مهام الممثل في المسرح الملحمي / مجيد عبد الواحد النجار
اعتمد بريخت كثيرا في إيصال نظريته بالمسرح الملحمي على الممثل، لذا أوجبَ على الممثل كثيرا من المهام، ومنها ان لا يجعل المتفرج ينخدع بأدائه، وبان ما يطرح امامه غير مطروق سابق، او لن يطرق بعد ذلك، او انه غير مدروس قبل عرضه، او ان الممثل ليس على دراية بما يقدم ،-وهل الممثل الذي لعب شخصية (غاليلو) مثلا،لم يتعرف عليه او لم يكن يعرف عنه اي شيء- كذلك يجب ان يوضح الممثل ان كل ما يطرح؛ له علما به مسبقا ،أي له علم ودراية بكل ما يطرح امام الجمهور، وعليه أيضا ان يبتعد عن طرح الشخصية من خلال نفسه، بل يجب ان يبتعد كثيرا لحين الوصول الى الشخص الثالث الذي يتحدث بلسان شخص اخر وليس بلسانه هو، ويبتعد عن الاندماج عند طرح هذه الشخصية حتى لو توجب عليه ذلك الاندماج في التمرين،- علما ان بريخت في موضع اخر يطلب من الممثل ان يتماها مع الشخصية، والتماهي هو اكثر واعمق من الاندماج-.
ومن اجل ان يرتقي بالشخصية التي يطرحها يجب ان يدرسها جيدا دراسة موضوعية، ماذا يحدث لها؟ وكيف تتصرف؟ وكيف تحب وتكره؟ وحتى يجيب على هذه الأسئلة على الممثل ان تكون له دراية بالمجتمع وبالأمور الحياتية والعلاقات والاجتماعية والبيئية التي يعيش فيها،- وهذا ما طالب به ستانسلافسكي، حيث طالب الممثل بان يدرس ابعاد الشخصية، النفسية، والاجتماعية وكل ما يحيط بها -، كما لا يسمح للمثل بإعادة الشخصية المرسومة اليه كما هي بل عليه ان يطرحها بعيدا عنه ، أي ان ينقل وجه نظرها لا وجهة نظره،- الم يقل ارسطو ان الدراما هي محاكاة افعال الاشخاص- وهنا وجب طرح السؤال التالي: هل يريد بريخت من الممثل ان لا يمثل؟ واذا كان كذلك اين عملية التمثيل في المسرح الذي اساسا قائما عليه، المسرح او الدراما هي تمثيل، وليس قص، او محاوره تطرح من قبل حكواتي، ولا هي حوارية تطرح من خلال شخوص يطرحون حتوته من خلال محاورتهم فيما بينهم، التمثيل يجب ان يوصل الفكرة كما هي، يجب ان ينقل الفكرة من اجل ان يعرف المشاهد كل ما حدث في الحادثة المطروقة، من افعال واقوال، لا ان يسمع حتوته يقوم هو برسم الاحداث لها، هو ممكن يفك الشفرات الموجودة في الحتوته، ممكن ان ينتقدها، وكذلك الشخصيات، ممكن ان ينتقد العمل والعاملين بها، في امكانية اقناعه بفكرة الحتوته، لأنه دخل للمسرح من اجل شيئين مهمين؛ هما المتعة والتعلم، التي وجد المسرح من اجلهما. وهنا ايضا يطرح سؤال لماذا التخوف من كلمة او مصطلح التمثيل؟ فالتمثل او التماثل هو اهم ركن من اركان المسرح، والذي من خلاله يقوم الممثل المبدع بإيصال الافكار والالغاز الموجودة في النص، هذا الابداع الذي يقول عنه (كاسير) يصبح ” محاكاة او تقليد لابد ان يقصر دائما في بلوغ مستوى الاصل”(1)، اذا مهما عمل الممثل، ومهما حاول فهو عاجز عن البلوغ الى التطابق مع الشخصية التي يطرحها على خشبة المسرح، او مع الواقع الذي تعيشه هذه الشخصية، لأنه يعلم علم اليقين انه يحاكي الافعال فقط كما طلب منه ارسطو، اذن ليس هناك ايهام في طرح الشخصية، وحتى لو كان الممثل من المحترفين الاوائل.
فما طرحه بريخت من اعمال حاول من خلالها طرح ونقد المجتمع والوضع السياسي وكان صوت الطبقة الكادحة، وصوت من رفضوا الموت، ورفضة الحروب من اجل تعليمه وتثقيفه وطرح قضاياه، نعم هو اراد تغيير المجتمع، ولكن هذا التغيير لا يحتاج الى كل هذا، كان مؤّسّس له منذ الاغريق، فستانسلافسكي طالب بالتغيير، وشكسبير ومايرهولدوبسكاتور، وووووو، المسرح الحديث كله طالب بالتغيير، ورفض ما كان يقدم في المسرح الاغريقي، ليس لأنه لا يُعلّم ولا يُمتّع المشاهد، بل لان عقلية المشاهد احتاجت التغيير، لان المشاهد بعد ثورات التغيير التي حصلت في المجتمعات تغير تفكيره، وتغيرت طموحاته، لذلك استحق ان يشاهد مواضيعا تختلف عما قدمه الاغريق، وبطريقة تختلف عما قُدم في ذلك الزمن البعيد، فالمسرحية كيفما كان شكل ميلادها فهي تنمو وتتطور بنمو وتطور المجتمعات الانسانية سواء كانت البدائية القديمة، اوالقبائل، والعشائر وبخاصة في العصر البدائي بين السلوك الحيواني والسلوك الانساني على السواء(2)، فمسرحية (طبول) ما هي الا ادانه للحرب والقائمين عليها، وكذلك (الام شجاعة) ,و( محاكمة لوكلوس) ومسرحية (بعل) التي طرح بها القضية العدمية والتي عبر بصورة واضحة عن استياءه من الحرب، كل هذه المواضيع عظيمة وكان المشاهد بحاجة لها فعلا في وقتها، ولكن لماذا يحاول بريخت ان يختلف عن الاخرين في طريقة طرحه لهذه المواضيع، التي تهم المشاهد؟، لماذا يعقد الطرح من خلال الممثل؟، دائما ما حاول اغلب المخرجين الحداثيين ان يغيروا في المجتمع ويغيروا في طريقة طرحهم لمشاكل المجتمع، لكن التمثيل بقى تمثيلا، وما يقوم به الممثل ان كان بعيدا او قريبا من الشخصية فهذا الاداء يعتبر تمثيلا شاء ام ابى.علما ان بريخت يطالب ان لا تقدم الشخصية بشكل جامد خالي من الروح الحية، بل عل العكس يريد ان يعيش الممثل بكل جزئياتها مع الاحتفاظ بحالة الوعي الكاملة لموقفه من الشخصية التي يمثلها، وهذا يحصل ليس بالابتعاد عن الشخصية، بل باسترخاء الممثل والمحافظة على ادواته وتمكنه من الشخصية من خلال الاطلاع على كافة ابعادها، وهنا لا يحتاج ان يكون الشخص الثالث، بل سيقدم الشخصية المقنعة التي يتقبلها الجمهور.
ان اعمال بريخت أهدافها اجتماعية،اذن لماذا يعقد مضامينها؟ ما زال هدفها تغيير المجتمع. كما انه يريد في مسرحة ان يوصل جميع مبثوثاته من خلال الوثائق- التي استخدمها بسكاتور قبله في مسرحة- او الجوقة- التي كان لها الدور الكبير في المسرح الاغريقي- او الطريقة التي يتحدث بها الممثل للمتفرجين مباشرة وهي التي تقوم بإيصال رساله المسرح الملحمي بأكملها. والان مسرحه مسرح فني، لذلك لايمكن الاستغناء عن أفكار وطروحات الفنانين والخيال والاصالة الفنية والفكاهة، كذلك هو مسرح تعليمي ويمتاز بالمتعة (3) ،ان بريخت الذي جاهد من اجل مسرح جاد وايديولوجي، وربط دراماته واهدافها ومضامينها الدرامية بالسياسة ، كتابة واخراجا مسرحيا ، لا يمكن بأي حال من الاحوال تصنيف مسرحة الا داخل دائرة واحدة، هي دائرة (التربية والتثقيف)(4)،وبالعودة الى المسرح الاغريقي والروماني والعصور الوسطى وكل من اتى بعدهم كانت هذه اهدافهم السامية والنبيلة من هذا المسرح، ولا ننسى استفادة الكنيسة من المسرح في نشر التعاليم الكنسية وقصة السيد المسيح(ع).
اذن ما جدوى الحوارات الطويلة مثلا في مسرحية (حياة غاليلو) والتي يتجاوز بعضها الاربع صفحات، كيف يتعامل معها الممثل؟ هذه الحوارات المتكررة، والتي تدور في نفس الموضوع، وهو اثبات دوران الكواكب، والتي في النهاية يتنازل عن هذه الافكار بسهولة، لمجرد مشاهدته ادوات التعذيب، نعم … ما هو الدرس؟ وماهي العبرة؟ من هذه الحوارات التي يجهد بها الممثل، والذي يجب ان يكون فيها الطرف الثالث، وان يتعامل معها عن بعد، ان الواجب الحقيقي على الممثل المحترف الذي يريد ان يؤثر في الاخرين عليه ان يظل هو نفسه باردا وخاليا من التأثير، ويمكن للمثل وهو في قمة الانفعال ان يكون باردا ومتمالكا لفنسه لدرجة انه يتمكن من ان يطلب فنجان قهوة(5)، اذن يكفي ان يكون الممثل مسترخيا متمكنا من ادواته، ومحافظا عليها، لكي يكون ناقلا جيدا للشخصية التي يؤديها على خشبة المسرح.، كذلك ان لايتسبب بملل المتفرج نتيجة التكرار والحوارات الطويلة.
فانا عندما اتحدث عن التمثيل يجب ان لا ابعد الممثل عنه ولا يجب ان اطلب منه ان يكون راويا للأحداث، لان هذا عمل(الحكواتي) الذي كان موجودا في الاصل في الايام السالفة، والذي كان يتواجد في المقاهي لكي يروي ملاحم (ابو زيد الهلالي) وغيرها من الروايات، وكان في نفس الوقت (يُمثل) الاحداث لأنه على دراية وعلم ان لم يقوم بالتمثيل لن يتمكن من افهام المشاهدين ما يقدمه، وكذلك لكي يخلق روح التشويق والمتعة، فهو يحتاج ان يضخم صوته ويحرك جسده او يديه لكي يصف بعض الاحداث، اذن لماذا في المسرح البريختي يطالب الممثل بالابتعاد عن الشخصية، التي يحاكي افعالها، نعم الممثل يحاكي الافعال ولم يحاكي الشخصية بنفسها لأنه لو فعل هذا فهذا يعني انه يقلد الشخصية- والتقليد في مفهومه العالم وباي شكل من الاشكال يكون كوميديا، ان القيام بتقليد شخصية ما، الغاية منها هو الاضحاك وهذا ما اكد عليه (كاسير).ومن ثم ليس من مهمة الممثل ان يسرد الحدث او ان يتحدث في الفعل الماضي، فهذا مهمة الكاتب المسرحي ، حتى المخرج ليس له دخل بذلك فكيف نحمل هذا الفعل للممثل، اذا لم تكن الشخصية بنفسها تتحدث عن الماضي، لا باس ان نعيد القول؛ بان الممثل هو وسيط هو ناقل لمبثوثات النص، حامل لألغاز النص، مسؤول عن نقل كل ما يطلب منه من قبل المخرج بل عليه ان يكون امينا بطرح هذه الافكار، وصادقا، انه مُرسّل، وهذا لا يعني ان لا تكون للمثل شخصيته الخاصة فهو له ثقافته ووعيه ودرايته بما يطرح ، وله الحق بان يناقش كل ما يقوم بفعله ، لأنه لو قدم كل ما يطلب منه دون قناعة ، فسيقدم اسفافا لا عملا فنيا.
على الممثل قدر الامكان ان لا يجعل المتفرج يؤمن بما يقدم امامه حقيقة، بل تمثيلا، وانا اقول (قدر الامكان) لأنه غير مسؤول عن وعي وثقافته الجمهور، فلكلٌ وعيه وثقافته في فهم ما يُطرح امامه، وهذا توجه التجديديون المحدثون ايضا بدءا من سترنبرج الى اونيلوكوكتوجيرودي الذين طالبوا بالتركيز على احساس الجمهور وجعله ان لا يعتقد ان ما يقدم على خشبة المسرح حقيقة، وانما هو تمثيل(6)، هذا هو المنطق الحقيق الذي على الممثل ان يتحمله، لا ان يكون مسؤولا عن وعي وثقافته الجمهور المختلفة والذي ليس له دراية بها، فالجمهور مختلف فيما يفكر وفيما يحب، ولا يمكن لأي من الذين يعملون في المسرح ان يكون عارفاً بكل افكار الجمهور ورغباتهم، ان الذي يتحمله العاملون هو ان يقدموا افكارا تنفع، افكارا مسلية، تقدم بطريقة بعيدة عن المحاضرات والمدارس لان هناك برامج في المدارس متفق عليها يراعى فيها الاعمال، اما في المسرح فممكن ان يكون مع الجمهور المثقف، اناس متخصصين في علوم المسرح، واخرين يجهلون كل ما يقدم على خشبة المسرح، واناس قدِموا للمسرح من اجل المتعة فقط، واخر من اجل ان يرى الممثل الذي يحبه، واخر جاء لغرض قضاء وقت…. وهكذا يختلف الجمهور من شخص لأخر، وعيا وثقافتا ونفسيا، وما يطلب من الممثل في المسرح البريختي يتوجب على الممثل ان يدرس هذا الجمهور دراسة واعية ومكثفة، وهذا خارج اختصاصه وخارج عمله الحقيقي، لماذا؟، لأنه ناقلا لما يطلب منه من قبل المؤلف او المخرج، فالممثل في المسرح عليه ان يستوعب فكرة المخرج بشكل كامل وان يعيشها وان يمثلها، وان كل لحظة من وجود الممثل على المسرح يجب ان يكون محكومة بفكرة المخرج (7).
فبالرغم من اشراف بريخت شخصيا على اخراج مسرحيته(الام شجاعة)، وبالرغم من قيام زوجته الممثلة الكبيرة(هيلين فيجل)بأداء دور(الام شجاعة)اداء ملحميا متقنا، ببرودها المدروس، لكنه تفاجئ باستجابة الجمهور لمأساة(الام) الملحمية بالدموع والشفقة، لعرضها الاول على احد مسارح زيورخ، ورغم رغبة بريخت بان تكون درسا للجمهور (لعدم سيرها في الطريق الصحيح)، تعاطف الجمهور معها، وحدثت عملية تفريغ عاطفي، اخذ(يبكي) لعذاب الام المسكينة الكادحة(شجاعة) التي استماتت في سبيل حياتها وحياة ابنائها، فسلبتها الحرب كل شيء، ومع ذلك لم تستسلم، بل ظلت مصممة لعناد الحياة، وجسدت بذلك (دروسا في اجمل الفضائل الانسانية)، ومن ثم لم يتمكن المخرج من كسر ايهام المتفرج بوسائله المعروفة، ولا ابعاده عن الشخصية، وقد انخدع المتفرج بأداء الممثل ولم ينفعه اداءه الملحمي او اداءه كشخص ثالث.
اذن ان المسؤولية الكبرى في المسرح في البدء تقع على ما يقدمه المؤلف من افكار، ومن ثم امكانية تفكيك هذه الافكار من قبل المخرج، وما على الممثل الا ان يعمل على ادواته في ايصال ما يؤتمن به من رسائل، بشرط فهم هذه الرسائل وان يكون واعيا ومتماسكا وعارفا بكل ما يقدم، وذلك من خلال معرفة شخوص المسرحية واحداثها.وان يكون (صادقا) في نقل ما يحمله من افكار، فالصدق في نقل الاحداث يؤدي الى الفهم الحقيقي لها دون تزوير، وابعاد المتفرج عن التشويش، ونقل الاحداث التاريخية او الخيالية، الصدق هو بحد ذاته درس كبير للمتفرج، ومحاوله تغييرة باتجاه ان يكون ايجابيا في طرح قضاياه مع الاخر، وهو- اي الممثل- غير مسؤول عن تعاطف الجمهور معه عندما يكون صادقا.
ومتى ما عرف المنتج المسرحي؛ وليس الممثل دوافع الجمهور في حضوره للعروض المسرحية تمكن من فائدته، دون ان يتخيل المخرج حاجته ورغبته لأنه بالنتيجة ليس لديه الخبرة الكافية بمعرفة ما يدور بمخيلة، وغايات كل من حضرالعرض، فلكل شخص غايته في الحضور، وثقافته في فهم العرض، ومن يريد ان يرتقي بالجمهور ليس بالضرورة ان يجعل منه برلمانا، بل ان يقدم له ما ينفعه، من حكم ومواعظ وعبر، مُستعينا بالتاريخ والحاضر، واهم من هذا ان يحتوي العرض المسرحي على ثلاثة ركائز اعتقد انها مهمة لكل منجز فني او ثقافي وهي المتعة، والاثارة، والديالكتيك.
وتبقى خشبة المسرح منبرا تقدم عليه الفضيلة، بقصد مجتمع واع ومثقف، يستقبل المتغيرات التي تحدث في المجتمع، وتعلمه الحكمة والمعرفة من اجل مواجه الحياة، بكل صعابها، ومن اجل ان يصل الممثل الى استحسان العمل وقبوله من قبل الاخر، لابد من وجود اتصال حسي بينه كمرسل وبين المستقبل ، وبين العمل الابداعي والجمهور.
الإحــلالات:
(1): توماس ونوو، التطور في الفنون، ترجمة: محمد على ابو دره واخرون، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، ص339.
(2): د. كمال عبد، علم الجمال المسرحي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، بلا،ص20.
(3): ينظر :أريك بنتلي ، نظرية المسرح الملحمي ، المصدر السابق ، ص84.
(4): د. كمال عبد، المصدر السابق، ص56.
(5): موريس فيشمان، تدريب الممثل، ترجمة: نور الدين مصطفى، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة،بلا،ص10-11.
(6): د صلاح فاضل، نظرية البنائية في النقد الادبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987،ص28.
(7): …. ، المقارنات.. حوارات مع تاركوفسكي،ص173-174.