علاقات أسرية .. علاقات خطرة .. كانسرية/ نهاد السيد
الكنسر .. مرض ينتشر ويتوغل داخل جسد الانسان وقد يظهر حتى بعد إستئصال الجزء المصاب به الى أن يؤدي بالمصاب نفسه الى الوفاه .. هكذا ربط مؤلف عرض “علاقات خطرة” الم الكانسر المنتشر بجسد الانسان بمساوئ العلاقات الانسانية المتبادلة بين الأباء والأبناء ومدى خطورتها على النفس البشرية منذ النشئ والتكوين مستخدما للانسان عنصر مشارك إبان عرضه .. بل إنه فضل أن يخفي ذلك الربط ليوضحه في آخر مشهد بعرضه بأسلوب المشاهد المنفصلة المتصلة، في رسخ مشاحنات داخل الدوافع النفسية لشخصيات العرض للوصول الى ذروة الحدث بأسلوب متراكب تم تفكيكه مسبقاً عبر نص العرض ثم خلطها بشكل متوازي حي أمامنا يمكننا أن نشعر به .
وحتى لا يصعب الأمر على قارئ المقالة الذي لم يحالفه الحظ بأن يرى العرض الذي عرض على خشبة مسرح الطليعة ضمن فاعليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الخامسة عشر ، فمن الأفضل أن نسترسل حديثنا تبعية للأحداث قدر المستطاع، ففي بادئ الأمر وأنت جالس على مقعدك في صالة العرض تجد مزيج مختلط من الشعور الانساني المتناقض بين شخوص الأسرة الواحدة المتمثل في طقس مجتمعي وهو سبوع المولود، يتخلله عديد ونواح وكذلك أيضا دقات أهوان التي تشعرك ولو للحظات أنك تستمع إلى أجراس كنائسية عزبة رنانة ليحيطك خليط غريب من الشعور المتناقضة بالهيبة والجلالة والرهبة وكذلك الحب والحميمية والدهشة والخوف في آن واحد يتخللها الجمل المعتادة في ذلك الحدث من أفراد الأسرة ” إسمع كلام أمك .. إسمع كلام أبوك …..” ممزجة ببعض الكلمات التي توحي بالرفض والغضب .. مما يؤدي هذا الى تهيئة المتفرج لأن يشعر بجزء ولو بسيط برسالة العرض يتخللها الشعور بالغربة والغرابة والفظاعة ، وهذا ما يريده المخرج لأن يصل اليه المتفرج في نهاية العرض متخذاًطيله عرضه تفكيك لفكرته الأساسية نحو ثلاث محاور نفسية رئيسية للحب متقطعة تسير معاً بالتباعية …
المحور الأول .. الحب العاشق
وهو الحب الأفلاطوني والاخلاص والتفاني من أجل الحبيب دون مقابل ، وإختاره المخرج لتمثيل شخوصه ” أحمد ومنى ” كمثال للحب العذري باعتباره الرمز الأيقوني المعروف في أذهان المتفرجين عبر الشاشات التليفزيونية، ذلك المحور الرئيسي والأساسي الذي تناوله المخرج بشكل مغاير تماماً قد يظهر متناقضاً حد التضاد، حيث أظهر ” أحمد ومنى ” على خشبة المسرح من خلال برنامج تلفزيوني يحمل على عاتقه صراع وتنافس ذاتي داخلي للوصول الى ولا شئ حين الرسوب خلال تصاعد ذروة أحداثه مثله في ذلك مثل تصاعد قوة وصعوبة أسئلة برنامج ” من سيربح المليون ” البرنامج الأكثر شهرة على الاطلاق، ولكن تناولت الأسئلة للاستفسار عن أشياء خاصة ذاتية وليست عامة، بل أنهم في مسرحيتنا كانوا يتنافسوا على حبهم للمال الذي يحاولون الحصول عليه إبان البرنامج فقط ، مهما كانت العقبات والنتائج وتوالت كشف كل مستور من حقائق ومشكلات نفسية عديدة مثل الخيانة، عدم الثقة بالنفس، الكذب، التحرش الجنسي بالاطفال داخل كل أسرة وتأثيره مستقبلا عليهم… ذلك أجمعه بهدف الفوز، أو بمعنى أدق ربح المال، إلى أن ينتهي بهم البرنامج بخسارة كل شئ، خسارتهم للمال ولأنفسهم ولأهلهم معا ً، الى أن ينتهي بهم الامر الى ولا شئ هما الأيضا كمثل أحمد ومنى .
المحور الثاني .. الحب الخانق
وهو حب الأباء للأبناء وطريقة تربيتهم موضحاً خلاله أن ما يفعله الأباء تحت مسمى الحب والخوف والاحتواء هو إهتمام ورعاية قد يصل إلى حد الاختناق، من خلال ترجمة ذلك أجمعه داخل نفس الابناء بعكس ما هو حقيقي ودفين من مشاعر حب داخل الاباء، فيربى داخل الأطفال عقد نفسية، وتناول المخرج هذا أجمعه داخل نفس الاطار الذي تناوله في محوره الأول وهو قصة ” أحمد ومنى ” الشهيرة، والذي يربط بينهم منذ أن كانا طفلان، ثم يتقدم أحمد لخطبة منى فيرفض والدها الزواج لرغبته في تزويجها بآخر . تلك القصة التي تناولها مخرج عرضنا بشكل مغاير في أن يجبر الأب العريس بترك أبنته قبل حفل الزواج بشهرين فقط حينما قالت له أنها مريضة بالكانسر بعد أن فرض الأب جميع سلطاته ونفوذه في أن يكرهه إبنته في ذلك الشخص بأساليب قد يراها الاب أن ذلك من مصلحة إبنته، ولكن في واقع الأمر تسبب لها آلاماً جسيمة بداخلها باقي عمرها أثرت في شخصيتها بالسلب ولا أحد أيا كان يستطيع زعزعتها على الاطلاق.
المحور الثالث .. الحب القاتل
مروراً بقصة حب ” أحمد ومنى “، حيث تحاول منى اللحاق بأحمد لكنه يسافر الى الخارج ويتزوج بأخرى وينجب طفلان لكنه يقابل منى ثانيةً صدفة ويتزوجان بالرغم من حياته الجديدة سراً ، ولم يعلم به سوى عم نجيب، وبعد مرور عدة سنوات إكتشف إبن أحمد تلك العلاقة، وواجه منى وطلب منها أن تترك والده، فغضب أحمد كثيراً وأصاب بذبحة صدرية ووافته المنية. بينما نجد أن مخرج عرضنا “علاقات خطرة” قد تناولها هنا بطريقتين عبر طرفي العلاقة ” أحمد ” و ” منى ” كل منهما على حدى، فجاءت الأولى من خلال الطريق الذي سلكه الرجل بحياته بعد أن أجبره الأب على ترك ابنته قبل حفل الزواج بشهرين ويذهب لأن يتزوج بأخرى ويحبها الى أن يكبرا سوياً ويراعيها رغم مرضها رافضاً أن يدخلها مستشفى لتستكمل فيها حياتها بعيدة عنه، ويقبل أن يكون لها خير عون ثم تحول هذا الحب الى حب جنوني قاتل، فقتلها هو بيده حتى يخلصها من آلامها وفضل ذلك على أن يراها معذبة ليتناول المخرج خلال آخر ذلك المشهد مقطوعة غنائية لليلى مراد ” ماليش أمل في الدنيا دي .. غير إني أشوفك متهني .. حتى إن لاقيت إن بعادي .. راح يسعدك إبعد عني “، مستعيضاً بها عن الكلام المرسل الصريح بهدف تعزيز الموقف النفسي العاطفي بشكل أقوى وأرسخ في النفس والوجدان .
أما الطريقة الاخرى التي تناولها للتعبير عن الحب القاتل، وهي الإمتداد الآخر الذي سلكته الابنة من حياة مدمرة وخيال مريض تريد فيه أن تقتل أبوها حتى بعد وفاته وتستغل مرضها بكانسر الثدي الذي أضطرها لأن تجري عملية جراحية لإستئصال ثديها تماماً وتوهم نفسها وابيها بأنها تريد أن تجري تلك العملية فقط لأن تقهره، حيث يريد المخرج توضيح عدم مقدرة كرهه الأبناء للأباء رغم الخلاف بينهم، وأنهم بذلك لا يستطيعون سوى كرهه أنفسهم ليصل بنا الأمر الى أن تقتل نفسها فقط بعد أن واجهها الدكتور النفسي بحقيقة تاريخها المرضي تلك النهاية التي كانت خير تشبيه للعلاقات الخطرة البينية للأباء والابناء بمرض الكنسر من خلال ظهوره والاعتراف به حينما نجح الأب من إقناع عريس ابنته بأن يتركها قبل زواجهما بشهرين ، منتهيأ باستئصال الابنة لثديها بمجرد وفاة والدها .
وفي أثناء المرور بتلك المحاور .. لم يكتفي المخرج بتلك القشور البينية للعلاقات الانسانية بل إننا نرى تعرضه ايضا للملابسات الحياتية والمعيشية المجتمعية كقضية الزواج ومشاكله المادية لدى الشباب بأسلوب تهكمي ساخر مبالغ فيه من خلال الأداء التمثيلي، وهو الأسلوب الذي قد نجده مسيطر على أغلب أجزاء العرض المسرحي؛ والذي ظهر أيضاً من خلال ملابس ومظهر مقدمي برنامج ” لحظة الحقيقة ” الحاملة للطابع الفنتازي ذات الألوان الفاقعة الصارخة المتضاربة غير المتناسقة، والتي تقرب الى الطابع الوحشي في مدارس الفن التشكيلي والتي تستخدم لتشعرك بضرورة النفور من الحدث ذاته، ومن هنا يمكننا القول بأن المخرج نجح في إختيار ذلك الأسلوب باعتباره إحدى مذاهب ما بعد الحداثية، والتي أيضا أستلهم فكرته بشكل تفكيكي منفصل ذات حدث نفسي بنيوي تصاعدي على مدار العرض، والذي نرى فيه أيضا إستخدام مغاير عن كل ما هو تقليدي للكورس باعتبارهم جمهور، مثلهم مثلنا، ينظرون على الأحداث الجارية من زاوية مغايرة؛ ليوجهون المتفرج دون أن يشعر لبؤرة تركيز العمل الفني، يرتدون في بعض الأوقات ماسكات صماء مصمتة غير معبرة عن أي شعور لتوحي وتؤكد على جمود الموقف وصرامته حد الفظاعة .
فقد نجح مخرج العرض لأن يوصل رسالته من خلال جميع عناصره رغم تراكب جميع مشاهد عرضه بعد تفكيكها في ترابط قد لا يستوعبه أغلب غير المتخصصين من الجمهور، وإنما في جميع الأحوال يحسه ويستشعر مضمونه من خلال موسيقاه التي برع في إعداد “رفيق جمال” وتوظيفها على النحو الأمثل في مشاهد العرض، وكذلك كان ديكور “مصطفى التهامي” الرمزي البسيط جميلاً وملائماً لطبيعة العرض، حيث أستخدم نفس الاسلوب الذي اتبعه المخرج طيلة عرضة من مشاهد مفككة تم تركيبها وتجميها وربط خيوطها في النهاية، فقد إستخدم موتيفات ديكورية عبارة عن بانوهات محددة حوافهم بشرائط الليد فتظهر مجوفة فارغة، مثلها في ذلك مثل التجويف الناتج عن مخاطر تلك العلاقات الأسرية المهشمة، فجاء منها ما هو على هيئة أب وأم وطفلة معا في إحدى المشاهد التي تناقش هذا الموضوع، وأيضا طفلة وأب فقط في مشهد أخر، ثم مشهد أخر به موتيفة عبارة عن أم وطفلة فقط، وموتيفةأخرى لطفلة في مشهد آخر منفردة، وكذلك رأس إمرأة مسمطة إستخدمها في مشهد أخر، الى أن وصل العرض الى المشهد الأخير حيث ربط وتركيب الاحداث وتجميعها فجمع مصمم الديكور هنا جميع موتيفاته الديكورية لتكثيف الحدث وزروته في تأكيده للمعنى من خلال الشكل (الديكور) والمضمون (النص) معا.
هذا إلا أنني أرى من وجهة نظري أن جمال فكرة العرض الذي وضعها “مايكل مجدي” بصفته المخرج والمعد للنص من كتاب علاقات خطرة للدكتور “محمد طه” قد طغت وغلبت عليه حد أنني قد لم أنظر إلى الديكور في أغلب الأوقات رغم أنه كان يحمل طابع الاضاءة الذاتية وهذا ما لعب عليه الفنان ” أبو بكر الشريف ” في أن يحتفظ بتلك الحالة الشعورية الخاصة على أن يضئ المسرح بشكل قوي ليوضح تعبيرات ومعالم اوجه الممثلين في اغلب الاوقات .
وكان العرض بطولة جورج أشرف ، روما عصام ، يوسف جرجس ، يوستينا رفعت ، ريمون منير ، نادية نبيل ، جوزيف مجدي ، ماري صموئيل ، مينا مجدي ، كيرلس ناجي .