مدرسية الرؤية الاخراجية، مدرسية الاداء التمثيلي/ قراءة نقدية: د. شاكر عبد العظيم جعفر
قراءة لعرض مسرحية “الراديو” للمخرج د. محمد حسين حبيب
دأبت المنظومة الاخراجية المسرحية الى ملاحقة الجديد والموائم ليوميات الافراد في اي عصر يعيشون فيه، والافادة من ثقل التاريخ المسرحي واحترامه والنظر اليه على اساس متحفيته وتحوله الى تراث فكري / معملي / انساني، وهذا ما مد الاجيال بحمل هويتها التي تمثل عصرها والتعبير عنه بما احتواه من محمولات هوياتية، وفي عصر تماهي الهويات والتعددية الثقافية وتعابر المناهج والتيارات وتداخلها بمتناقضاتها ومتوافقاتها، عملت المقاربات النقدية الى قراءة المتون والاشكال المسرحية بتطورها وقربها من الواقع الانساني / المجتمعي، بما له من مميزات عن واقعيات ماضية، فلكل عصر ثقافته / هويته / قيمه / التي تفصله عما سبقه، ولذا مرت العصور بما رصفها وفق تلك الترسيمات، وما يمكن الاشارة اليه ان عالمنا المعاصر يختلف عن كل العصور السالفة وتلك من البداهة وقد فرضتها جدلية الزمن، والتطور، فحديث الصورة وهيمنتها، التي أكدها المفكر الفرنسي بودريارد حيث يرى ان عصرنا هو (صورة عن صورة عن صورة …..) بمعنى الاحتفاء بالشكل واللا عمق ، كما يرى ذلك المخرج الامريكي ويلسون بمشاطرة فورمان ايضا لنفس الفكرة، وغيرها من موائز واقعنا، ويأتي المخرج (محمد حسين حبيب) في مسرحية “الراديو” التي شاركت في مهرجان بغداد المسرحي السادس، ليقدم لنا عرضا مسرحيا من تأليف (كين تساروا – ويوا) الكاتب والناشط السياسي النيجيري بموضوعة النص التي لا تتعدى كونها مسرحية سردية تعرض الواقع النيجيري الرافض للسلطة ومصادرتها حرية افراد المجتمع وفرض ادلجتها وفسادها المالي والاداري والسياسي، عبر نزلاء في بيت معدمين ويحلمون بلقمة عيش والحصول على عمل لم تستطع الحكومة توفيره لهم، ويأتي عنوان الراديو الذي يلحق به متن حكائي يقوم على حلمية الافراد بواقع مختلف محكوم بالأمل، واحدهم لا يملك سوى الراديو الذي يحتفظ به كنوع من التواصل مع المجتمع ومراقبة ما يجري من السلطة والاحداث الكبرى والصغرى في الوطن والعالم، وقد حاول المخرج تقديم النص عبر المحافظة عليه بكونه اساس لا يجب المساس به وهذه الفكرة قديمة قدم ظهور المخرج منذ الدوق ساكس ما يننغة (جورج الثاني) واندريه انطوان، وصولا الى ستانسلافسكي، إذ يعد النص اساسي عند المخرج ووظيفته هي ايصاله وافكار المؤلف بأمانة الى المشاهدين، وهذا ما تمظهر في العرض المسرحي “الراديو” الذي امتلك رؤية اخراجية من البساطة بحيث امتثلت لتعليمات الدوق وانطوان وستانسلافسكي، اذ وجدنا ان العرض حافظ على صورة ثابتة ورؤوية ساكنة / غير متحركة منذ بداية العرض حتى نهايته عدا لملمة المايكات في النهاية، فكل علامات العرض ثابتة، بمعنى واحد طيلة زمن العرض ولم تكن مفردات العرض منتجة للمعاني المتعددة اذ توقفت عند واحدية المعنى ولم تتجاوزه، في زمن تم تجاوز البنيوية فيه مرورا الى وعينا بان العرض المسرحي هو عبارة عن علامات لها قابلية التحول من حالة الى اخرى لا سيما في مرحلة التجريب العراقي المسرحي والتي كانت قمتها في مطلع الثمانينات حتى نهايته، الا ان عرض “الراديو” اصر على ثبات مفرداته (ميز مكتب، سرير نوم، رجل في مؤخرة المسرح على مرتفع يرقب الاحداث بشغف بالاستماع الى الراديو، مايكات وزعت بطريقة مألوفة وعادية) وهذا ما يشير الى فقر الرؤية الاخراجية التي تعكزت على مدارس اخراجية سحيقة وقديمة مع معرفتنا بان مخرج العمل هو من العاملين في المسرح الرقمي الذي لم نشاهد له اي تجربة رقمية تذكر ولا نظرية رقمية سوى اراء هنا وهناك لم تستطع تجاوز ماقرأناه عن الرقمية بشكلها البسيط مع العلم ثمة كتب مهمة جدا عن الرقمية لا يسع المجال لذكرها هنا، فجاءت الرؤية الاخراجية بمدرسيتها تعلن عن بساطة التفكير وعدم قدرته على الابداع في قراءة النص إخراجياً، فتمترس العرض عند قراءة النص شفاهيا ونقل محتواه للجمهور عبر حفظه وترداده من قبل ممثلي العرض بانفعالات المدرسة الطبيعية لأندرية انطوان وانتقالها للمدرسة الواقعية النفسية لستانسلافسكي ، وبالإشارة الى مخرج العمل الذي تحدث على انه صاحب في نظرية المسرح الرقمي وقبل مشاهدة العرض يتبادر الى ذهنية المتلقي ان هذا العرض سيكون صادما ومختلفا عن عروض المسرح العراقي بحيث سيكون عابرا للواقعية والطبيعية الى فضاءات التكنولوجيا والرقمية وفنون ما بعد الدراما، الا انه لم يكن كايوسيا ويكسر افق توقعاتنا، فجاء بحلة مألوفة ومستأنسه وغير مثيرة، وبسبب مدرسية الرؤية الاخراجية وبساطتها وانتمائها الى عروض المسرح الطبيعي / المألوف / والذي لا يحرك ساكنية المتلقي وتغيير مزاجية التلقي، فقد تساوى مع التمثيل بحيث كان التمثيل هو الاخر مدرسيا / عاديا / وقد انفلت الممثل مهند بربن من أسر الرؤية الاخراجية بخبرته، فإيقاع العمل بعدم وجوده كان رتيبا، ليكون من معه على المسرح من الممثلين كظل له وهو يطغى على ادائهم، واحسب ذلك الى ان الممثلين قد اعتادوا نمطية الاداء التقليدي ولم يؤمنوا باليات التمثيل الذي يتماهى ومسرح اليوم المختلف عن الامس.
كما يمكن الاشارة الى سينوغرافيا تقليدية غير قادرة على الاثارة، لان النص كان حاضرا باشتراطاته التي حددت وقمعت امكانات الابداع واحالت العرض الى جسد محدد بفرضية المدونة النصية، وحاول الاخراج ان يبتعد عن نيجيريا الى العراق، وقد كان هذا الهدف مفضوحا بالاشارة الى الفساد الحكومي وفساد الواقع الاقتصادي، وبسبب تلك المباشرة ولبساطتها لم يأتي تأثيرها في المتلقي بشكل مفاجيء مؤثر فنيا وادائيا، فمرت مرور الكرام .
العرض المسرحي “الراديو ” قدم رؤية اخراجية غاية في البساطة / تقليدية / لم ترتقِ لجماليات المسرح العراقي، رؤية اخراجية لا تتحايث والواقع المسرحي المختلف / الصوري / الادائي / المغاير، فقد كان عرضا من البساطة بحيث يمكن صفه في صفوف عروض المسرح بدايات ظهور المخرج المسرحي متجاوزا اهمية الرؤية الاخراجية في تكوين نص العرض ودراماتورجيا العرض، وما بعد الدراما، انه عمل درامي بكل تفاصيل متطلبات المسرح الطبيعي / الواقعي / المدرسي.
** د.شاكر عبد العظيم جعفر/ العراق ( اذار 2023)