الواقعية التعبيرية في المعرض السنوي لفنانين ميسان/ أ.د محمد كريم الساعدي
إنَّ الفنون عامة والتشكيلية منها خاصة هي مكمن من مكامن التعبير عن الذات الإنسانية المعبرة عن العصر الذي دونت فيه هذه الفنون وقدمت صورة عن أهم ما يميز هذا المجال الفني وعلاقته بما هو ظاهر ومميز للجوانب التي يعيشها الأفراد في المجالات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية وغيرها، والأخرى المرتبطة في المجالات الاقتصادية والسياسية والتربوية فيها . ويعمل الفنان من خلال أدواته الخاصة على أظهار ما هو مستتر ومخفي ومضمر، كون ما يدوّن في مجال التعبير عن الحالات الإنسانية غايته أظهار ما هو مخفي ومغيب عن انظار أفراد المجتمع، على الرغم من المشاهدات اليومية التي تجعل هذه الصور من فرط بديهياتها غائبة، أو منسية في خضم الانشغالات المتعددة للإنسان الذي يصحى عليها عندما تصبح ماثلة أمامه بطريقة أو بأخرى عندما يعيها ويعي ضرورة تفحصها، وهذا النوع من الظهور في داخل الوعي، أو قصدية أثبات ظهورها جاءت نتيجة تنبيه هذا الوعي المغيب عن المشاهدة الحقيقية بوسيلة صادمة غايتها أعادة الرؤية والتفكير الحقيقي في هذه الأشياء. ويعد الفن التشكيلي هو من الوسائل المهمة في أعادة التنبيه، وهو وسيلة من وسائل التذكير في ما خفي عن المجتمع وأفراده من خلال أظهار وإعادة صياغة البديهي في صورة جمالية فنية تجعل من هذا البديهي المغيب ظاهراً وشاخصاً جمالياً على الرغم من الألم والمعاناة التي تظهر في هذا المجال .
ميسان مدينة عراقية جنوبية فيها من (المرئي / اللامرئي) الكثير الذي يجعلها مدينة زاخرة بتنوعها الطبيعي والاجتماعي، مما تشكل مادة ثرية للباحث عن الجمال من جهة، والباحث عن التشخيص لما هو مغيب من جهة أخرى، فيها من العادة والتقاليد وما تسايرها من أشتغالات يومية قد تصور الأنثروبولوجيا الأجتماعية بين ثناياها وما تحويه من تصورات تجعل للباحث في مجال الفن التشكيلي يقع أمام أفكار عديدة ومتنوعة فيها من الموضوعات ذات المغزى الفني والجمالي التي تعبر بصدق عن أوضاع هذه المدينة ذات البعد الحضاري كونها ترجع الى الحضارة السومرية، وهي مملكة ما قبل الإسلام وصولاً الى مدينة حضارية ذات نشأة مدنية تعود الى بدايات القرن التاسع عشر .
وفي وسط مدينة العمارة مركز مدينة ميسان يقع بيت ذات طراز معماري يعود الى بدايات القرن العشرين تقريباً تستأجره جمعية التشكيلين العراقيين فرع ميسان، واعتاد رواد الجمعية أن يقيموا معارضهم التشكيلية السنوية كل عام وما ميز المعرض التشكيلي هذا العام هو المشاركة المهم لرواد الحركة التشكيلية من الذين كان لهم دور مهم في الحركة التشكيلية العراقية وخاصة من الذين قدموا أعمال تشكيلية في العاصمة بغداد ومركزها التشكيلي في منطقة الكرادة وسط العاصمة، وحضورهم المهم فيها، كما ضم المعرض مشاركة عدد من الفنانات التشكيليات وعدد من الفنانين التشكيليين الشباب وهم ( زاهد الساعدي، حسن الياسري، قتيبة حسين، فلاح حسن، كريم محمد، أحمد قاسم، أحمد فياض، أحمد كاظم، جاسم محمد مجيد، أيمان النجدي، رعد محمد خلف، حيدر طه ياسين، صبا طه ياسين، سيناء محمد، شيماء عبد الرزاق، فرح حسين، فارس عباس، نجاة ريحان، رياض كاظم، فرح حسين، عبد الزهرة وحيد، سجا حسين)، مما جعل المعرض هذا العام يقع في ثلاثة تقسيمات من حيث التجارب في فن الرسم :
- تجارب تشكيلية لفنانين اصحاب خبرة طويلة في هذا المجال لهم حضورهم على مستوى العراق وخارجه.
- تجارب تشكيلية لفنانين شباب لهم حضورهم على المستوى المحلي في مدينة العمارة وخارجها .
- تجارب تشكيلية نسائية لفنانات تشكيليات ذات نشاط مستمر في العمل الفني في مدينة العمارة وخارجها .
قدمت في هذا المعرض العديد من الأعمال التشكيلية المتنوعة، لكن ما ميز أعمال الفئة الأولى في أغلبها، وهو ما سنتناوله في هذا المقال، وحسب ما يراه الفنان التشكيلي حسن الياسري أحد المشاركين في المعرض هو الأتجاه الواقعي التعبيري الذي أتخذ منه عدد من المشاركين أسلوب يميز مشاركاتهم لهذا العام، على أعتبار أن الواقعية التعبيرية في هذه الأعمال المشاركة تميزت في كونها تحاكي أحداث عبر عنها الفنان في تقديمه الانفعالات الإنسانية من خلال تصوير واقعية الأشياء والأشخاص في داخل اللوحة ذاتها بوسائل تعبيرية خاصة بالفنان ذاته، كما قدمت في العديد من اللوحات ذات السمة الواقعية التعبيرية نوع من الأماكن المعبرة من خلال عن ما في وعي الرسام لاستنطاق الجمال الكامن فيها مصوراً من خلالها التفاصيل الدقيقة، ومنها ما قدمه الفنان حسن الياسري في لوحة الولد الصغير الواقف قرب جدار منزله وباب البيت ذات الألوان الباهتة كون المكان يصور فيه حالة من الفقر يبرزه الفنان الياسري من خلال طبيعة جدار المنزل وأرضية الباب التي تبدو غير منتظمة لكن حرفية نقل الفنان للتفاصيل الخاصة بطبيعة المكان جعلته يستنطق حالة الفقر بواقعية معبرة عن وجود وطريقة ظهور الولد في اللوحة، حتى أن ملامحه كانت دالة مع حركة يده ووقوفه المنكسر على طبيعة التعبير عما في داخله في واقعية تمثلت فيها التفاصيل الدقيقة للمكان والبيئة الدالة على هذه الحالة. إنَّ هذه العلاقات اللونية والخطوط التي تمتد بشكل متقاطع مع وقوف الولد دالة على التمركز الواقعي وتعبيرات الحالة في الموضوع ذاته ما يساعد على أن يكون الموضوع في واقعيته التعبيرية ذات لمحة إنسانية حياتية دالة لهذا الأسلوب الذي يميز لوحات أخرى للفنان الياسري. وفي لوحة المرأة الريفية التي تصنع خبز (السياح)، وكل ما في اللوحة هو تعبير دقيق في واقعية تناولت كل التفاصيل الخاصة بطريقة صنع الخبز عند النساء الريفيات، وقد أستنطق الفنان تفاصيل دقيقة ومعبرة عن هذا الشيء ومنها طريقة اقتراب وجه المرأة من النار وكأن تفاصيل الوجه المعبرة المتزامنة مع حركات يديها، وشكل الألوان المستخدمة في هذا التعبير الفني في داخل اللوحة ذاتها وخلفية الألوان وتنوعها بين اللون الرمادي الدال على الدخان والأسود في ملبسها واللون الداكن المائل الى طبيعة البيئة الريفية، وقد كرر الياسري هذا الأسلوب من حيث التعبير عن الملامح القريبة من ذات الموضوع في لوحة ثانية للمرأة التي تخبز خبز (الطابك) وولدها الجالس جنبها، وكأن وجهه ينطق بتعابير عالية في المعاني الدالة على البيئة مع جلسته التي يتميز بها أولاد البيئة الريفية.
أما الفنان زاهد الساعدي الذي شارك بعدد من اللوحات التي عبرت عن واقعية ذات بعد خاص بأهل المدينة وفقرائها من خلال لوحة باعة أدوات التنظيف أو ما يسمى باللهجة العامية لأهل العمارة (المكانيس) في جلستها وهي مستغرقة بحالها الرث وملابسها وما وضع أمامها من بضاعة مزجاة، فالفنان في هذا اللوحة حاول أن يظهر تفاصيلها الدقيقة وملامح الوجه وتجاعيده، والدقة في رسم شكل الأدوات أمامها، مع صندوق فيه حاجياتها، فقد أعتمد الفنان الساعدي على الألوان التي تتناغم مع واقعية اللوحة وتعبيريتها العالية في كل من اللون والخطوط وطريقة التجسيد الفني مما جعل هذه اللوحة هي أفضل ما يمكن أن يعبر عنها لواقعية هذه المرأة البسيطة. ويكرر الفنان زاهد الساعدي أظهار أسلوبه في واقعيته التعبيرية في لوحات أخرى ومنها لوحة الزقاق والذي ينقل فيه حركة ثلاثة أشخاص وهم المرأة وولدها الصغير القادمان من داخل الزقاق، والرجل الكبير في العمر الذي يرتدي الزي الشعبي المسمى بـ(الدشداشة) وهي لباس معروف لدى أفراد المناطق الشعبية، كما يظهر في لوحته معمار المحلة من خلال أسلوبه الواقعي الذي يعبر عن التفاصيل الدقيقة لمعمار المناطق الشعبية وأبنيتها القديمة وبعضها متهالك وآيل للسقوط، وهذه الميزة في نقل الأزقة والمحلات الشعبية يكررها الساعدي في أكثر من لوحة من لوحاته المشاركة في المعرض التشكيلي على الرغم من كون أغلبها تشير الى واقعية معبر عنها في التفاصيل المعمارية لكنها تشير الى المستوى الحياتي للقاطنين فيها وتحاكي حالتهم الأجتماعية، وهو ما يكشف طبيعية الحياة وتناقضاتها بطريقة واقعية تعبيرية في أدق تفاصيلها .
أما الفنان أحمد قاسم الذي تميز بأسلوبه اللوني المختلف عن ما ذكرناه من الفنانين المشاركين في المعرض، إذ تنوعت مشاركته في مجال استلهام موضوعات فنية قائمة على البعد اللوني في واقعيته التعبيرية، كما في لوحة الطفلة الصغيرة بملبسها الدالة على المستوى المعيشي المغاير لما سبق ذكره، فهي تمثل حالة أجتماعية أخرى تحاكي قصة في مضمونها الإنساني كون أن تفاصيل اللوحة والألوان المستخدمة المتناغم مع هذا البعد الإنساني يصور الانتظام في شكل المكان وتفاصيله الجزئية، فقد عبر الفنان أحمد قاسم عن الجانب المعتدل في الحالة الإجتماعية على الرغم من طبيعة الألوان في بعدها الدلالي والذي يشير الى المكان ذاته كونه مسكن بسيط لكنه يشير أيضا الى حيوية ما يكمن خلفه من حيث الترتيب والتنظيم الذي يبدو على الشكل في اللوحة وخاصة الطفلة، كما يتميز الفنان في استخداماته للظل والضوء وملامح الطفلة الصغيرة المنشغلة بطريقة فتح الباب أو غلقه، والذي أراد أن يعبر بذلك عن واقعية الحدث ودلالاته من حيث التشكيل الفني والألوان المتناسقة وخطوط اللوحة الأفقية والعمودية والمائلة من خلال فتحة الباب وجانبيه وقياساته المتناغمة مع حركة الطفلة الصغيرة .
أما الفنان كريم محمد في لوحة المعبرة عن الطبيعة الريفية ويظهر فيها الماكنة الزراعية بتفاصيلها المختلفة مع (الكلب) الباحث عن الطعام بالقرب منها والذي أتلف صوتها وهو ما عبر عنها الفنان بطريقة التعبير عن جسد الحيوان بالقرب من الماكنة، ويبين الفنان في لوحته تفاصيل مختلفة عن الغرفة وفي جانبها الفضاء الذي يصور من خلاله الفنان أشجار بعيدة متساوية الحجم يعبر فيها عن أسلوبه الذي يتميز بواقعيته المعبرة عن البيئة التي رافقته في أغلب لوحاته المقدمة في معارضه السابقة مما يدل على أن الفنان يتمحور في اشتغاله في الواقعية التعبيرية على الطبيعة التي يختزل فيها البعد الجمالي بإبراز التفاصيل الصغيرة للطبيعة في واقعية لا يبتعد فيها كثيراً بتعبيراته الفنية عما في داخله من أحاسيس وتعبيرات لطبيعة الحياة في أطارف مدينته.
إنَّ الواقعية التعبيرية في الفن التشكيلي في ميسان تميزت بها عدد من أعمال الفنانين المشاركين الذين قدموا تكنيكيات لونية مختلفة في هذه الأشتغال التشكيلي، تمظهرت هذه الاشتغالات بفلسفة فنية قائمة على الموضوعات الإنسانية خاصة، والطبيعة ودلالاتها المختلفة وتنوعاتها بين الريف والمدينة، وتباينت من خلالها الموضوعات بحسب الواقعية التعبيرية عند كل فنان على الرغم من أن المعرض قد شهد أشتغالات فنية أخرى لكن ما كان يميز هذا المعرض بالإعمال المعبرة عن الموضوعات التي تكلمنا عنها سابقاً، وقد بلغ عدد المشاركين في المعرض التشكيلي لفرع جمعية التشكيليين العراقيين في ميسان ثلاثة وعشرين رساماً وأكثر من أربعين لوحة عبرت عن طبيعة المدينة وريفها وابنيتها ومحلاتها ونماذج مختلفة من أبنائها من الطبقات الفقيرة في المدن والأرياف.