الام شجاعة ودورها البطولي في حرب الثلاثين عاما / مجيد عبد الواحد النجار
الشجاعة مصطلح يطلق على كل انسان يقوم بعمل لم ولن يتمكن الاخرون من القيام به، وهي تختلف اختلاف كبير عن المجازفة، بكون الاخيرة لم يحسب لها حساب، ولم ينظر الى ابعادها ونتائجها، لكن الشجاع لديه اصرار بان ينجز عمله بأفضل مما خطط له، وبغض النظر عن كون النتيجة شخصية ام عامة، اذن يجب ان لا تطلق كلمة الشجاعة جزافا، على كل عمل، يمكن ان يكون صاحبه بذل جهدا كبيرا او قليلا، شخصي او عام، كذلك يجب ان لا نطلق كلمة الشجاعة على شخص لأنه لا يخاف، فالخوف في مفهومه العام نسبي، يتباين لدى الناس منذ ولادتهم، واحيانا يعتبر البعض الخوف شجاعة كونه يخلق روح التحدي لدى الخائف، وان الشجاعة دائما ما تكون غريزية، لا يمكن اكتسابها بتجارب الحياة او المواقف الصعبة، وما ينتج عنها من مواقف ايجابية هذا لأنها موجودة اصلا واحتاجت الى دافع معين من اجل ظهورها، خارج مكنونات الانسان، الذي خبأها دون دراية منه.
فهل هذا المعنى ينطبق على (الام شجاعة) في المسرحية التي كتبها برتولت برشت أواخر عام 1938، وقد اخذ المادة التاريخية من كتاب المؤرخة (ودجوود) عن حرب الثلاثين، والجو العام للمسرحية من كتاب (البارون فون جريملز هاوسن)، والذي اراد برشت من خلالها التأكيد على عدم انسانية الام ودناءة دوافعها، التي تدفعها للعيش من بيع الطعام، واستغلال الجنود وقت الاقتتال، ولم تفكر هذه الام بموت المقاتل او معيشته، بقدر ما تهما حياتها الخاصة. كذلك اراد من خلال هذه المسرحية ان يبعث برسالة للجمهور المستهدف في العرض؛ ان يستخلص من هذا العمل العبرة من الام التي لم تسير في الطريق الصحيح .
فهل كانت الام لم تسير على الطريق الصحيح فعلا؟ وهل العمل من اجل العيش جريمة بالنسبة لبرشت؟ هل كانت الام تتاجر في الاسلحة؟ هل كانت تنقل معلومات سرّية للمتقاتلين؟ هل كانت الام قد خُيّرة بالعمل خارج الثكنات العسكرية، ورفضت؟ وهل كان الاخرين ينظرون للام شجاعة بنفس النظرة التي نظر برشت لها؟ هل كانت منبوذة في وقتها من قبل المجتمع؟ هل كانت هي السبب في اطالت الحرب الى ثلاثين عاما؟ اسئلة كثيرة يجب على من يقرأ هذه المسرحية بدقة ان يجيب عليها، واهمها لماذا اراداها برشت (ان تكون عبرة للمجتمع)، ما هو الدور الكبير الذي لعبته هذه الام المكافحة التي ارادت ان تقدم لأولادها لقمة نظيفة، انها بهذا العمل البطولي تقف بالضد من البرجوازية، وترفض ان يعطف عليها احد من البرجوازيين بلقمة وسخة لأطفالها، لقد رفضت التسول ورفضت البرجوازية، لكنها واجهت الفقر الذي (يكاد ان يكون كفرا) بشجاعة وبسالة ودخلت ارض المعركة من اجل لقمة عيش كريمة لأولادها حالها حال جميع الامهات اللائي تحمّلن مسؤولية العيش وقساوة الزمن، انها الحرب يا سادة، الحرب التي رفضتها الام، من خلال عدم قبولها بان يشارك ابنها الاكبر في القتال.
(الام: تكون عاقلاً اذا بقيت مع امك، واذا سخروا منك ووصفوك بأنك دجاجة، فما عليك الا ان تهزأ بهم).
دخلت الام في اخطر الاماكن من اجل لقمة العيش (النظيفة) كما نقول، لماذا هذه النظرة الدونية لهذه الام المكافحة، دون النظر الى شجاعتها وبسالتها في احتضان اولادها وبنتها، وعدم تركهم في الشارع تنهش بهم كلاب البرجوازية، او ينحرفوا في طرق الشر والرذيلة، ماذا كانت تبيع هذه الام التي تجازف في حياتها، انها تبيع الاكل والشرب والملابس البالية، في مكان وجدت فيه من يشتري منها دون اذلالها، مخاطرة بنفسها وابنائها الذين يساعدونها في قيادة العربة، نعم انها تملك(عربة) وليس دبابة او مدفع، او عربة حديثة، انها تدفع بهذه العربة وتبيع ما فيها ليس من اجل صمود المقاتلين، بل من اجل كرامتها وعزة نفسها، انا متأكد ويمكن ان يؤيدني البعض لو كان للام وسيلة اخرى لإطعام اولادها لما اتجهت لأخطر الاماكن، وكانت صبورة وراضية بما تجنيه من رحلتها هذه.
العريف: …. ولماذا تدعى(شجاعة)
شجاعة: اني ادعى شجاعة لأنني توجست خوفا من الدمار، ايها العريف، واخترقت نيران ريجا ومعي خمسون رغيفا في عربتي، وكانت قد بدأت تتعفن ولم يكن ثمة مفر.
نعم خمسون رغيفا وليس خمسون رصاصة او بندقية، ولولا مجازفتها في الدخول لأرض المعركة لكانت هذه الارغفة في افواه الحيوانات والطيور، لأنها اوشكت على التعفن، ومن ثم من اين تأتي بثمنها؟ كيف تعوض خسارتها؟ وماذا تقدم لأولادها؟ وهل يشتري منها البرجوازيين هذه الارغفة المتعفنة؟ انه الفقر يا سادة، هكذا يفعل بالفقراء يدخلهم اماكن لم يدخلوها لو كانت لديهم لقمة عيش تكفيهم ليوما واحد.
ورغم كل هذا الفقر والجوع، ربت هذه الام المجاهدة اولادها على الامانة والشجاعة.
(الام : ياجبن سويسري ! (…) ، انت تعلم انني قد ربيتك على الامانة، لأنك لست ماكرا…..)
وبنفس الوقت كشفت قساوة البرجوازيين الذين لا يهمهم الفقير ولا يبالون بفقرة، عندما تقول لابنها(…… ان ما يطلب من التاجر ليس ديانته ، بل الثمن الذي يتقاضاه عن سلعه)، كما كشفت وضاعة الناس، وما تفعل الحروب بهم.
شجاعة: … الحمد لله ان من الممكن رشوتهم (…)، ان حب الانسان للرشوة كحب الله للإحسان.
هذا هو الدرس الحقيقي للمسرحية، لقد كشفت الام زيف الانسان، الذي يعتبر الرشوة (عبادة)، وبها يتقرب الى الله، وهي لا تتمكن من العيش بعربتها المتهالكة، بل متهمة بانها مؤيدة للحرب بل ساهمت في اطالتها من خلال تجارتها، نعم (تجارتها) الخبز والماء والملابس البالية (تجارة) هل يستطيع احد من ان يقدر الكمية التي تحملها هذه العربة؟ هل يتمكن اي احد ان يقدر الارباح التي تجنيها هذه الام من بيعها ليوم واحد؟ هل يستطيع احد ان يقدر كمية الخوف في قلب الام على بضاعتها من التلف؟ هل يتمكن احد من ان يقدر كمية الخوف في قلب الام على اولادها؟ لا احد لقد قدم برشت الام كدرس للمجتمع ليتخذ منها عبرة، كونها (تاجرة) وبرجوازية، ولا يهمها اطالة الحرب بل التجارة من الحرب، ما هذه القساوة الكبيرة التي تتلقاها الام بدل التعاطف معها، وهي تفقد اولادها واحدا تلو الاخر ، ولا تتمكن من انزال دمعة واحدة حرصا على الاخرين، وحرصا على عدم مصادرة عربتها التي تأكل منها بقدر ما تجهد نفسها فيها.
(الام:….. ان الحرب ستستمر بعض الوقت، وهكذا نستطيع ان نكسب قليلا من المال نستعين به في وقت السلام)، نعم (قليلا من المال)، انها ترضى بالقليل، بل تؤكد انها لم تكن تاجرة بمعنى التجارة التي يقودها البرجوازيين الذين يشعلون الحروب ويكسبون منها الملايين، انها كالنمل يُخزّن قليلا من الاكل في الصيف لكي ينفعه في الشتاء.
فهل هذا هو التغريب الذي يتحدث عنه برشت، غرب من قضية الام الشجاعة، التي جاهدت لمدة ستة عشر عامل مع عربتها من اجل لقمة عيش لأطفالها، وفضلت صدقة المقاتلين عليها على صدقة البرجوازية المقيتة، وحولوها الى تاجرة حروب، هل هذا هو التغريب فعلا.
من جرب الحروب او عاشها يعرف جيدا ان الدولة وبكل ما تملك تتوجه الى جبهات القتال وتحاول ان تغذيها بالمؤونة والسلاح من اجل استمرارها، تاركة الشعب تحت طائلة التجّار واصحاب رؤوس الاموال، يتاجرون بهم ويلعبون بمقدراتهم، وما فعلته الام ما هو الا انتفاضة على كل هذا، ارادت ان تعيش بخوف السواتر، بدل الذل من تجار الحروب الحقيقين، الذين دائما يعيشون تحت عباءة السلطة، لذلك (فرشت) عباءتها لأولادها وحاولت ابعادهم عن الحرب لكنها فقدتهم واحدا تلو الاخر، وكانت ضربات قلبها تتسارع مع كل من يسقط بقصد او بدونه، يسقطون بدوافع لم تكن ترغب ان تكون هي السبب في فقدانهم، لكن القدر يخبئ لها كل المآسي، والجحود من الاخرين، وعباءتها التي احتضنت بها اولادها تمزقت، بسبب اخلاصها وحبها للعيش الكريم، انها تدفع الثمن كبيرا، حتى مع انسحابها للمدينة مع ابتها، لكي تعيش قسطا من الراحة، ولكي تتبضع (هماً وغماً) من اجل العيش، العدو يدخل المدينة بكل قساوته من اجل ارعاب من فيها، لكن بطولة ابتها (قطرين) الخرساء توقظ النائمين من خلال الطرق على طبلة تحصل عليها في العربة، تتسلق السطح وتبدأ بالطرق عليها رغم التهديد والوعيد من قبل الجنود، لكنها مصرة ان تسمع امها، التي لا زالت في المدينة، ولم يتمكن الجنود من اسكاتها الا بطلقة تخرج من بندقية احدهم .
تعود الام من المدينة فتجد ابنتها جثة ممددة على السطح، ولا تجد من الدموع قطرة واحدة تنزلها لقطرين، لقد جفت الدموع وتيبس القلب، وليس بيدها سوى ان تدفع للفلاحين ثمن دفن ابتها الخرساء، التي لم تنطق في حياتها كلمة، لكنها هزت الدنيا بضرباتها على الطبل، من اجل ان لا يموت الناس ببنادق الجنود الحاقدين، وان تخبرهم بقساوة الحرب وجنودها، ترحل الام بعربتها محملة بالهموم ووجع السنين الطويلة، التي ناضلت وجاهدت ستة عشر سنة من اجل لقمة عيش كريمة، ذهبت بلحظة غير محسوبة، بلحظة كانت تتمنى ان تعيش مع اولادها حياة عزيزة وكريمة.