يضع الخاتم..بجوار المصباح..في الظلام تعمى العيون..الأرملة وبناتها الثلاث..والبيت حجرة..والبداية صمت

الطيف: والبداية صمت. والبداية صمت..ودائم هو الصمت..ولا يقطع الصمت إلا بصمت..الصمت دائم كالانتظار والأمل..وهن بأمل قليل لكنه دائم.. يتراجعن للخلفية.

 

المشهـــد الرابـــع:

نفس الحجرة. نهارا. المقرئ والأم فقط.

المقرئ: ماذا كان بك البارحة؟

الأم: من أنا؟ متى مع الظهر؟

المقرئ: الآن تتكلمين بطلاقة بنما كنت معتصمة بالصمت التام ساعتها.

الأم:…

المقرئ: ولماذا تضعين الخاتم العزيز علي الآن، بينما لم تفعلي وقتها؟

الأم:…

(يخرج المقرئ).

الأم: يا مصيبتاه. ليس لهذا الكلام إلا معنى واحد. لكنني متأكدة بأن الفاعلة هي الوسطى. هي الجريئة عيناها لا تصيبها رصاصة. لكني مخطئة، غرقت في حلالي الثاني ونسيت الأول. لا لا أنا المخطئة. المكان ضيق والبنات في سن حرج. ولا خاطب جاء. لم اتنبه لهذا، كنت في حاجة لرجل جوعي وقتها لا حدود له. ونسيت أنهن جائعات… طوال عمري وأنا أخرج لهن اللقمة من فمي لكي أطعمهن.. نعم أن الأم التي علي دائما أن أضحي وأطفأ جوعهن..

الطيف:  (بخلفية الركح) كثيرا ما ظهرت الآهات..فتكتمها الآهات..لا وقت للمواربة أو الكتمان..والليل يطلق العقال للأرواح..ويفك الأجساد..وهناك من يحبس الأنفاس والسعال.. فالحلال بين والحرام بين..

الجوقة: أنفاس كالفحيح.. وفحيح كصهد العطشى..أنفاس جائعات..وكومة لحم ساخنة..وتكتم وتكتم

الطيف: والجوع يصرخ..والشبق يئن.. ويستغيث..ويرجو وأكثر.. وتكتم حد فقدان الصوت..

الجوقة: والأم أصبتها غصة بالصمت..صمت لم يغادرها أبدا.. وعلى الإفطار..صمتت الوسطى..كما قدر قلب الأم..

الطيف: لكن الكفيف يبدو مستمتعا..يغني ويضحك.. ويطول الصبر

(صوت المقرئ يغني لأم كلثوم: للصبر حدود. ويخرج….تدخل البنت الكبرى. تتأمل الخاتم في إصبع أمها)

البنت الكبرى: أمي،إنه خاتم رائع.

الأم:..

البنت الكبرى: دعيني أجربه

الأم: ماذا؟…

البنت الكبرى: فقط ليوم واحد أمي. يوم واحد لا غير. (تسحبه وتضعه  في مشهد طقوسي وسط ذهول الأم وصمتها)

(تدخل البنت الصغرى وتتأمل الخاتم قرب المصباح، تلبسه ويدخل المقرئ، تأخذه من يديه لتجلسه على الكرسي بحرص شديد وصمت. لا نسمع إلا صوت المقرئ الذي يظن نفسه يكلم الأم التي أصابتها حالة الذهول التي تعودها فصمتت).

إظــــــــلام

(تضاء الإنارة على مشهد وجبة العشاء. صمت الجميع.حركة جمود للجميع. يدخل الطيف رفقة الجوقة بلباس مغاير).

الجوقة: يمر الصمت..بزمن الانتظار القاتل.. وتمر السنوات.. وتلبس الخطيئة ردائها..وتتعرى أمام المارة..للخطيئة لسان يقتل الصمت

الطيف: هيا ادخل يا شيخنا

المقرئ: (يقف من مائدة العشاء) ماذا تريد يا أيها الطيف اللعين؟

الطيف: كيف عرفت أنني طيف؟ ألم أقل لك أني قريب منك. بل أنا أنت وأنت أنا. الفرق أنني شفاف ولا أغمض عيني على الحقيقة.

المقرئ: عيني؟ أنت تراها هي مغمضة هههه

الطيف: طبعا أعجبتك اللعبة وجسدك متوقد للمزيد ولن تفتح بصيرتك.

المقرئ: ماذا تريدين أن أفعل؟

الطيف: تكلم بصوت عال ليسمعك الجميع. المرأة تتغير لكن ليس بكل هذا التنوع الذي تشعره كل ليلة.

(تدخل فتاة شابة عمرها سبعة عشرة سنة. ويعود المقرئ لمجلسه مع البقية وفي نفس وضعية الجمود والصمت).

الفتاة: (مونولوج) أكاد أجن. لا أستطيع أن أصل للحقيقة الكاملة. الجميع يحاول خداعي أو أنا أخدع نفسي. من أنا؟ أنا ابنة؟ لا أعرف ابنة من؟ أحس أنني ابنة الكل. لا أمي ولا خالاتي. رابطتي معهن نفسها. كأنني من رحمهن جميعا. أعرف أن هذا مستحيل. لكن هذا ما أشعر به. وهذا الرجل هو أبي؟ أو قالوا لي أنه كذلك.

الجوقة: للحقيقة صراخ..تصيب به الظلام..وهذه اللحم..أنياب الأسرار..قد تنهشها يوما..حتى الأم..حاولت أن تمنع عنها الحياة.. لتخنق في أنفاسها الحقيقة..أن لعل هذه الروح..هي التي نجت من قتل واجهاض.. متكرر للخطيئة

الطيف: فمن يعترف بها؟ لعلهن يحاولن إخفاء الشمس بالغربال

الفتاة: من أنت؟

الطيف: أنا؟ هههه لا تبحثي كثيرا ولا تنبشي طويلا في مستنقع قد يصيبك بالتخمة.

الفتاة: إذن أنت تعرف الحقيقة؟ هيا قل لي رجاء.

الطيف: أنت؟ أنت هي أنت. عفاف التي رمتها الظروف في حياة ضيقة وحجرة ضيقة حيث الفقر وحيث الجوع.

الفتاة: أنت لا تقول إلا ما أعرفه. دعني أذهب لكي أراجع قليلا دروسي.

الطيف: العلم هو مخبأك من كل هذا الزيف المحيط بك.

الفتاة: أنت تتفلسف دعني أذهب.

الطيف: هيا اذهبي.

الجوقة: اذهبي نحو السواد..والصمت..لا لون له..والخطيئة..بكل الألوان..

الطيف: دعونا نبحث عن أرواح غيبت

الجوقة: الأرواح لا تغيب

الطيف: دعونا نبحث عن مخاض ومخاض..وبطن يفضح.. انفتاخه ما ستر

الجوقة: جميعا يضعن غطاء ببطنهم لكي يبدو حملهم..إبني سيقول لأمي أمي..مستحيل..سيختلط النسب بالنسب..والأرحام بالأرحام..

(يحمن حول مائدة العشاء ويخرج الجميع ويحمل الجوقة المقرئ في مشهد جنازة متخيل)

إظـــــــــــــــــلام

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت