حياةٌ مجهولةُ الهُويَّة…بين مرارةِ الواقعِ وكيفيةِ التعبير/ جبّار ونّاس

تبدو الحياة في العراق بعد 200‪3 شاسعةً فيما هو غريبٌ ومثيرٌ وربما يتعدى إلى أعلى مما هو عجائبي فهذا التغييرُ الدراماتيكي جعل من تلك الحياة وقد تصيَّرَتْ وفقَ خرائطَ حتى باتت هذه الخرائط ترسمُ بمساراتها على جسد الوجودِ الواقعي بين أوساط المجتمع في العراق. ولو أخذنا زمامَ التحري لما سارتْ عليه تلك الخرائطُ فعندها سنكون أمام محصلاتٍ لاحصرَ لها من التوصيفات وقد جاءت كخلاصاتٍ لمسمياتٍ أثرت بفعلها المدمرِ على جسدِ الإنسان في هذا البلد وهذه المسميات تبدأ ولاتنتهي بتعدادها فبدءاً من الإحتلال وإنهيار مقومات الدولة الحقيقية إلى صعود المكوناتِ وكلٌّ بجذرِه العرقي والطائفي والقومي والى حروب الطوائف بين عامي2005-2006 والإرهاب والقتل على الهُويَّة والى التهجير والى التصفيات المجانية وقتل روح الإنتماء للوطن وإحلال مكانه الإنتماء الطائفي وليس أخرها التصفيات التي عصفت بجسد الشبابِ في العراق أثناء مجريات إنتفاضة تشرين العراق 201‪9

فهذه العنوناتُ الباهضةُ في اثرها ودمارها المروع على الإنسان في العراق صارت مادةً ادبيةً وفنية إستطاع الشاعر والكاتب (منذر عبد الحر) أنْ يلتقطَ جزءاً منها ويجسدَها في نصٍ مسرحي بعنوان “حياةٌ مجهولةُ الهُويَّة” المنشور في مجلة (الأديب العراقي) العدد (32) في صيف 202‪2 وقد كتبه بإسلوب المونودراما ذات الشخصية الواحدة ورغم ما عرفناه عن الشاعر (منذر عبدالحر) من إخلاصه للشعر والتجوال بين أقاليمه إلا أننا نجده يسيح بإتجاه الكتابة للمسرح ومحاولة التجريب فيه عبر نص مسرحي يتشكل وفق نمط كتابي يكاد يجمع ما بين الواقع والغرابة فما حصل في العراق من أحداث ومخاضات تكاد تتسم كلها بما فوق المتخيل من حدود الواقع وثوابت المنطق وإزاء هكذا تحد مثير أمام الكتابة فكيف يكون التعبير الادبي والفني حين يتداخل مع هذه الغرابة ومحاولة نقلها فنيا وادبيا وبالطبع ما مقدار الإشتغال الفني والادبي الذي يمكن له ان يتسامى او يوازي او يرتفع قليلا على منسوب ما هو يكتظ به واقع الأحداث التي حصلت في العراق وبكل ما تحمله من إثارة ودهشة وغرابة؟

فالقتل على الهُويَّة والتصفيات الجسدية بكاتم الصوت والتفجيرات الإرهابية كلها شواخص تكاد الذاكرة الجماعية تمتليء بها وقد صارت ايضا مادة قرأنا عنها وشاهدنا بعضها عبر روايات كما هو الحال مع رواية ( فرانكيشتاين في بغداد) للروائي أحمد سعداوي. وفي المسرح لنا في مسرحية (تحوير) للكاتب على عبدالنبي الزيدي وكذلك في مسرحية (مملكة الكريستال) لمعدها ومخرجها سلام الصكر المعدة عن أشعار الشاعر موفق محمد وفي كل عمل من هذه الأعمال ثمة إشتغال ياخذ له بمسار يشكل فيه مقداراً في الخصوصية في التناول والتداخل والطرح..

وقد عوّل الشاعر (منذر عبدالحر) وعبر نصه هذا على أنْ يخوض في مضمار كتابي مضاف يشكل له رصيدا في التناول ومن منطلق الشعور بالإحساس العالي حيال ما يعيشه وطنه العراق من تداعيات واحداث ومن واجب الكاتب الملتزم ووفق ماتمليه عليه موهبته وإحساسه لإن ينطلق في الرصد والتأشير والفضح لكل ما هو مستجد على سطح الواقع الحياتي في العراق من جراء أثار تلك العنونات والمسميات التي تم ذكرها اٰنفاً..

وعند الوقوف أمام إشتغال الشاعر في هذا النص يمكن أن نلمس الآتي :

من حيث الشكل والبناء نجد أنَّ الكاتب يبدأ من ذروة الحدث (قتل الشاب ورمي جَثته في نهر دجله)

– يهتم الكاتب بكثافة الحضور المؤثر لفاعلية المكان وأثره إذ يشكل كشاهد وأيضا كعامل إدانة في نفس الوقت فالمكان محدد ومفروز (بغداد – نهر دجلة – ساعة القشلة – جامع الشهداء) وفي ذات الوقت نرى ان الزمن لم يكن غائبا بين متطلبات الإلتزام بقواعد الشروع في كتابة نص مسرحي يكاد يلتزم بوحدات البناء الفني للنص ( المكان – الزمان – الحدث) فعامل الزمن شكل له حضورا بارزا بدأً من مفتتح النص في الليل في إشارة على ظلامية الفعل الإجرامي المتمثل بقتل الشاب ورمي جَثته في نهر دجله قبالة ساعة القشلة التي تمثل قلب بغداد وشاهد على زمن واحداث عاشتها هذه المدينة.

نجد ان الكاتب يميل إلى السؤال وفي هذه الإستمالة يحتشد أمامنا ما هو مثير ومدهش بإتجاه الغرابة فمثلا (ما قيمةُ الإنسان حين يغدو جَثةً مجهولةَ الهُويَّة؟) و(لقد جف الدمُ على صدري ولا ادري الآن هل أنا وجود ام عدم؟) و(ترى أيُّ عصرٍ مسخ هذا الذي جعل من الإنسان مزيجاً من أعضاء مركبة يشترك فيها عدد من الأشخاص المتنافرين ليكون ( بالةً) أو فرانكشتاين جديدا ترى كيف يكون فرانكشتاين فينا من دون أنْ نعلم؟) فهذه الاسئلة راح يلفظها لسان ( الجَثة/الشاب) الذي لقي مصير القتل من جراء فرق الموت وتم القذف بجَثته في نهر دجله.

وقد أعطى ترافد السؤال قيمة مضافة لفعل الدهشة والتأمل لدى القارئ إذا ما علمنا أنَّ لحيز السؤالِ مساحةً ستكون عاملَ تحشيدٍ في إمكانية الحضور المؤثر لجدوى الفعل الكتابي:
وكذلك نجد الكاتب (منذر عبدالحر) يسهب في سحب ثنايا التاريخ الى متن نصه حين ربط بين ما حصل لبغداد أثناء الإحتلال المغولي لها وحالة التدمير وقتل روحها الحضارية الوهاجة وبين ما حصل فيها بعد التغيير المدمر وما حل بها من خراب مادي وروحي راح يشيع بين اوصالها.
نرى أنَّ الكاتب يميل إلى قدرة إستثمار التعبير الشعري حين يبدأ (الشاب /الجَثة) بالتنويه لدور الأمواج وألوانها (بيضاء -خضراء – حمراء – سوداء – رمادية) وكيف أنَّ الطينَ والماءَ يكونان مكاناً لذيذاً حيث هي الحياة البديلة بعد أن تذوبَ ذاكرتُه كُلُّها في النهر ويشكلَ النهرُ بوجوده شاهدَ تاريخٍ وايضا شاهدَ إدانةٍ لما حصلَ من قبحٍ بحقِ جسدِ الإنسان في العراق بفعل خراب الطوائف وغياب القانون وقتل كرامة الإنسان بعد أن يُستباحَ جسداً وكرامةً وحضوراً آدمياً
إنَّ هذا الأسلوبَ الذي إختاره الكاتب (منذر عبدالحر) وهو يميل كتابيا نحو الدهشة والإثارة والغرابة في رصد ونقل الفعل الكتابي مسرحيا لهو الانجع والأكثرُ إقترابا في التداول حين يتم التعاملُ في نقل أحداث وأفعال تكاد تعلو على ما هو فوق المنطق والتصور الواقعي وقد يؤدي هذا الأسلوب في التناول مفعولاً سيحققُ لدى القارئ/المشاهد قدرةً على التجاوبِ المتبادلِ في عملية التلقي وفي ديمومةِ القراءة المثمرةِ والفعالةِ في الإستجابةِ المطلوبُ تحقُقُها عن قرب.
ورغم سوداوية الفعل الإجرامي الباعثة على الحزن والأسى إلا أنَّ ميلَ الكاتبِ إلى إستثمار الفعل اللغوي في تأطير إنفرادية الحدث المسرحي وجعله يقتربُ من مساحةِ الشعرِ ساهمَ في تذليل تلك الروحِ السوداوية في تداول وحصول الفعل القرائي لدى مَنْ يقرأُ ويتابعُ هذا النص المسرحي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت