“رقصتي”بين حرية الجسد وحرية التعبير والعلاج بالرقص / أحمد زيدان

ماذا لو طلبت منك أن ترقص الآن رقصة شرقية؟ أن تجرب مع الموسيقى حركات الجسد وتشعر بكل عضلة في جسدك، أن تتمايل وتحرك الجذع والأرداف والساعد والمعصم والكوع في حركات عفوية تتبع الإيقاع الراقص فقط، ماذا لو طلب منك أحدهم أن تمارس فعل الرقص الشرقي في فضاء عام؟

لا أعرف بما سوف تجيبني أو ماهي ردة فعلك تجاه أسئلتي، لكنني أدعوك لصنع رقصتك الخاصة كما فعلت نورا أمين في صناعة رقصتها، على مسرح إيوارت بالجامعة الأمريكية، تأليف وتصميم وأداء نورا أمين، موسيقى إيهاب عبد اللطيف ونورا أمين، صوتيات نورا أمين، فيديو إيهاب عبداللطيف، مدة العرض 75 دقيقة، تم إنتاج العرض بدعم من صندوق الفنون الأدائية بألمانيا، تم تقديم جولة وطنية للعرض في ألمانيا عام 2022، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها هذا العرض بمصر وبالعامية المصرية في 2023، وذلك ضمن مؤتمر كاتبات ومخرجات عربيات الذي نظمته الجامعة الأمريكية والذي ترأسته د. دينا أمين.

قليلة هي المصادر التي تتحدث عن الرقص الشرقي أو تؤرخ له ما بين مقالات متناثرة أو وثائق، ربما احتفت جدران المعابد المصرية القديمة بالرقص والموسيقى، يقول أندرو هاموند في كتابه “ثقافة البوب بالعالم العربي”:«ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت قدرة المصريين الرائعة على خلق متعة عفوية وغناء وتصفيق والرقص في قوارب على نهر النيل خلال العديد من المهرجانات الدينية، من مكان ما في هذا التقليد العريق والقديم من البهجة ظهر الرقص الشرقي».

“إن خطوات الرقصات الشعبية الحديثة في عمومها هي تطور طبيعي واضح للكثير من خطوات الرقصات القديمة المنحوتة على المعابد والمرسومة على أوراق البردي، والمرتبطة –سواء القديمة أو الحديثة- بالعادات والتقاليد والمعتقدات لفئات بعينها داخل المجتمع الذي يمارسها أو الذي أتت منه. هذا بالإضافة إلى توضيح الخطأ الشائع عن العوالم ومدى ارتباطهم بالرقص”(1).

تجبرنا الممثلة المخرجة نورا أمين منذ أول لحظة على الاندماج في حكايتها الشخصية التي اختارت أن تحكيها على خشبة المسرح وسط الجمهور،المساحة فارغة إلا من شاشة سينما وبعض الاكسسوارات، لتحدثنا حول العرض وظروف تقديمه لأول مرة باللغة العربية “العامية المصري” وأنها سوف تقوم ارتجالا بترجمة حوار الشخصية أثناء العرض.

لتورطنا معها بداية لمعرفة إغلاق المجال العام للرقص في الشوارع عبر مرسوم ملكي لمحمد علي باشا عام 1864 لكنه تحديدا لمنع رقص الغوازي في الشوارع في الأقاليم، ربما تنقص تلك المعلومة بعض الدقة حيث ذكرت بعض المصادر “نفى محمد علي باشا العوالم خارج القاهرة، وفي عام 1834 منعهن من الرقص في الشوارع وفرض على مخالفة ذلك عقوبة خمسين جلدة” (2).

ويحيل البعض سبب القرار إلى انتشار ما سُمي آنذاك برقصة “النحل النحل قرصني يا هوو” حيث تدعي الغازية أن هناك نحلة قرصتها لتبدأ في الهرش والتعري حتى يلقي عليها الجمهور قطعة قماش كبيرة بعد أن تتخلص من كل ملابسها، وسجلت -حسب مقال لكمال مغيث بموقع العربي اليوم-كأول أغنية منعتها الرقابة عبر قرار المنع من محمد علي باشا.

وفي سرد بسيط حول فكرة الرقص ومنعه تقدم لنا المؤدية نورا أمين رقصة شرقية تحيلنا للتفكير فيتحرك جذع الراقصة وذراعيها وكفاها في نعومة بالغة وعدم انتظام ساحر حيث يبدأ الجسد حركته من نقطة ولا يعود إليها بنفس الانضباط تاركا خيال الراقصة وتماهي الجسد الحر مع الموسيقى هو الدافع الأساسي لكل ما يتحرك من جسدها، مع استخدام ما يُسمى بالصناج (الصاجات) التي كانت مصنوعة من الخشب في ثقافات الغجر وتحولت للمعدن لصنع جرس موسيقي أكثر صخبا.

تقدم الراقصة المؤدية إعلانا حرا منفردا عن إرادة التعبير حتى ولو كان مغلولا بعين المشاهد وتأويله ورغبته، تلك الإرادة المنفردة الحرة التي جعلت من الرقص الشرقي محاطا بسياج من التحفظ وقصره على الغجر مما جعله مهنة تمارس في فضاء خاص ومقصورة على بعض النساء اللاتي لا ينحدرن من أصول عريقة، وأحاطته سلطة المجتمع والنظام بحرمان المرأة والرجل بشكل عام من ممارسته في الفضاء العام، والسماح بممارسته مشروطا بمناسبة أو مصبوغا بكيد مجتمعي أو سياسي أحيانا.

وتستمر نورا في رقصتها الطويلة التي تتحول معها حركة الجذع والكوعين واليدين، من رقصة ناعمة لحركة عنيفة أشبه بالفنون القتالية التي تمارس للدفاع عن هذا الجسد ممن يقتربون منه ويحاولون انتهاكه أو حجبه بالكامل إن استطاعوا، مما يورط المشاهد بالتفكير فيما يتعرض له جسد الراقصة من استباحة ورغبة في تغطيته تارة، مكونا ثنائية تتفق والرغبة الملحة في السيطرة على هذا الجسد ودفعه للسكون والاختفاء.

لتعود المؤدية لمحادثة الجمهور حول تاريخ الرقص ومن ثم يأتي ذكر شارع الهرم الذي يستدعي حضور ذاكرة المتفرج بشارع الكباريهات والراقصات الشهيرات في سبعينيات القرن الماضي وانطلاق حقبة “البترودولار”، وذلك التحول لصورة لراقصة في الكباريه كأيقونة للعهر تحت ستار فني، التي ساهمت السينما في تلك الحقبة بشكل كبير في تقديمها بتلك الصورة وبأشهر راقصاتها آنذاك، وكأن ما قبل تلك المرحلة كان الرقص الشرقي أقل احتفاء بالجسد أو اتهام الراقصة بممارسة فعل فاضح، وهو ارتداد لمُسمى الغازية أو العالمة رغم التباس المُسمين.

العوالم والغوازي

فحسب المصادر، كانت العوالم هن المغنيات، وقد جاءت التسمية من الفتاة المتسمة بالعلم (3)، بينما تم تعميم هذا المعنى على الراقصات أيضا من قبل المستشرقين ومؤرخي الحملة الفرنسية، في كتاب وصف مصر (4). أما الغوازي هن الراقصات وكان يطلق عليهن البرامكة (5)، ومن تلك التسمية جاء كلمة “برمجي” وأصلها “برمكي” كصفة اطلقها الشعب المصري على من لا غيرة لديهم من الرجال على نسائهن أو من قاموا بأعمال جنسية مشينة، كما أورد د.عبد الحميد يونس في كتابه معجم الفولكلور.

تعود المؤدية نورا بعد ذلك الفاصل من السرد والرقص محاولة أن تعيد تفكير المشاهد إلى الراقصة بوصفها إنسانة تحاول التعبير بجسدها عن حريتها في ممارسة فعل فني، وتؤكد عبر الحوار والحركة أن انتهاك الجسد يبدأ من تصور أنه لا يخص صاحبه بل يخص المجتمع أو (الذكر المسيطر/العادات.. إلخ)، وتستدعي في ذاكرة المشاهد راقصات أمتعن المشاهدين برقصاتهن مثل تحية كاريوكا ونعيمة عاكف وسامية جمال، وغيرهن ولم يتبد فيس رقصهن ابتذالا بل استعراضا للحركة الحرة وجماليتها واحتفاء بذلك الجسد بلا إثارة فجة، لتكمل نورا عرضها الأدائي عبر فيديو راقص ببدلة رقص كاملة تربط فيها نورا بين الرقص وحركته وبين شجرة ضخمة في المكان، وكأن تلك الشجرة الراسخة تضرب جذور رقصتها في الأرض منذ الأزل، وكأنها شجرة عتيقة تتمايل مع الريح في رقصتها الخاصة، وأن الرقص هو تعبير دقيق عن حريتها التي تربط بينها وبين الفضاء المحيط وبين سماء تسحب فروعها للأعلى مثل أذرع الراقصة التي تتمايل في عفوية وبدائية مبهجة وناعمة، وهو ما يدمج بين فكرة الرقص والرسوخ والثبات في التعبير عن الذات وعدم قلقها حيال نظرة الآخر لهذا “الجسد – الشجرة” في ثنائية ذكية للربط بينهما وإحالة المشاهد لفكرة الرقص كتعبير عن الاستقلال والحرية لا ابتذال أو عهر.

التورط بجلسة علاجية

يتحول العرض لما يمكن تسميته العلاج بالرقص حيث يتم استدعاء المشاهدين الذين على أطراف خشبة المسرح والجالسين في قاعة العرض على كراسي المشاهدين أسفل الخشبة ليشاركوا في الفرجة عن قرب من فوق خشبة المسرح، ومع حماس طلاب الجامعة الأمريكية وبعض الحضور تورطهم المؤدية في محاولة للتعبير بالجسد مع الموسيقى ليشاركوها الرقص، وبالفعل يبدأ الحضور في التورط والشعور بأجسادهم تتحرك بحرية دون خجل، ثم بحماس أكبر حتى يصنع كل مشارك رقصته الخاصة على طريقته.

لتبدأ المؤدية في مرحلة أخيرة للحديث حول تلك المرأة الناضجة مشيرة إلى نفسها التي وجدت في رقصتها الخاصة ملاذا يحررها من ذاكرة الانتهاك المتعدد لجسدها بطرق مختلفة، ويمنحها حرية جديدة ليست للتذكر بل الاحتفاء بذلك الجسد ورغبته في التعبير عن ذاته في مساحته الحرة التي استوطنتها قدماه، ضد القواعد والأعراف.

ثم تحفز نورا المشاهد عبر مجموعة أمنيات تكتبها كل عام –حسب تعبيرها- وتطلب من الجمهور مشاركتها في كتابة أمنياتهم حتى يلتقوا في العام القادم، متسائلين عن تحقيقها، وتشبيكا بفكرة الأمنية والبذرة التي تغرس والتغير المأمول الذي يتمناه كل شخص، تبدأ في طرح تلك الأمنيات كرقصات جماعية تدعو إليها بعضا من الذين لم يرقصوا في المرة الأولى لتتحول مساحة التمثيل إلى رقصة فطرية تحمل أمنيات عام جديد قادم أو حلما لكل راقص، وإحساسا بحرية لحظية من قيود مجتمعية كثيرة في ممارسة الرقص في المجال العام، ولو كان على خشبة مسرح في الجامعة الأمريكية وسط مجتمع يعتبر أكثر انفتاحا لقبول ذلك الفعل اللحظي الحر والمشاركة فيه.

تقدم نورا رقصتها تلك عبر تعبيرات جسدها المتعب الذي يحاول التحرر من مشكلات السن كرقم في هوية وذكريات الجسد المقيد والمنتهك، إضافة لحكايتها وأسرارها التي تورط فيها جمهور العرض، ببساطة ودون افتعال، في جمع بين الحكي والحركة والرقص التعبيري والحر والصورة السينمائية، التي أتت مغايرة لتوقع المشاهد لتلك الراقصة المؤدية بالجسد تمثيلا وليس رقصا تقليديا وإن كانت الألوان التي صبغت بدلة الرقص والشجرة الكبيرة الراسخة قد أحالونا لبداية تلوين الأفلام القديمة، مما بثير في المشاهد ارتباكا جديدا بين متعة اللحظة الراقصة والتفكير في بهجة ألوانها ونوستالجيا حزينة تستدعي ماضيا كان أكثر رحابة وربما لن يعود.

ولكن يترك العرض -على بساطة شكله ومساحة تمثيله المحدودة- سؤالا تبدى في ابتسامة مغايرة على وجوه بعض مشاهديه إن لم يكن معظمهم الذين انفرجت أساريرهم بممارسة الرقص واستمتعوا به حتى بعد الخروج من المسرح والاختلاط بالناس في الشارع والمواصلات وصولا للمنزل.

لماذا يظل الرقص الشرقي للنساء والرجال مرتبطا بشرط تعسفي؟ النساء في أماكن محكمة أو فصلا عن الرجال في التجمعات العامة، إلا فيما ندر ويحاول البعض كسره بالمصادفة أو ضرورة المكان ورغبة في إظهار البهجة لكن لا يزال محدودا ويتطلب مبررات مجتمعية لحدوثه إضافة لتأويلات تعقب ذلك الرقص لا تسلم من صفات التهتك والميوعة ونعوت نسوية أو اتهام بالدياثة للرجل الذي يرقص وسط النساء أو يسمح لمن ينتمين إليه من النساء بممارسة الرقص، لماذا نشعر بالحرية لاستخدام هذا الجسد في التعبير بالرقص كأقصى حدود مغامرات استخدام الجسد في الفضاء العام؟ وكأنه ثورة على احتجازه في كل ماهو يومي ومنضبط ويسير في سياق مجتمعي مغلف بقيد حريري من العفة والرصانة.

يقول الباحث سمير جابر في كتاب “أطلس الرقصات الشعبية المصرية”: «إن جذور الرقص الشرقي، ورقص الغوازي، ورقص العوالم تعود إلى قدماء المصريين، حيث كانت الوظيفة الأساسية لحركاته المتنوعة هي وظيفة طبية من أجل ميلاد آمن للأم وللمولود».

فهل منع حرية الجسد في الرقص يشي بأن الفضاء العام ليسرحبا؟ أم يهدد خروج مولود جديد للنور؟

 

المصادر

1/ تامر يحيى: “رقصات الغوازي- موسيقى وأداء حركي” مجلة الثقافة الشعبية العدد: 45.

2/وينتبه محمد علي إلى أن إيفاد بعض الطلبة للدراسة إلى أوروبا جلب معه عادات جديدة غير مناسبة، حسب تفسيره: هكذا يوجه ملاحظاته إلى أحد وزرائه بوجوب التنبه إلى بعض العادات التي جلبها بعض الأفندية معهم، أي الذين تعلموا في أوروبا: {لا يتورعون عن جر زوجاتهم معهم إلى أسواق الإسكندرية، وأن المصلحة تقضي بتأنيبهم وتنبيههم إلى أن مصر بلاد إسلامية لا أوروبية، لا يباح فيها هذا السلوك} (المخطوطات الملكية المصرية، جمعها وحققها: أسد رستم، منشورات المكتبة البوليسية، مجلد 3، ص 92).

3/ محمد شبانة: “أغاني الضمة في بورسعيد”، وزارة الثقافة، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، دار الزعيم للطباعة الحديثة، 2006م، ص:178.

4/ زهير الشايب: “وصف مصر، الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين”، إهداءات 1993، صندوق التنمية الثقافية ج.م.ع، ص: 155.

5/ نبيل صبحي حنا: “البناء الاجتماعي والثقافي في مجتمع الغجر، دراسة أنثروبولوجية لتأثير البناء والثقافة والشخصية على التكامل الاجتماعي”، دار المعارف، الطبعة الأولى، 1983، ص: 120.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت