التمثيل واللا تمثيل..!!؟ / إحسان الخالدي

حينما كنت طالبا في كلية الفنون الجميلة – قسم المسرح، قال استاذي الراحل الفنان ابراهيم جلال في إحدى محاضراته، في عام 1985، إن “التمثيل ليس تظاهرا”… في الواقع، لم أدرك معنى العبارة بدقة، ولم أفهم المغزى منها آنذاك..!

فأخذت بالبحث والقراءة المعمقة، لاقتناص معنى ودلالة العبارة “Acting not Pretend التمثيل ليس تظاهرا”، من خلال وضع الأسئلة التالية:

إذا لم يكن التمثيل تظاهراً؟ فما هو التمثيل؟ هل هو انتحال، أم تقليد، أم شيئاً آخر ؟

قطع : “التمثيل فضاء ثنائي القطبية محسوس غير ملموس ، ومرئي غير مرئي..!”

كيف تصبح ممثلاً، إذن؟

هل التمثيل لعب؟ فكلمة مسرحية بالأنكليزي Play، وفي الغالب يستخدم تعبير لعب الممثل دورا في المسرحية أو المسلسل أو الفيلم؟!

التمثيل = لعب

معادلة معقولة، لا يمكن نكرانها!

إلا أن هذا النوع من اللعب يتطلب تقنيات techniques وآليات mechanisms؛ على الراغبين بخوض غماره أن يتمكنوا منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا..! إذ يجب على الممثل الاعتماد على هذه التقنيات والآليات وتطويرها باستمرار دون توقف طالما ظل عنوانه “ممثل”، وبخلاف ذلك، أي إذا ما انقطع “الممثل” أو توقف عن ممارسة هذه التقنيات والآليات في مرحلة من مراحل مشواره الفني فإنه سيسقط في فخ الرتابة والتكلف، ويفقد عنصر العفوية في التمثيل.

إذاً معادلة التمثيل = لعب

لن تتحقق إلا بتطبيق معادلة موازية:

تقنيات + آليات = تدريب مستمر

هل ذلك يكفي لتصبح ممثلا؟

مع مشروعية السؤال لكن الشك يحيط بإجابة جازمة ومؤكدة..!

قبل الحديث عن مقترحات مغايرة، وآفاق جديدة في عالم التمثيل ، سوف نطرحها في مقال تالٍ. دعونا نستعيد بعض الرؤى والأساليب التي تشكّل جسوراً معلقة بين عوالم متداخلة متعارضة، وتواريخ مشدودة رغم مسافات الزمن والجغرافية.

من المعلوم، أن المنظر والمخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي، وبعد سلسلة من العروض في مسرح الفن، تبلورت بين يديه نظرية في فن التمثيل، كانت منطلقا للبحث في آليات تطوير مهارات الممثل، وتنامت هذه النظرية في ثلاث مراحل سميت (ثلاثية التمثيل) The Acting Trilogy، وأطرها في ثلاث كتب هي، (اعداد الممثل1936) An Actor Prepares، (بناء الشخصية 1949) Building a Character، (خلق الدور 1961)  Creating a Role. وتعتمد نظرية ستانسلافسكي على تقنيات نفسية تؤهل الممثل للتجسيد الحيّ. بينما كانت توجهات مواطنه فيسفولد مايرهولد تميل نحو الاهتمام بالتعبير الجسدي والحركة البلاستيكية للجسد، وانشغل مايرهولد، على نحو جاد، بتطوير مهارات الممثل لتنظيم استجاباته الانفعالية والعضلية بحيث تكون كل حركة أو إيماءة محسوبة ومنضبطة وغير تلقائية، وطالب الممثل بالابتعاد عن المشاعر الانسانية، وخلق نظام يعمل على وفق قوانين ميكانيكية. واستخدم تقنيات متعددة، (الأسلبة، النحت البارز، الغروتسك، الكوميديا ديلارتي، والمسرح الشرقي). أما (البايومكانيك) فقد منحت الممثل مساحة واسعة من (اللعب) أكثر من (المحاكاة)، وأتاحت فرصة تجسيد (الشخصية) من خلال تنوع المهارات الحركية والتعبيرية. فيما فرضت “الشرطية” تغييرا على أداء الممثل، وحطمت هيمنة مكونات العرض الثابتة، وتحرر الممثل من هيمنة الكثير من عناصر العرض المسرحي وعلى الأخص الديكورات، فصار الممثل يتحرك في فضاء أوسع يتشكل من ثلاثة أبعاد.

بينما لجأ المخرج البولندي جيرزي غروتوفسكي إلى إعداد (ممثلين- قديسين)؛ بالاستناد إلى اليوغا وأنساق شرقية، بالإضافة الى استخدام البانتوميم والألعاب السويدية والغناء وعالم الأصوات. ووسم أسلوبه بـ(النفسجسدية)، بمعنى المزج الهارموني بين الجسد والنفس، فالعناصر البصرية والتشكيلية في مسرحه (الفقير)، تستند على جسد الممثل وتأثيرات صوتية وموسيقية. وفي الواقع، ليس إكتشاف أو ابتكار يُنسب إلى غروتوفسكي حصرا، فسبقه في هذه النهج كلّ من مايرهولد وكوبو، كما استخدمها المسرح الحيّ (The Living Theatre).

وقد منح المخرج الانكليزي بيتر بروك الممثل حرية الارتجال (Improvisation) أثناء التمارين؛ فالارتجال تقنية تساعد على ادراك واسع لأسرار العمل الفني سواء كانت تصورات المخرج أو في ابتكار أنساق أدائية، لأن “الارتجال ليس التخبط في انتعاش الوقتي للانغماس الذاتي كما يتوهم المنبوذون غالبا، وإنما يهدف إلى إعادة الممثل مرة أخرى إلى تخومه الخاصة، إلى الحدود التي تجعله يستبدل الحقيقة المكتشفة حديثا بكذبة وبشكل طبيعي”.(1) ويمنح الارتجال فرصة أوسع للممثل في التعبير عن المشاعر والأفكار، ويوسّع نافذة التشارك مع زملائه على المسرح أو مع الجمهور.

وعلى الجانب الغربي من المحيط الأطلسي، في أمريكا الشمالية على وجه التحديد، اكتشف المخرج ريتشارد شيشنر* أن الأداء يمكن أن يحدث في أي مكان، في ظل تشكيلة من الظروف، وخدمة تغطية أهداف متنوعة، بشكل لا يصدق”.(2) وقد رسم (شيشنر) خارطة للأداء بعد تجاربه مع (فرقة الأداء)، من خلال ترسيمتيْ (المروحة والشبكة)، وكانت ترسيمة المروحة عبارة عن سلسلة تتصل بعملية طقسية عبر أداءات متنوعة في الحياة اليومية، (التحيات، المشاهد العائلية، الأدوار المهنية وغيرها)، وبواسطة أفعال ومواقف اجتماعية (اللعب، المسرح، الرقص، الرياضة، المراسم والطقوس). بينما يُنظر إلى ترسيمة الشبكة بشكل حيوي، إذ يتفاعل كل عنصر من الشبكة مع العناصر الأخرى بدلا من أن تنتشر على خط متصل، كالمروحة. فالصلة بين العناصر من 1 إلى 4 من الناحية التاريخية، قد ترتبط بالأداء منذ العصر الحجري، والعديد من صور الأداء سواء للحيوانات أو الإنسان، تظهر في رسوم الكهوف القديمة وبعض الأحفوريات. وتكشف الصلة بين العناصر من 6 إلى 9 “البنى العميقة” للأداء، لتفعيل مستوى ثان من الـ”حقيقة”. وتشمل البنى العميقة استعدادات الأداء عند المؤدين والمتفرجين، وماذا يحدث بعد الأداء..! (3)

بينما وضع المخرج والأكاديمي مايكل كيربي*مقياس (التمثيل / اللاتمثيل). وليس المقصود من هذا المقياس إنشاء أو اقتراح قيّم معينة، كما يقول كيربي، وإنما هو  درجات مختلفة من التمثيل والتجسيد بوصفها “ألوان” في طيف الأداء البشري. ويرى أن بناء سلسلة متصلة، هي تعيين المناطق الانتقالية في بنية التمثيل. و”يشعر بالقلق من مؤدين لا يفعلون شيئا لتعزيز المعلومات أو تحديد الهوية في المسرح على مقياس التمثيل/ اللا تمثيل”.(4) ويفضّل كيربي البدء من قطب اللاتمثيل باتجاه قطب التمثيل من المقياس، عبر سلسلة من التحولات الأدائية، فاللاتمثيل حيث حالة المؤدي وهو لا يفعل شيئا لـ”اختلاق، محاكاة، انتحال شخصية” التي يطلق عليها بلا قالب محدد non-matrixed. فالمؤدي في الواقع لا يمثل؛ لا يتصرف قط كما لو كان أي شخص آخر غير نفسه، إنه فقط ينفذ أفعال معينة. من البديهي أن ليس كل تصرف تمثيل، فالتمثيل يتطلب بالضرورة أن يكون ثمة سلوكا ولو بسيطا. هنا، دعونا نتخيّل أشخاصا يلعبون الدومينو في أحدى زاويا المسرح. ربما يكون أحدهم ضمن خطوط الفعل، ونلاحظ أنهم لا يتفاعلون مع شخصيات القصة..! أولئك الرجال لا يمثلون، إنهم يلعبون الدمينو فقط، مجرد لعب..! لكن نراهم شخصيات مسرحية، مهما كانت ثانوية في سياق الحدث. لا نميّز بينهم وبين الممثلين الآخرين على المسرح، فالتمثيل ليس أن تقول كلاما أو تتحرك في فضاء المسرح، تتفاعل مع آخرين يؤدون أفعالا معينة، يخلقون مواقف وحالات متنوعة..! أن تقف في ركن تراقب، يعني أنت تؤدي فعلا، وليس بالضرورة تمثل..! التمثيل على المسرح يحصل عبر استمرار التحول من اللاتمثيل إلى التمثيل، وكلما ازدادت كمية المحاكاة والتظاهر والانتحال، كان الانتقال على خط المقياس أكثر وضوحا ودقة.

إن مقياس التحولات الأدائية، استقاه كيربي من المسرح المفتوح الذي ابتكر  فكرة التحول في أداء الممثل، ولن يختلف مع المسرح الحيّ وفرقة مسرح الأداء، ومسرحية الواقعة، إذ “يميل المؤدون في الواقعة إلى يكونوا، لا أحد أو لا شيء آخر غير أنفسهم. لم يتظاهروا بالتمثيل أو أن يكونوا إدّعوا بذلك، في وقت أو مكان مختلف عن الذي اعتاد عليه المتفرج. كل واحد منهم- المؤدون-، مشى، ركض، قال كلمات، غنى، غسل أطباق، اجتاح، شغّل أجهزة وآلات المسرح، لكنه لم يختلق أو ينتحل شخصية”. فإذا كان المؤدي يعمل شيئا من المحاكاة، يتظاهر، ينتحل، فإنه يمثل. ويرى كيربي أنه ليست ثمة مشكلة في الأسلوب إذا كان الفعل جزءا من شخصية تامة أو عرض إعلامي. الأمر لا يحتاج لتورط العاطفة، يمكن أن يعتمد فقط على ما انتهت من فعله الشخصية. أما التمثيل البسيط Simple Acting يوجد في أصغر وأبسط فعل ينطوي على التظاهر، وبدمج مزيد من عناصر التظاهر يصبح التمثيل معقدا Complex Acting، ويرتبط ذلك بالمهارة والخبرة. المسألة ليست ما إذا كان يمكن للمؤدي أن يقوم ببعض التمثيل المعقد بشكل جيد، وإذا كان له، أو أنه يمكن أن يفعل ذلك على الإطلاق. إذ يمكن لأي شخص أن يمثل، لكن لا يمكن لأي شخص أن يمثل بطريقة معقدة. كل نمط له طائفة معينة على قياس بسيط / معقد، وفي جميع العروض تقريبا درجة من التعقيد تختلف نوعا ما من لحظة إلى لحظة. و قطب التمثيل، يوجد “في الناحية العاطفية بدلا من الناحية الجسدية، على نحو أكثر دقة وتشدد. ومجرد استخدام وإسقاط العاطفة، الذي يميّز التمثيل من اللاتمثيل”. ذلك فارق مهم بين المؤدي والممثل، وإن أبسط الخصائص التي تحدد التمثيل هما الناحيتين العاطفية والجسدية. ورغم أن هذا المُركب موجود في كل أشكال التمثيل، فذلك بحد ذاته “يكفي لتمييز التمثيل من اللا تمثيل”، أما سلسلة التحولات الأدائية (التمثيل / اللاتمثيل)، باعتقاد كيربي،  تمكننا من قياس كمية أو درجة التظاهر، والمحاكاة، والانتحال، في سلوك الأداء، وهناك تفسيرات من شأنها تجنب أي نوع من التمثيل أثناء الأداء.(5) فأن ” اتجاهات المسرح الأمريكي مابعد الحرب كانت تميل إلى طريقة الاعتراف بالتمثيل، والعملية تعتمد على علاقة الممثل بطريقة الأداء وليس بالشخصية نفسها. واعتبر هذا الأسلوب، إذا جاز وصفه بأسلوب، استحضارا لشبح التمسك بالشكلية  Formalism”.(6) وأن عملية التدريب على الأداء تبدو “بمثابة مرحلة استيعاب وسيطرة على القواعد تمهد لحرية الإبداع في الأداء، فالأداء بطبيعته – حتى في الكلاسيكية – يسعى إلى الشكل المفتوح الحر، والعفوية وسمة الارتجال”.() وهناك من يصف الأداء بأنه نتيجة هيكل التمثيل، وخبرة في تدفق حزمة من الشعور داخل هذا الهيكل، والقدرة في العثور على مزيد من الحرية، ضمن غاية محددة، تقتصر أحيانا، على بناء الأداء بالنسبة للممثل مابعد الحداثي، وتنطوي هذه الحرية على إبقاء التفسير مفتوحا على عدة مستويات، وتجنب معان وتعريفات قريبة أو إشارة خارجية للسياق، فغالبا ما يكون الأداء مقيدا بعدة خيارات من مسرحيات واقعية أو نتاجات فنية أخرى.(7)

منذ السبعينيات من القرن الماضي، أخذ فن الأداء بالنمو والتحول، فقد بدأ مع عمليات الجسد وأنشطته المتنوعة، وبرز اتجاهان في باديء الأمر، الأول “استعمال مواقف جسدية متطرفة من أجل إثارة حالة ذهنية معينة”، وارتبط بالفنان فيتو أكونسي Vito Acconci.* والثاني “فصول أدائية تستمد مادتها من الواقع بدلا من المادة الهلامية mushy لعالم المسرح”. وأصبح الأداء في استكشاف الأنفس، أو كشف غرائب السيرة الذاتية، اتجاها رئيسيا في أمريكا. وعروض الأداء الفردي، لم تتراجع عن شعبيتها واهتماماتها، بل استمرت بتغيير خصائصها وطبيعتها في وقت كان الأداء يميل للصور image-oriented، كالعروض البصرية التي قدمها ويلسون، وعروض فورمان للوجود الهستيري ontological hysteria، والموقع الخاص site specific، والمسرح الراقص، وعروض الإعلام المتعدد multi-media في أوروبا والولايات المتحدة.(8)

في الثمانينيات، تحول فن الأداء إلى الجسد وتمثلاته التعبيرية، واتجهت البوصلة نحو الرقص بوصفه “الوسيلة الأنسب للتعبير عن الأبعاد البدائية والعاطفية والشبقية للتجربة الإنسانية، ومَخرَجاً لمشاعر اللاوعي الحدسي التي تستعصي على التعبير اللفظي (الفكري)”.(9) واعتبر البعض الحركة movement، “وصفة جامعة لكل الحركات التي يمكن للجسد البشري أن يؤديها، فتصبح تجلياتها الفعلية المنوعة moves التي تشمل الإيماءات أيضا هي وحداتها المعبرة والمعادل الحركي (الكلام)”.(10) ومثلما اتجهت مابعد الحداثة نحو تثبيت وجودها بازاحة الحداثة ومنظوماتها المفاهيمية، كافح “نص الجسد” لإزاحة “نص اللغة”، فإن “أيديولوجية التأثير الوجودي (الحضور) للممثل تتطلب انتقال سطوة النص إلى الممثل حيث يجب أن تختفي خلف أداء الممثل”(11) فلم يكن لوح الجسد الخالي “الجسم” غير”هيئة” فيزيقية تتمثل في (الحركة المجردة، الألعاب الرياضية)، وقد شغل مجالات معينة مثل، الطب. وحينما دخل الجسد حيز التعبير وفضاء الأداء، أصبح فلكا جماليا ومدركا معرفيا، هذه حجة تبين الاستفادة، على نحو فعلي، من اطروحات الأنثروبولوجيا التي تعاملت مع السلوك الحيّ وأدائية أفراد المجتمع. وقد امتزج الفن بأنشطة سياسية يومية، لاسيما لدى المجتمعات المقهورة والتي تعيش في مستويات متدنية، ليس من أجل مدركات تجريبية كما هو الحال في فن الجسد Body art، أو الرقص الحديث لكيننغهام*، لكن كوسيلة لاستكشاف مواقف اجتماعية، وإيجاد مهارات قيادية لها قدرة في التعامل مع موقف من بين المشاركين والجمهور. ويمكن تسجيل مثل هذه الأداءات مع فرقة ويليفر ستيت Walfare state في إنكلترا، وأرمان جاتي Armand Gati في فرنسا، وأجوستو بوال Augusto Boal في أمريكا اللاتينية.

لا شك أن الاهتمام بمضامين سياسية واجتماعية ارتبطت بفن الأداء بحلول التسعينيات من القرن العشرين، وتصاعدت وتيرتها وبأشكال متنوعة، ولا تزال في نمو مضطرد مع تسارع المتغيرات في مجالات الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات والميديا. وهكذا، صار فن الأداء يرتبط جدليا بعروض مابعد حداثية، فإن ” اصطلاحي الأداء ومابعد الحداثة قد نتجا عن نفس البيئة الثقافية. وقد استُعمِل كلاهما بأساليب متنوعة لوصف مجال واسع من الأنشطة، خاصة في مجال الفنون”.(12) بكلمة أخرى، أن”الأداء يصف بجدارة جمالية الحياة، وأن مركز نهج الأداء، الذي لا يتضمن فقط أشكالا فنية؛ إنما إنتاج حضور، وعلى نحو أعمق، اتصال مباشر لا يمكن الاستعاضة عنه حتى بواسطة عمليات اتصال أكثر تقدما”.(13) ويوصف أداء مابعد الحداثة بأنه، “يسعى للهروب من الحضور عن طريق العمل ضد التصور المتبادل بين الجمهور والمؤدي، وأيضا تجاه تفهم غير كاريزمي”.(14) وفي كل الأحوال،”المسرحية المعاصرة ومتغيرات الأداء، يقتصر على نوع أو نمط أو ممارسة مسرح مابعد الحداثة. إنهما دليل على تيارات معرفية ووجودية جديدة تدور في فلك كل منهم”.(15)

إن تحولات الأداء وما رافقها من اهتمام بالجسد وتمظهراته الفنية، تماهت مع مابعد الحداثة، أما ثنائية “الحضور والغياب” ومفهوم “موت الشخصية”، فقد امتزجا، على نحو متبادل، مع أداءات مابعد الحداثة. وإن “إسلوب الأداء الذي ينتمي لمابعد الحداثة، قد انفصل عن استرتيجيات الرواية الواقعية، وشجع موت الشخصيات الموحدة، وجعل الموضوع والفاعل، والخلفية التقليدية للإدراك بلا ركيزة محورية”.(16) وبالنسبة لثنائية “الحضور والغياب”، فإنما هي استعارة من (ديريدا)، أما بشأن مفهوم “موت الشخصية” الذي طرح في تسعينيات القرن العشرين، فقد بزغ من قراءة عرضية لكيفية تقديم الشخصية في أنماط مختلفة من المسرح، وما طرأ من تغيير جوهري على تلك الكيفية وعلاقتها بعناصر الدراما الأخرى، ويمثل في ذات الوقت،”تجسيدا لتغيير بمفهوم الثقافة الأوسع وذلك فيما يختص بمفهوم الذات وعلاقة الذات بالعالم”. واستند مفهوم “موت الشخصية” على ثلاث مرتكزات، هي: (17)

1- معالجة الشخصية في نظرية الدراما عند ثلاثة من الفلاسفة ( أرسطو وهيجل ونيتشه). ومتابعة مصيرها في مسرحية الأسرار الحديثة عند كل من سترنبيرغ مرورا ببيكت ومن بعدهما، وكيف تبدو الشخصية في المسرحية الواقعية عند (إبسن) على وجه التحديد.

2- تأثير نظرية مابعد البنيوية على منظومة المسرح الفكرية والجمالية، وعلى الأخص تفكيكية ديريدا، “على أساس أن الأبنية والنظم التي تبدو صلبة تنحل عند التدقيق فيها”.

3- ما الذي يحدث لإظهار الزمان والمكان في مسرح بلا شخصية، هل يتم اللجوء إلى رؤية رمزية للمنظر بدلا من هيمنة السرد، حيث يصبح المنظر الطبيعي “بؤرة التأمل”، لأن خشبة المسرح “الزمان فيها يفرغ في المكان”.

==================================

*ريتشارد شيشنر Richard Schechner (1934-   )، مبتكر مسرح البيئة والذي كان يهدف إلى زيادة الوعي لدى جمهور المسرح من خلال إلغاء التمييز بين الجمهور وفضاء الممثلين. قدم شيشنر عروضه في كراج، “ديونيسيوس 1969“، و”ماكبث 1969 “، و”كوميون 1970″، وذلك ضمن عروض خارج خارج برودواي في مدينة نيويورك. و(ششنر) إضافة إلى أنه رئيس تحرير مجلة The Drama Review، فهو أستاذ ومؤسس قسم دراسات الأداء في كلية تيش Tisch للفنون بجامعة نيويورك، وأسس (فرقة الأداء) في عام 1967 وكان المدير الفني لها حتى عام 1980، عندما غيرت اسمها إلى مجموعة ووسترThe Wooster Group والذي تديره الآن المخرجة الأمريكية إلزابيث لوكوميت.

*مايكل ستانلي كيربي (1931-1997)، كان أستاذًا للدراما في جامعة نيويورك، له العديد من الكتب الرائدة، الحدثيات Happenings، الأداء المستقبلي Futurist Performance، فن الزمن The Art of Time .  وكان محررًا لمجلة The Drama Review من عام 1969 إلى عام 1986.

*فنان أداء أمريكي (1940- )، مصمم ومهندس مناظر طبيعية، له أعمال في فن التركيب، ومؤلف كتاب (فن الجسد). عاصر غروتوفسكي، واقترح أن يكون “التمييز بين الفنان الطليعي والفنان العبثي على أساس الاختلافات المعرفية وليس التاريخية”، ويذكر “أن الجسد أداة للقياس”. ينظر: أوسلاندر، فيليب،

*ميرس كيننغهام Merce Cunningham ( 1919- 2009)، راقص ومصم رقص (كيروغراف choreographer)، من رواد موجة الطليعية في أمريكا، وله تأثير عميق على الرقص الحديث.

**********************

مراجع البحث (عربي – انكليزي):

كارلسون، مارفن: فن الأداء- مقدمة نقدية، تر. منى سلام، القاهرة: (مطابع المجلس الأعلى للآثار)، 1999

هلتون، جوليان: نظرية العرض المسرحي، تر. نهاد صليحة، القاهرة: (هلا للنشر والتوزيع)، 2000.

فيوز، ألينور: موت الشخصية، تر. محمد الجندي، القاهرة: (مطابع المجلس الأعلى للآثار)، 2000

أوسلاندر، فيليب: من التمثيل إلى العرض، تر. سحر فراج، القاهرة: (مطابع المجلس الأعلى للآثار، مركز اللغات والترجمة- أكاديمية الفنون)، 2002.

Stanislavski,Constantin:“creating a role”,translated by Elizabeth Reynolds Hapgood, Routledge, New York and London, 1961

Alan Schneider, Entrances: An American Director’s Journey, New York: Viking Press, 1986

Kirby, Michael: A Formalist Theatre, University of Pennsylvania Press, 1987

Birringer, Johannes:Theatre, Theory, Postmodernism, Bloomington and Indianapolis: Indiana University Press, 1991

Fuchs, Elinor :The Death of Character, Indiana University Press, 1996

Schechner, Richard: Performance Theory, Routledge, New York, 2003

Thies Lehmann, Hans: Postdramatic theatre, Routledge, 2006

 

** إحسان الخالدي  / مسرحي عراقي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت