صرخة الجسد والروح…انين الروح والجسد في قبل المواجهة…/ الدكتورة ميادة الباجلان
المسرح رمز ديمومة الحياة ومتغيراته بكل تجلياته الفكرية, الفلسفية, والجمالية, يخاطب الانسان خطاباً فنياً حضارياً قادراً على تغيير المجتمع نحو الأفضل والاحسن وذلك من خلال صناعة خطاب معرفي ثقافي منتج لمفاهيم وأفكار جديدة لها القابلية على التأثير في المتلقي بتلبية حاجاته النفسية والعقلية والاجتماعية… وما الى ذلك .. لتفتح آفاقا جديدةقادرة على مواجهة الحياة وصعوباتها..
مسرحية:”قبل المواجهة” نص فلسفي رسم بصورة تعبيرية للصورة الجمالية ودلالات مغايرة لحكاية الانسان, استلهم الكاتب(فلاح عبد حمدون)(المواجهة بين الحتمية ما بين الروح والجسد) من صراع الانسان مع نفسه, ومع الآخر.. منطلقا من لحظة الموت التي يفكر فيها كل انسان.. يستذكر شريط حياته لصور وأفعال, وذكريات, وما عاناه في حياته منذ صغره, ذكريات قادته الى المصير المحتوم, يحمل في طياته عدة تساؤلات مخاض صعب لصرخات موجعة تريد التخلص من كل الالام والمصاعب التي يعيشها الانسان, والبحث عن ملاذ آمن, والعيش بسلام, كيف الخلاص, هل سيأتي اليوم الذي نتخلص به من كل الويلات..والمآسي .. انه الموت المحتوم..
شاكس المخرج (عبد الله المفرجي) النص (المونو دراما) للشخصية الواحدة الشخصية المركبة, شطرها الى شخصيتين (الجسد) و(الروح) وكل منها يعاتب الاخر بالذنب, موضوع شائك ومعقد في طرح بيئة النص الى بيئة فلسفية لواقع الانسان, رسالة أرادها المخرج خطابا بصريا عبر تنقلات ايقاعية تبادلية بتصاعد درامي للنسق الادائي في وضع سلطة الموت عبر ايقونات رمزية, واشارية, بمنظومة بصرية موازية للمنظومة السمعية, أحداثا بلغة مناسبة لبناء تتابع واقعي للحدث الدرامي والمتصاعد عبر شخصياته للدخول ضمن مسار الفعل الدرامي وفق الحبكة لمسار الحدث لأصوات تتعالى وتتشابك وسط فضاء سينوغرافي, حوارات ثنائية بين شخصية (الجسد) التي جسدها (عمر اكبر) وشخصية(الروح) التي جسدها (عبد الرحمن نوفل) للبوح عن المعاناة التي يعيشها الانسان ليجعل المتلقي جزءا مشاركا من اللعبة المسرحية, والخروج من الطريقة التقليدية الى طريقة الخطاب الحضاري حداثوية بتنوع الرؤى والذات.
ترجم المخرج من خلال سينوغرافيا العرض النص الدرامي صورة موجعة لمشهدية وطريقة الاداء للمدرك الحسي والجماليبين شعرية الاداء وجمالية المعنى ل(المكان, الزمان, الحدث ) صورة فلسفية لواقع العالم وصور الحياة وعبثتيها المؤلمة لمصير الانسان المحتوم بالموت, في ظل ايقاع الضغط النفسي اللامتناهي, مأساة بشرية معاصرة للظروف القاهرة محتومة بالتأزم والقسوة وأشكال الموت في ظل الحروب والجوع والألم…
فضاء مسرحي بسيط, اقمشة بيضاء غطت الفضاء للتعبير عن (الكفن) الموت المحتوم لكل انسان حمل المعطيات الدلالية الفكرية بالأيقونات المناسبة لرؤية العرض المسرحي, حملت دلالات واقعية, هذا ما عكسه في المشهد الاستهلالي حيث تعالت أصوات الموسيقى وأصوات كل من شخصية (الجسد)و(الروح),وهما يعاتبان بعضهما..عبرت ترقب الشخصيتان أمام أصوات مختلفة ومتداخلة في معركة الحياة مما جعلت من المتلقي جزءا من الحدث المسرحية في حالة من القلق والترقب, امتزجت الموسيقى بالشعائر الدينة للتعبير الدلالي الجمالي في الصورة الحسية تمثل صرخة بين الحياة والموت, الحق والباطل, الحاضر والماضي, السعادة, الحزن….
تميزت مشاهد العرض تداخلا تعبيريا للطقس الدرامي الشعائري للمشاهد السمعية والبصرية والحركية وميزانسينها بإيقاعات متناغمة خلقت فضاءا سينوغرافيا العرض أجواء. ثيمات متعددة (الجسد يلوم الروح)( الروح يلوم الجسد) حوارات شائكة, وسط حلبة تحمل التأويل لخلق الصراع فيما بينهما, اذ ابهر اداء شخصية (الجسد) بجانب شخصية (الروح) صراعا في الاداء الجسدي والصوتي والحركي بكل معطياته الفكرية والجمالية شكلا ومضمونا للموقف الدرامي, اتسم بالشد والتصاعد مسايرا لهذا الألم والانتماء الروحي في اثبات وجوده الانساني وتمرده على سطوة وقسوة الواقع المرير رافعا يده للسماء للخلاص من الظلم ومصيره المجهول, اذ امتلك الشخصية العزيمة لمواجهة (الروح) تحاول ان تستذكر محطات الحياة بكل مراحلها التي مر بها من ظروف قاهرة لخلق الصراع بين(الجسد والروح) بنسق درامي ذهني وجمالي وفق رؤية المخرج ووحداته الايقاعية التحريضية .
حقق المصمم الديكور البسيط بقطع ديكوريه بسيطة متحركة لبيئة العرض بطابعها الواقعي, واقتربت الأزياء الى واقعية (الأكفان) الموت, ووضع في وسط المسرح قطعة خشبة كبيرة ادت الى دلالات منها (السرير) و(السدية) مكان غسل الأموات و( القبر) ..حققت وظيفتها الدرامية التعبيرية, تكاثفت بوعي متبادل ما بين الاضاءة والموسيقى ومؤثراتها الصوتية ألوانا صورية, معادلا حسيا في وضوح الأحداث والشخصيات, قربت المسافة الجمالية فأعطت اللون الأحمر دلالة واضحة لترقب الموت, نفذها (عمر اسعد) رغم بساطتها أن تحلل المشهد الواحد عبر الانتقالات, اذ صاحبت الاضاءة الموسيقى, وانتقال حركة الممثلان التعبيرية, للرقصات والحركات الايقاعية الميكانيكية بغية اتضاح الرؤية للشكل, فقد واكب البناء السمعي والبصري للموسيقى خلق فضاء التخيلي عزز بها(المفرجي) للرؤية الاخراجية, وطاقة الممثلان الانفعالية مما زاد من قوة الشد والتأثير وهواجس الترقب لدى المتلقي .
الموت نهاية كل انسان…لسان حال الشخصية (ننتظر الموت المحتم)..وضعنا المخرج أمام ديمومة حالة الترقب, والانتظار..لا زلنا نعيش في صراعات حياتية اجتماعية.. اقتصادية.. نفسية…انها وجع انسان, مأساة لا تنتهي.. إنه الموت.. فأين المفر.. ولا زال الصراع قائما..