بتونس: “رحل”(كوريغرافيا واخراج ثريا بوغانمي) بالدورة 26 للمهرجان الوطني لمسرح التجريب بمدنين/ د. فوزية ضيف الله

لا يمكن أن ننكر أن المسرح والكوريغرافيا كانا اول المستفيدين من الثورة التي شنتها الفلسفة انتصارا لتعبيرية الجسد، وتجاوزا للاطروحات التقليدية التي جعلته قبوا للنفس، وميزت بينه وبين الروح. ولعل تعبيرية الجسد التي مرت من مجرد الإشارة الى تساويه مع الفكر (سبينوزا)، الى كونه يحقق ضربا من التحايث المتجسدن مع الفلسفة الفينومينولوجية، فيسمح برؤية العالم و العودة إلى المعطيات الأولى للوعي والادراك، فصار الحديث مع مرلوبونتي عن جسد معبر وعن تعبير متجسدن. بيد أن نيتشه أشعل نار متوهجة في ثورته على كل الاقصاءات التي عاناها الجسد تاريخيا وفلسفيا، فصاح “انا جسدي”…فكان أن جعل من الجسد موطنا للإبداع الفني، وكانت الغرائز انبجاسا لفلسفة الحياة الحقيقية، تلهم الفنان والمتفرج وتجعل من حركة الحواس تجاه الأشياء والألوان ضربا من المشهدية العميقة، تؤول الفكرة وتصنع المعنى.

كانت استفادة المسرح جليا من الكشوفات الفلسفية، فكان أن استعاض عن الكلام باللغة الجسدية، ووظف تعبيرية الملامح والرقص بكل أنواعه..وصار العرق المتصبب من الجسد علامة على انبجاس مختلف لمعنى الحياة. وقد كان ذلك جليا في اللوحات الكوريغرافية المصاحبة للعروض المسرحية التي يمكن أن تعوض فصلا بأكمله، يقع تمثيله بالرقص والتجسدن المتلون. كما يحضر في العروض الكوريغرافية المحضة.

لا يتوفر وصف.

عبر العرض الكوريغرافي “رحل” لثريا البوغانمي عن ابداعية الجسد ، من خلال عرض كوريغرافي محض مصحوب بنصوص مسموعة. وقد جاء العرض تعبيرا عن ترحال وجودي، ينتقل فيه الإنسان مترحلا من كيان الى آخر بحثا عن مقام وجودي ما. يكون الترحال، عنيفا عنف الجسد الثائر، صاخبا صخب الكينونة، مشحونا بالسؤال الذي يحركه في كل مرة، يأكل من لحمه السارد ويقتات على نبض العضلات المنهكة والمتلذذة بالصراع. يحتاج مبحث الوجودية بصادية ما، ويواصل سيره المتوحش نحو المعنى المبحوث عنه في صحراء المعنى. يرتج الجسد، يرتعش لذة وصخبا وغضبا، تخرج بعض الشخوص عن القطيع وكأنها تبحث عن توحد وعزلة مختلفين، لتجريب وجود آخر يراوح بين عبثية البار كامي وعدمية نيتشه. كما يراوح بين وجودية هيدغر الكاثوليكي ووجودية ساتر الثوري. ينسحب المعنى ويضيع وسط السراب، يتقاطر العرق وينضب المعنى..غير ان الرحلة متواصلة في غموض داهم وعمق قاتم وسر غائم..

يطوي الإنسان الأرض، باحثا عن المعنى، غير انه يهدم في كل مرة ما تحصل عليه..وكأنه سيزيف الذي انهكه مسعاه. لقد كانت اللوحات الكوريغرافية على وقع موسيقى نصر الدين الشبلي، لوحاتا تنهل من العنف نفسه، فتشير الموسيقى كما الرقص الى أن المعاني توحشت مثلما توحش الوجود واننا في زمن التوحش المتجمل، هي جمالية القبح الثائر على كل شيء..ويعود التوحش متوحشا ليستنبط من نفسه لغة عنيفة يمكنها فهم ما يحدث من فوضى وتحسس الشعور الذي مات تحت انقاض اللامعنى.

ساهم في آداء العرض الكوريغرافي “رحل”: قيس بولعراس، ثريا بوغانمي، حسام الدين عاشوري، هادية عبيد، عز الدين بشير، أسماء مروشي، اسامة شيخاوي، وبوبكر غناي. سينوغرافيا: صبري العتروس وحسين التكريتي. كوريغرافيا وإخراج: ثريا بوغانمي. ونصوص: عبد الحليم مسعودي، بأداء صوتي: لمحمد شعبان.

 

 * د. فوزية ضيف الله. جامعة تونس المنار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت