كتاب ”الخطاب البصري وفاعلية البنى الاخراجية المسرحية المعاصرة” للكاتب علي العبادي.. رؤى معاصرة تنتصر للحداثة والتغيير./ عقيل هاشم
تسعى هذه القراءة في كتاب الكاتب والمخرج علي العبادي , إسهامه مفاهيمية في اثراء المشهد الفرجوي , من حيث تأثير النسق الاجتماعي-السياسي…الخ جماليا وفنيا , قراءة في المضمر المغاير للخطاب البصري ومساهمته في إحداث تغيير الفرجة المسرحية المعاصرة من حيث علاقة المرئي بالفاعلية الاخراجية للعرض وأثر هذه الفاعلية في تغيير الأبنية الفنية والجمالية.
شهد القرن العشرون تقدماً كبيرا في مجال المسرح في رفضها الاساليب الفنية المورثة وكان هذا هو شأن القرن العشرين ربما اكثر من أي فترة زمنية سابقة , اذ تضافرت فيه عوامل كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وظهرت علوم وفلسفات جديدة ادت الى بلورة الفكر الإنساني بشكله الجديد من أواخر القرن العشرين وحتى وقتنا الحالي في القرن الحادي والعشرين .
مما ادى الى اجتياز الشكل الظاهري للعمل من الناحية الجمالية او البصرية والتطلع الى المشاركة الفعالة من قبل الجمهور الملتقى لتلك الاعمال والعروض الفنية المنتمية للتجريب , وظهرت مساهمات نظرية ومنهجية , بل ودراسات تطبيقية تستوحى المبادئ الاساسية للمفهوم المرئي , وقد تم رفض وضع أطراً ثابته او حدوداً له , لذا هو تيار غامض في تعريفه يحوى العديد من الامور المتباينة داخله باستخدامه للشيء وضده في أن واحد.
علاقة المسرح بالنص اللغوي أو الأدبي، وربما باللغة بصفة عامة، هي أمر فريد ومثير للدهشة، فقد انبثقت ظاهرة المسرح النصي في بدايتها لمواجهة هذا التضخم الهائل لأفق التجريد الذي أنتجه الخطاب البصري.
فالمسرح هو الذي قام باستدعاء الخطاب الأدبي أو الشعري وعمل على مَسْرحته ثم تطويعه إلى أن تم استحداث نوع أدبي جديد بناء على متطلبات المسرح ذاته.
وهو ما جعل المسرح قادرا على اقتحام ذلك الأفق التجريدي الذي خلقه الخطاب البصري وإعادة تشكيل النص اللغوي الذي تقدمه بحيث يصبح حاملا لمساحة -غير محدودة نظريا- لما هو “حاضر” في العالم، بحيث يستطيع الفعل المسرحي استخدامها بوصفها نقطةَ انطلاق أو منصة يتم عبرها ممارسة ألعاب الظهور الخاصة به.
في كتابه (الخطاب البصري وفاعلية البنى الاخراجية المسرحية المعاصرة) يطل علينا الكاتب والمخرج علي العبادي بإصدار جديد ضمن مشروعه الابداعي في المسرح, والصادر من دار امجد للنشر والطباعة 2023 رحلة في عالم الخطاب المرئي المعاصر وحسب قراءة اخراجية معاصرة تتسامى فيها الذائقة الجمالية لتنتج فنا راقيا بل ومغايرا..
يتوقف الكتاب عند محطات هامة شكلت خريطة الابداع في مجال المسرح لعقود طويلة. شارحاً ذلك الارتباط الفريد بين حركة المجتمع والمدارس الفنية لظهور المناهج والمدارس بعد أن وضع يده على اهم التحولات التاريخية المرهونة في استخلاص وتطوير أفكار أثرت في احداث انعطافة فكرية على مستوى المشهد المسرحي ،
يتناول المؤلف في كتابة استعراض هام للمدارس الفنية –ابتداء من الواقعية والطبيعية والرمزية…الخ هي محاولة ان يعيد إليها الحياة بالاستشهاد بأهم من كتب البيان الفني لها من فلاسفة المسرح وفرسانه من منظرين ومخرجين لهم بصمة واضحة وبالمقابل ينقل الكاتب للمتلقي نبض هؤلاء وحسهم الجمالي ويتتبع كل أسرارهم والبدايات الاولى لانجاب هذه المأثر .
سردها لنا الكاتب بلغة أدبية وكعادته في الكتابة والتي لا تتخلى عن سموّها وسلاستها الإبداعية. يسخّرها لوصف براعة الخطاب التواصلي وعمق الفكرة، ملتزما بمنهج الاسلوبية الفنية والجمالية للباحث المتمرس , غاية في نفسه تبحث عن تقديم الجديد والمغاير، وحين يبدأ بمقدمة مقتضبة نجده فيها وكانه يملك مفاتيح المتمرس في الغوص في بحر عالم المسرح الواسع فيحدثنا دون تقعير عن تقنيات الخطاب وبنية الاخراج المسرحي فصار ينطق بسحر التاليف ويكتب بحبر أطيافه.
من زاوية أخرى لو تأملنا بعض عناوين فصول الكتاب :
(الفصل الاول –جوهر المذاهب المسرحية –المدرسة الطبيعية ,الطبيعية في المسرح, المدرسة الواقعية ,المسرح الواقعي ,المدرسة الرمزية ,الرمزية في المسرح ….الخ
(الفصل الثاني –الوجود في المسرح ,بوابات على مسارح الحدث ,المسرح في الحضارات الشرقية القديمة – المسرح الهندي ,الصيني ,الياباني ,مسرح القسوة …الخ
(الفصل الثالث –الرؤى الاخراجية واساليب الاحتفاء المغايرة.
-ماكس راينهارت –ريتشارد فاغنر-جاك كوبو-ارنين بيسكاتور- بيتر بروك….الخ)
نجد هذه العنوانات الهامة دليلا مفاهيميا لكل باحث عن المعرفة , وكأنها سلسلة من المفاهيم البحثية والفلسفية من اسماء مهمة اغنت المشهد المسرحي بالأفكار الهامة وغيرت وجه الخطاب المسرحي واحدثت تغيرات هامة على كل ماهو جديد وحديث , يقول بودلير في مفهوم الفن الخالص هو “أن تخلق سحرا متلاحقا يحتوي الموضوع والعلّة والعالم الخارجي” وهي مهمة الكاتب حينما كتب كتابه هذا في المسرح بأن يكون مميزا، ساحرا لثنايا المسرح التي تؤدي إلى تحليلية الممكن بغاية اليقظة ضد فناء الفعل.
سيظل هذا السحر ثابتا متجددا فالكاتب علي العبادي دائما ما يؤكد أن المسرح سيظل محتفلا بالحرية والقيم الانسانية ومقاوما للظلمة والتخلف..
وبعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب تجد نفسك في حالة نهم، تتمنى أن تمتد صفحاته وتشمل اقسام اخرى أخرى أثّرت في وجدان المتلقي وساهمت في تشكيل وعيه الجمالي والفني .
وفي هذا رسالة ضمنية إلى المؤلف لإصدار كتب اخرى تكمل ما بدأ من فائدة معرفية وشرح مبسط لمفاهيم تخص عالم المسرح وفنياته , لاسيما والكاتب علي العبادي يكتب بشغف المحب وحس الفنان ووعى المفكر يملك أيضا جدية بحثية تؤطر فصول كتابه وتؤصل لرؤيته ومسعاه النقدي، فهو يعرف جيدا كيف يختار ما يكتب عنه ولماذا؟ وكيف يتغاضى عن أعمال أخرى هامة لا تخدم منظوره.
أعتقد أن مقومات اختيار الأعمال التي تناولتها الكاتب في كتاباته هذه كونه يملك الرؤية والأدوات والقدرة على الإضافة والتطوير بما يمكنه من تجاوز السائد بروح العاشق المتيم ، ومازال يفاجئنا بالجديد المتجاوز لأفق التوقع وحدود الدهشةً
اقول ولازلنا في المقدمة حيث يشير الكاتب الى اهمية النظرية النقدية الاجتماعية وعلاقتها بالفن وتطوره علاقة تخادم . حيث يدفعنا هذا الواقع إلى توسيع دلالة الصورة لتشمل النشاط الذهني (الصورة العقلية والفكرية), والنشاط النفسي (الخيال والإدراك), والنشاط اللغوي -الصور السمعية – وهي كلها من مظاهر حضارة الصورة التي تتجلى في الأبعاد المكانية الملموسة والمجردة, وتعمل في المقابل على خلق عالم متطابق مع الواقع (خطاب الصورة) أو عالم بديل للواقع المعيش أكثر سحرا وأكثر صدقا أحيانا, وهو الذي يحظى في الغالب الأعم بامتلاك المتلقي والاستحواذ على بصره وبصيرته.
وهنا نرى ان الكتابة تتجه إلى الفرد, والصورة تخاطب المجموعة. إن حضارة الصورة تجاوزت منطق النزعة الفردية, وتبنت خيار النزعة الجماهيرية طلبا للتسويق والاستهلاك والتأثير في الرأي العام, فهي لم تعد تؤمن بقيم النخبة الأرستقراطية, بل بالقيم الاستهلاكية وحدها التي تمليها الفلسفة البراغماتية. ومن هنا راهنت كثيرا على وسائل الإشهار,
مما لاشك أن الخطاب البصري أبلغ تأثيرا من بقية الخطابات الأخرى في الفرد والمجتمع, ونظرا لخطورة الصورة وفتنتها اشتد التنافس بين وسائل الإعلام المرئية من أجل الإثارة,
هذه الحقيقة تجرنا إلى ضرورة التفكير في خلق متصورات جديدة لبلاغة الصورة أو جمالية الخطاب البصري في ضوء مستحدثات تكنولوجية الصورة التي تستطيع أن تتشكك في خطاب الحقيقة التي تقدمها الصورة, وأن تخدع المتلقي وتزيف الواقع أمام عينيه.
في ظل عالم الصورة لا يملك الإنسان المعاصر, أمام وسائلها , إلا الانقياد والتسليم مثل: خطاب الإشهار , حيث لا يستطيع الفرد أن يقاوم إغراء الصورة بوصفها علامة من علامات التحرر والتحضر. نحن نعيش عصر تكنولوجيا الصورة. فقد تقدمت كل الأشكال الثقافية الأخرى لتصبح تعبيراً وأداة في تشكيل مشاهد الحضارة المعاصرة.
ان الغاية من التركيز على مفهوم الخطاب البصري هو الخوض في التجريب القائم على مفهوم الاعتناق من التحديد والتقويض حيث تحرر الفن من مفهومه على انه مهارة حرفية لتحل محلها رسالة غامضة موجهه من الفنان الى جمهوره يطرح فيها قضايا هامة حول وظيفة الفن وعلاقته بالمشاهد من خلال التركيز على فكرة العمل الفني ودورها الفاعل في احداث علاقة جدلية بين المشاهد والعمل مما ادى الى ان هجر الفنانين قاعات العرض والمتاحف ولجئوا الى ابتكار اعمالهم في الخارج وأماكن جديدة يشارك فيها الجمهور , وبذلك اعتمد الفن على مفاهيم جديدة وعلى توحد العمل مع البيئة والطبيعية.
تناولت اساليب عديدة ارتبطت بسماته السابق ذكرها . فتلك الاساليب الفنية المتعددة والمتضادة في نفس العمل الفني كالبسيط والمعقد فتختلط ببعضها البعض ليبلور كل ذلك اتجاه فنى جديد يستخدم التفكك بدلا من الاتحاد , كما امكن فيه ادخال التكنولوجيا المتاحة مع الاقتباس من اعمال فنية يستخدم التفكك بدلا من الاتحاد , كما امكن فيه ادخال التكنولوجيا المتاحة مع الاقتباس من اعمال فنية متعددة ولم يعد العمل الفني قاصراً على اسلوب معين أو يمثل شكل ثابت مميز لأسلوب الفنان أو قالب معروف وانما من الممكن ان نرى العمل لفنان ما بأسلوب يختلف عن عمله الفني السابق من حيث الفكر والاداء والتقنية والخامة.
وقد صار الاهتمام بالصورة ان يكون لها عظيم الاهمية في المسرح في إطار تجديد هيكلة المسرح , وتغيير دورها ووظيفتها , وتغيير ادواتها وتغيير لغتها ومعجمها, وتجديد طريقة التأثيث لفضائها فأصبحت الاحداث تستبدل بالصور والشخصيات تستبدل بالأصوات , والحركات والاشارات بدلا من المواقف والحالات . وفى هذا السياق طال هذا التغيير جسد النص ايضاً وكذلك طريقة الكتابة للمشاهد مما اسفر عنه تراجع الحوار واصبح الانسان عنصراً مادياً من بين كافة العناصر الاخرى التي تؤسس المشهد في شموليته وكليته واصبح ممكناً التعبير عن اشياء كثيرة دون الحاجة الى الكلمة ولهذا من الضروري في المسرح التأكيد على البعد البصرى كاثر من التأكيد على اللغة المشهدية .
لذا اصبح المسرح الحديث يعتمد في صياغة اشكاله الجمالية على معطيات التقنية وما تضفيه من ابداعات سواء الشكل العام او لاغناء المشهدية والافعال التعبيرية من خلال ما تختزنه الصور من شفرات مرئية او صوتية ,فالتقنيات الرقمية اصبحت حجر الزاوية في كتابة أي نص او رؤية اخراجية في تحديث العروض الركحية.
ومع التطورات التي تشهدها حياتنا المعاصرة لاسيما ما جاءت به الرقميات وما نجم عنها من معطيات تطبيقية وابتكارات متجددة اصبحت وسائط اتصالية متنوعة انعكست على الواقع حيث جعلت العالم اكثر تقاربًا وانفتاحا .
وختاما ..الفن المسرحي الذي يعد من الفنون الشاملة التي تتضمن عديد العناصر التقنية المشهدية التي يصوغها المخرج وفقا لرؤيته الاخراجية وهنا اصبح للتقنيات الحديثة دورها الفاعل في تغيير النمط الاسلوبي للإخراج وأصبحت عملية التحول من النص الى العرض لا تخضع لما مدون في النص من حوار وكلمات بل ان الجانب البصري وبناء الفضاء اخذ يستمد من خلال التوظيف التقني وكيفية استثمارها لما يضفي مزيدا من الشفرات المرئية والسمعية والحركية وهذا ما يعزز انتاج المزيد من الدلالات وتحقيق ما يصبو اليه الإخراج عبر معالجاته الفنية من استيعاب المعطيات التقنية في تجسيد رؤى معاصرة تنتصر للحداثة والتغيير.