الكتابة الدرامية لرضوان احدادو من الواقعية النقدية إلى الصوفية الرمزية قراءة في مسرحية “الطريق” / د. محمد محبوب

تشكل جهود رضوان احدادو في مجال الكتابة الدرامية تجسيدا لدلالة الهواية المسرحية كفعل تجديدي ووعي جمالي طامح إلى التغيير و النزوع إلى التجاوز على المستوى الفني، و على مستوى الرؤى و الدلالات المعبر عنها في المنجز الدرامي. لقد كان هاجس هذا المبدع تجاوز ” الواقعية التبسيطية في مجال المسرح إلى واقعية رمزية قائمة على تكثيف درامي تدرك آليات اشتغال الواقع، ومبادئ اشتغال الفن”.(1)

ومن ثم، تأسست تجربته على نبذ ثقافة الجمود، وخلخلة السائد، لبناء مشروع مسرحي حداثي يستحضر الأبعاد الاجتماعية والتاريخية. لكنه يرمي، في نفس الوقت، الارتقاء بالجانب الجمالي والفني.

وهكذا، انخرط الرجل في مغامرة التحطيم والخرق استنادا إلى وعي تجريبي يخضع منطق الهدم إلى قاعدة وضوابط الرؤية الجمالية القائمة على تصور حديث لوظائف المسرح وآليات اشتغاله.

إن هذا الوعي التجريبي يستند إلى رصيد الأستاذ رضوان احدادو في مجال المسرح والكتابة الدرامية تحديدا. لكنه يفصح كذلك عن غنى التجربة الحياتية للرجل وتعددها حيث “تقاطعت في ذاته الحقول المعرفية والجمالية المتعددة. كما امتزجت في تجربته، الوجودية والاجتماعية والفكرية والفنية والنضالية، ثقافات كثيرة متعددة المصادر والخلفيات واللغات والحساسيات ” (2). وقد أدى كل ذلك إلى بروز مبدع استثنائي منح للكتابة الدرامية طابعها المتجدد. ذلك أن الرجل ” صاحب رؤية ورؤيا، وصاحب طريق وطريقة، وصاحب خطاب ورسالة”. (3)

ولاشك أن هذا الثراء وهذا الغنى الذي يسم تجربته الحياتية والإبداعية هو الذي شكل خلفية معرفية، ومرجعية جمالية لخوض تجربة التجديد والتحديث، والخرق والهدم لأنساق جمالية تقليدية بغية فتح مسارب وآفاق جديدة للكتابة الدرامية التي من سماتها الإبداع والتميز والتجديد. وتمثل مسرحية ” الطريق أو تيرينا لم تمت ” (4) نقلة نوعية في المسار الإبداعي للرجل، وتحولا واضحا في ثوابت الكتابة الدرامية لديه، تؤسس لفلسفة إبداعية جديدة قوامها التوظيف الواعي للتراث الصوفي، مما ينم عن تشبع الكاتب باختيار التجريب، كما أن هذا الاختيار يعكس نضج التجربة الفنية والحياتية للرجل، التي شكلت سندا لاقتحام المغامرة التي استدعى من خلالها ثقافته الروحية معتمدا العلوم الالهامية القائمة على المشاهدة والكشف. وهو بذلك يكون رائدا في مجال انفتاح الفعل الدرامي على الثقافة والتراث الصوفي في أفق اغناء الكتابة الدرامية، ومنحها فرصة للتجدد والتحول والتغيير بحثا عن الإبداعية المفترضة في النص الدرامي.

ويكشف العنوان ” الطريق” عن هذا النزوع. فالطريق لدى المتصوفة هو إعداد قلب السالك وروحه ليكون محلا للمعارف الكشفية الالهامية. وفي سياق ذلك، يعتبر أبو حامد الغزالي “الطريق” عبارة عن رحلة تطهير من جانب السالك استعدادا لتقبل الحقائق والمعارف الكشفية (5). ويحدد الغزالي الأدوات والمراحل التي تسعى الذات السالكة إلى قطعها للوصول إلى مرحلة انكشاف ووضوح العوالم الخفية والأسرار الربانية، ويمثل لهذه الأدوات بالخلوة والصمت والصيام والتقشف (6). وهي أدوات ترمي إلى المجاهدة لتقوية سلطان الروح، وتحرر النفس من الأدران، وانكشاف جمال العالم وجلاله، ودقائقه و أسراره.

وهكذا، تتفتح المسرحية بدخول الممثل، وتوجهه نحو الخشبة يجر بعياء ظاهر حبلا طويلا، بيد أن العياء لا يبدو جسديا. إنه عياء فكري وروحي، ذلك أن الشخصية “هو” تعيش تحت وطأة الضياع، وتعاني من حالة شك مزمنة، حيث تتساءل عن المصير، والوجهة التي ستسلكها للخروج  من دوامة هذا الفراغ والعجز والشك .

“لله ياسفينا

فين غاديا بنا ؟

راه احنا فيك رهينا

غاديين جايين

هايمين سارحين

البحار كبير على مواجو ما قدينا

البحر كبير، والعومان صعيب علينا”. (7 )

بعد هذا المقطع الغنائي الدال على إحساس عميق بالضياع والتيه، يلتفت إلى الجمهور مخاطبا إياه بلغة أقرب إلى البوح معترفا بأنه عاد من أجل “تيرينا ” جدته التي يسمع عنها ولا يعرفها ” قالوا إنها كانت جميلة، ربما أجمل نساء الدنيا ” (8). من أجلها يخوض مغامرة البحث. فهي المرأة الوضاءة “التي انصهرت في عمق الأنوار” وتركت ” الحبل ” من أجل التواصل معها. وإذا كانت الحبال متعددة الدلالات والمعاني منها  الحبل السري، حبل المشنقة، حبل المودة، حبل الكذب…فإن الحبل الأمتن، المراد هنا، هو الحبل الممدود بين الشخصية والله. (9)

إن الشخصية في هذه المسرحية تتميز بكونها ” كائن مجازي، يشار إليه بضمير الغائب” (10). وهي لا تحيل على شخصية محددة بهويتها وأوصافها ووضعها الاجتماعي، بل إنها “تحمل رمزية الذات العارفة “(11). الساعية دائما إلى الماورائي وإلى الحقيقة التي لاتنتمي إلى عوالم المحسوس كما هو الحال تماما في التجربة الصوفية. ومن ثم، فإن “تيرينا” المبحوث عنها، والتي انصهرت في عوالم الأنوار يبدو أنها تجسد رمزية ودلالة ” الحقيقة”لكنها حقيقة من نوع آخر. إنها حقيقة تدرك باعتبارها معاني وحقائق نورانية، وليس بوصفها حقائق واقعية ملموسة.

وتاسيسا على ذلك، نخلص إلى أن “الطريق” في المسرحية هو عبارة عن مشوار وسعي للخروج من حسية البصر إلى نورانية البصيرة، من ظلامية ووهمية البصر إلى حقيقة البصيرة ” فالبصيرة ناظر القلب، كما أن البصر ناظر القالب، فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية، والبصر يرى المحسوسات الكثيفة الظلمانية الوهمية ” (12).

وهكذا، فإن الرحلة في مسرحية ” الطريق” هي رحلة استكشاف للحقيقة، و رحلة تطهر من دنس المحسوس لإدراك حقائق الأشياء وبواطنها، فالاكتفاء بالبصر يجعل صاحبه محصورافي دائرة المحسوسات، لكن البصيرة “قوة للقلب منورة بنور الله” (13) تقود إلى إدراك البواطن والحقائق. لذلك، فإن رهان المتصوف ” هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق” كما يقول ابن تيمية. (14)

في هذه الرحلة الطويلة بحث مضن عن الحقيقة تقطع خلالها الشخصية “هو” طريقا شاقا وعسيرا، يستغرق مراحل عديدة تبدأ بمرحلة الظاهر لتنتهي بانكشاف الباطن، حيث الأسرار الربانية، الأنوار واللذة الروحانية. وهي مراحل السالكين في مدارج البحث عن الحقيقة من زاوية المعرفة الصوفية التي تنبذ المعرفة العقلية، وتهيء السالك ليكون مستودعا ومحلا للمعرفة الكشفية الالهامية. وإذا كان الصوفي يبدأ الرحلة بمرحلة الانفراد، وهي مرحلة العمل الظاهر، وذلك بالانخراط الكلي في أجواء العبادة، والإعراض عن الدنيا، والزهد في شهواتها، والإستغراق في العكوف والذكر والاستغفار مستعينا بالصمت والصوم …فإن شخصية ” هو” في مسرحية الطريق تبدأ مشوارها في الطريق الطويل للبحث عن الحقيقة، وكشف أسرار “تيرينا” النورانية البهية بالانغماس في معمعة الصمت، ولججه الهادرة ” مزيدا من الصمت، هل تعرفون أن لاشيء أبهى وأجمل من الصمت؟ بل لاشيء أوضح وأفصح من الصمت…من الصمت الصموت “(15) لكنه، في الحقيقة، صمت ناطق يوازي الذكر والاستغفار لدى المتصوفة، فهو ” الصمت المتكلم، الصامت الهائج، والصمت المخيف الهادر” (16)

غير أن الشخصية لا تتوقف كثيرا عند الفعل الظاهر، فسرعان ما تنفذ إلى الباطن متشوفة وساعية إلى تطهير القلب، وتصفية الروح، حيث تعبرالذات عن هذه الرغبة بمخاطبة نفسها والتساؤل

” فمتى تعرف ذاتي.. كنه ذاتي

لست أدري..” (17)

وتقوم هذه المرحلة على محاولة التغيير الباطني، وذلك لإعادة بناء الذات بتطهير القلب، وتصفية الروح، مما ينجم عنه مراجعة مجموعة من المسلمات والحقائق التي شكلت في السابق قناعات وثوابت لدى الشحصية

“صوت ينادي علي باسمي …لم أجب … الجواب بسيط للغاية ذاك الاسم الذي قيدوني به هو اسمي على الأوراق وليس باسمي الحقيقي ،هو اسم ألحق بي  في ظروف ما…” (18)

“اسمي الذي اخترته لنفسي مع نفسي وبنفسي ياسادتي يا كرام هو التراب … أنا جئت من التراب، عشت و أعيش فوق التراب، وأنا في آخر المطاف عائد وسأعود إلى التراب ” (19)

” ما أجمل أن يعرف الواحد قدره، أصله ومنبته حقيقته..أن يعرف أنه من التراب حتى لا يتعالى…منه ومعه إليه…فكل الذي فوق التراب تراب…إذا أدركنا حقيقتنا الترابية أكيد أننا سنعيش من غير خيلاء وتعال، في محبة ووئام ، سنعيش عالما بلا حروب، بلا حدود ،بلا ضغائن وأحقاد ” (20)

وهكذا، فإن الغاية هي تصفية الروح، وتطهير النفس، ومحاسبتها سعيا إلى جعلها تتجمل بالأخلاق النبيلة، والصفات الحسنة، فإدراك الحقيقة يجعل الذات تستسلم، وتتنازل عن كبريائها الزائف وعدوانيتها المقيتة، فالشخصية في المسرحية حين أدركت حقيقتها الترابية، بمعنى أنها من التراب وستعود إليه، تخلت عن كل المظاهر الخداعة والمصالح الزائلة التي تقود إلى الصراع والاقتتال، وتخلت عن الصفات السلبية من خيلاء وكبر وتعال، وتبنت قيما بديلة تفضي حتما إلى بناء عالم خال من الضغائن والأحقاد والحروب.

وعليه، فإن مرحلة مجاهدة النفس وتطهيرها تشكل خطوة أساسية على درب ورحلة التغيير وفي مسار السالك بحثا عن الحقيقة وانتهاء بالكشف والتجلي.

ومن الحقائق التي راجعتها الشخصية مفهوم الزمن ،حيث تتساءل عن دلالة الزمن

” هذه الساعة تجعلني دائما اتساءل إلى أية ساعة أعلن انتسابي؟ هل الزائلة الفائتة أم للقادمة؟ أم للساعة التي أنت فيها، يتحرك العقربان بدون اهتمام، عقرب إلى الوراء وعقرب إلى المجهول، يواصلان السيربدون عناء، في الليل والنهار، ما الليل وما النهار؟ وأنا، هل أنا في الليل أم في النهار ؟” (21)

إن تأمل الساعة من قبل الشخصية أفضى به إلى ادراك جوهر الزمن، والمفهوم  العميق الذي يوحي به، فالساعة، تبدو من خلال تأملها، عديمة المشاعر والأحاسيس. فهي متحركة باستمرار في حياد يفضح عجز الانسان، وكينونته المتحولة، ومصيره الآيل إلى الشيخوخة  والفناء ” اشهدوا ها قد ابيضت المفارق، تقوس الظهر، وطغت على الجبهة التجاعيد، واللعينة أي الساعة لا زالت عنيدة، منتصبة، متصلبة” (22). لذلك، تدرك الذات أن العمر نغمة منفلتة من أوتار الزمن، والحياة ومضة. (23)  والأجذر ان نملأها بأناشيد معتقة من الابتهال.

وبذلك، فإن الشخصية اجتازت مرحلة العمل الباطني، وأضحت تهفو إلى بلوغ مرحلة الكشف، وتسأل ” أين الطريق ؟” (24). و”لكن ليست أي طريق.أنتم تعرفون أن الطريق طرق وطرق و طرقات، وهي كلها معمولة للسير، جلها يؤدي إلى اللاشيء”(25) وهكذا، فإن الغرض هو قهر النفس، والحد من سطوتها، وذلك بالمجاهدة التي تقوي سلطان الروح، وتحرر النفس من الخطايا والأدران.

وتستمر رحلة تهييئ الشخصية عبر فعل المجاهدة، وهي مرحلة طويلة وعسيرة تهفوفيها وتتطلع إلى الحقيقة النورانية

” وأنا، وانا ،وأنا

أهفو إليك حبيبتي

مكسور الجناح أهفو

مكبل الخطو أهفو

بأصفاد الخطايا أهفو

أرنو إليك ياحبيبتي

بلآلئ أضوائك “(26)

بعد طول الرحلة تبلغ المجاهدة ذروتها من خلال رمزية انخراط الشخصية في طقس الجذبة التي تفضي أخيرا إلى أن ينسكب في القلب نور، وينكشف جمال العالم وجلاله وأسراره .

“يتعالى شيئا فشيئا

في السويداء ،مثواه ،مثواه

في كل الأشياء ،محياه ،محياه ..محياه

يسكن القلب

في الخفقات والنبضات والهمسات” (27)

ينتهي الطريق، وتنكشف العوالم الخفية، والأسرار الربانية.

“الأصوات

أصل الوجود

موجد الوجود

قديم الوجود

وقبل كل موجود” (28)

إنها مرحلة شهود الحق، مرحلة تجلي الذات الإلاهية، ورفع الحجاب عن السر المكنون

“هو

نور على نور

في لألأة النجوم ، يتجلى”

” الأصوات

يتجلى …يتجلى

في الأنجم ، في الطير المسخرات ”

“الأصوات

وعلى صهوات الغيوم…يتجلى”

” الأصوات

هو الطريق ..هو الطريق”

“الأصوات

وفي أنفسكم أفلا تبصرون

يتجلى ..يتجلى ” (29)

وهكذا، فإن المسرحية تحاور اللحظة، وتسائل الواقع الانساني برؤية مغايرة استنادا إلى تجربة حياتية ثرية، وخلفية معرفية جديدة، يستدعي من خلالها الكاتب الدرامي مصادره الروحية ليحاكم واقعا يتسم بهيمنة شمولية للعقل والثقافة المادية، التي أضحت تمارس تأثيرا كاملا على الحياة الانسانية في ظل عولمة كاسحة عطلت تأثير الثقافات المحلية، وأعاقت حضور الجانب الروحي في الحياة المعاصرة. و خلاصة التجربة تقود إلى قناعة مؤداها ضرورة إعادة النظر في موقع العقل ومركزيته في الحياة المعاصرة، فمهما بلغ هذا الأخير من قوة وطاقة يبقى قاصرا عن إدراك أسرار الكون، والإحاطة بعمق الأشياء. و من ثم، فإن المسرحية تدعو إلى الاستعاضة عن قصور المعرفة العقلية والحسية بخوض تجربة أخرى  تستخدم فيها القوى الباطنية التي تمد الانسان بنور المعرفة، وتستجلي الحقيقة بضروب الكشف والإلهام.

كما أن مسرحية ” الطريق” تحمل دعوة صريحة لرد الاعتبار للأدوار الروحية في عالمنا وحياتنا المعاصرة، فلا يمكن للحياة الإنسانية أن تستقيم بدون إيمان، فهو الكفيل حقا بإحداث التوازن في حضارة أصبحت نازعة إلى الماديات التي مافتئت تجرد الانسان من سموه الروحي، وتطوح به في مهاوي الرذيلة والخطيئة. فسلطة الاستهلاك أفرغت الجسد الانساني من هويته، وزجت به إلى مجال الاستهلاك واللذة و التبادل، وبرز بشكل لافت الجسد الإروتيكي الذي لا تمثل الرغبة بالنسبة له دافعا بيولوجيا بقدر ما تجسد علامة تبادلية على حد تعبير ج بودريار. (30)

ومن ثم دفعت الحضارة الإنسان المعاصر إلى الانغماس في فلك الرغبات والإغواء خاضعا لقيم التبادل والإغراء حتى تحصل لدينا في النهاية إنسان يمتلك “جسما مبتذلا يسكنه حيوان أولي بامتياز” (31)

ولاشك أن هذه الجنسانية المريضة المحكومة بمنطق الاستهلاك أبعدت الإنسان عن السماء وقربته من الأرض، أنزلته من سموه الروحي إلى عالم بدائي وحيواني.

لذلك، فإن المسرحية تؤكد على أن الإيمان وسيلتنا في هذا العالم لتجسيد رقينا وسمونا الإنساني، وهو الأداة المثلى لانتشال الإنسانية من عوالم التيه والضياع نحو نورالحقيقة، التي تمحق الكفر، وتقضي على الظلمة واللايقين. وبذلك فإن الرؤية القائمة في المسرحية تستشرف الحلول لعالم غارق في أوهامه، وواثق من أفكاره الصنمية وقناعاته المادية الزائلة والزائفة، التي كرستها تيارات اجتماعية وثقافية دعت إلى الاحتفاء بالقيم الحسية والمصالحة بين المعقول والمحسوس كما راهنت على رد الاعتبار للجسد ومتطلباته. بيد أن إدراج الجسد في مجال الاستهلاك والتبادل أدى إلى” أسطرة اللذة ” (32) وجموح الجسد إلى حد الفجور المبتذل ليبقى العالم حبيس سلطة الاستهلاك يعيش في دوامة الضياع، والاستلاب والانحباس في القاع، والتردي في عالم سفلي لايتجاوز الظاهر والمحسوس، ولايطمح إلى الارتقاء إلى مدارج النور، حيث العوالم الخفية والأسرار الربانية التي تتحصل بقوة القلب، وسلطة الإيمان، والاعتصام بحبل الله المتين.

وهكذا ترسم المسرحية أفقا جديدا لتحديث الفعل المسرحي، ومسارب أخرى للتجريب في سياق سعي الكاتب الدائم إلى ” خرق قواعد الفرجة التقليدية، وخلخلة المفاهيم الفنية السائدة، والتأسيس لمنظورات مسرحية تستجيب لوازع الإبداع والخلق ” (33) حيث نجد في هذه التجربة مصالحة بين المعرفة الصوفية، وخصوصية الكتابة الدرامية. وبذلك تحولت “الكتابة إلى كشف وإشراقات وتجليات أي رفع الحجاب عن السر المكنون. (34) فالمسرحية حسب الريحاني لا تراهن على الانضباط لقواعد التمسرح، والشروط التقليدية للكتابة الدرامية بقدر ما تسعى إلى ” اسىتكناه اللامحسوس والعصي على الإدراك، والكشف عن العلاقات الغامضة للوجود، والتي نصطلح عليها بالغيب أو الباطن أو الخفي” (35). ولا شك أن اختيار المونودراما قالبا فنيا لاحتواء التجربة ومعالجتها من الزاوية التمسرحية يعود بالأساس إلى خصوصية المونو دراما، حسب الناقد عباس أحمد الحايك، الذي يعتبرها ممارسة درامية تجسد في غالبها تجربة ذاتية” (36) منفتحة على ” الأسئلة المصيرية الكونية والوجودية” (37)، لكن ذلك لا يعني أن الكتابة تسقط في المحظور الذي يهدد بانزلاق المسرحية من طابعها الدرامي إلى الإغراق في المونولوجية والخطابية المباشرة والفجة، فمسرحية الطريق تسعى جاهدة إلى جعل الفعل المسرحي قائما على التعدد في الأصوات، حيث يحظر صوت تيرينا التي تدخل في حوار مستمر مع الشخصية “هو”، مما يجعل المسرحية حريصة على الحفاظ على البعد الدرامي، والانزياح عن المونولوجية والخطابية المستهجنة باعتبارها تهدد الهوية التمسرحية والخصوصية الدرامية للنص. كما أن الطابع الدرامي يتحقق من خلال هيمنة أشكال مختلفة من الصراع داخل النص، مما  منحه حيوية ظاهرة نأت به عن الثبات، والإغراق في الذاتية ليكتسب دينامية ناهضة على الصراع في أوجهه المتعددة وأشكاله المتنوعة. وهكذا يحضر الصراع الداخلي الذي يجسد نزوعات الشخصية، ومختلف التناقضات والمتغيرات التي تعيشها في رحلة استكشاف الحقيقة، حيث نجد الصراع الداخلي قائما على ثنائيات: الماضي والحاضر، العقل والإحساس، الظاهر والباطن، المحسوس والمجرد، البصر والبصيرة بلغة المتصوفة. ومن صلب هذه الحركية، وهذه الدينامية الصراعية تتحقق غاية الرحلة وهي انكشاف الأسرار، ورفع الحجاب على السر المكنون وإدراك ” التجلي”. بيد أن الصراع الداخلي ليس إلا وجها واحدا من وجوه الصراع المتعددة في هذا النص الدرامي، ذلك أن الصراع الخارجي يمنح للنص قيمته وبعده الدرامي اعتبارا لكونه يمثل جوهر هذه الصفة، وهو يتحقق من خلال التعارض والصراع بين منظورين:

  • منظور الشخصية التي تنزع إلى العالم الروحاني والنوراني وتنتصر للمعرفة القائمة على الإلهام والكشف (المعرفة الصوفية).
  • منظور المجتمع المعاصر النازع إلى تكريس السلطة المطلقة للعقل والإغراق في المحسوس. وتحرص المسرحية على الانتصار للمنظور الأول لتخلص إلى تمجيد الثقافة الروحية في بعدها الصوفي، القائمة على المعارف الكشفية الإلهامية، واعتبارها أداة لتصحيح ومعالجة واقع غارق في ماديته، طغت عليه ثقافة المحسوس، وخضع لمنطق المصالح، وسادت فيه النزعات والمذاهب المادية بتوجهاتها وقناعاتها، التي انعكست على سلوك الناس، وساهمت في بلورة تصوراتهم وأفكارهم، وهو الأمر الذي أدى إلى تقويض البعد السامي والخير والراقي في هذا الكائن الذي نسميه “إنسانا”.

 

هوامش:

1/محمد محبوب: “المسرح المغربي أسئلة ورهانات”، مطبعة لورونجي، مشرع بلقصيري، الطبعة الأولى غشت 2011 ص:3

2/عبدالكريم برشيد مقدمة كتاب “تورية حسن رائدة مسرحية من شموخ لرضوان احدادو”. منشورا جمعية نتطاون أسمير ط الأولى 2005 ص:7.

3/نفسه الصفحة: 7

4/رضوان احدادو: “الطريق أو تيرينا لم تمت مونودراما احتفالية”.سلسلة هامش نشر وتوزيع مكتبة باب الحكمة 2023 بتطوان.

5/أبو حامد الغزالي من التفلسف  العقلي إلى التصوف العرفاني عن الموقع الإلكتروني عربي 21

6/ أبو حامد الغزالي من التفلسف  العقلي إلى التصوف العرفاني

7/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:12-13

8/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:13

9/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:12-13

10/يوسف الريحاني: “الطريق إلى النور، الطريق إلى الغيب، تذييل لمسرحية الطريق”، ص:49

11/نفسه ص:49

12/أحمد بنعجيبة: “إيقاظ الهمم في شرح الحكم”، مطبعة عيسى البادي الحلبي، القاهرة، سنة الطبع 1331هـ، ص:68.

13/ عبدالرزاق الكشاني: “معجم اصطلاحات الصوفية”، تحقيق د.عبدالعال شاهين، دار المنار، القاهرة ط الأولى 1992 ص:64

14/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:14.

15/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:17

16/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:18

17/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 18

18/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:20

19/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:22

20/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 25

21/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:27

22/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 36

23/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 36

24/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص:37

25/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 38

26/ رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 39

27/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 39

28/رضوان احدادو: الطريق أو تيرينا لم تمت ص: 40

29/رشيد الحاجي: “أسطورة -الجسد في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك”. مجلة نقد عدد 30يونيو 2000 ص: 35

30/رشيد الحاجي: “أسطورة -الجسد في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك” ص: 37

31/ رضوان احدادو: “الطريق أو تيرينا لم تمت” ص42

32/ محمد محبوب: “المسرح المغربي أسئلة ورهانات” ص: 88

33/يوسف الريحاني: “الطريق إلى النور، الطريق إلى الغيب” ص: 51-52

34/نفسه ص:51

35/ عباس أحمد الحايك: “المونودراما: خصائصها، وإشكالية التلقي”، مجلة قوافل عدد: 26 1430هـ

36/عباس أحمد الحايك: “المونودراما: خصائصها، وإشكالية التلقي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت