الرقص الدرامي بين التشكيل الحركي والمعنى… ( طلعت السماوي نموذجاً ) / د. أحمد محمد عبد الامير

العرض المسرحي الراقص (الفوق تحت – والتحت فوقDown Up – Up Down ) كوريوكراف ( طلعت السماوي ) (*). مفهوم تقوم عليه نظرة العمل الراقص الذي يحاول استقراء الواقع العراقي المعاصر بعد أزمة احتلال بغداد، وما استجد فيها من تغيرات سياسية وأخلاقية عميقة قلبت الخارطة الطبيعية للبيئة الاجتماعية والسياسية والقيمية، فظهر على السطح ما كان خافياً، من قشور وغابت عنه ما ثقل فيه من موازين قيمية وأعراف أخلاقية .. فكان العرض استعراضاً سريعاً للأزمات الأخيرة، وكيف تروم الحصول على كرسي السلطة وهو بادياً فوق، لا يستطيع أن يرتقي إليه أحد، ترافقها صورة عذابات سجن أبو غريب .

ان الرقص الدرامي من أكثر مجالات الفنون اشتغالاً على مديات فاعلية الإدراك وكيفية تحقيقه أو حدوثه عبر تفاعل مدركات المتلقي مع خصائص العرض الحركية والإيمائية ،سنحاول إيجاد مقاربات بين هذا الفن وبين طروحات نظرية الجشتالت(*) في الوقت الذي يعرض فيه مضامينها الإدراكية، فإدراك معنى العرض لا يمكن إلاّ أن يكون إدراكاً كلياً يتجاوز أسلوب التجزئة من غير إقصائه، بمعنى أن المتلقي لا يصل إلى إدراك وفهم كامل وواضح يتصف بالكلية إلاّ بعد أن ينتهي العرض. والادراك هو عملية نفسية قوامها وعي الأشياء الخارجية وصفاتها وعلاقاتها وبماله صلة مباشرة بالعمليات الحسية. ويعرف على أنه العملية التي يقوم الفرد عن طريقها بتفسير المثيرات الحسية، إذ تقوم عمليات الإحساس بتسجيل المثيرات البيئية وصياغتها في صور يمكن فهمها.

حاول ( السماوي ) قراءة الواقع العراقي من خلال مجاورة تجربة ( ابن المقفع ) في سلسلة ( كليلة ودمنة ) القائمة على شخصيات حيوانية ترمز في سلوكها إلى البشر ، فكانت شخصيات ( السماوي ) الحيوانية أصناف متنوعة: قرد ، أفعى ، نمر ، ذئب .. الخ . تطالب هذه الحيوانات بحقوقها الحيوانية وفق البيان الداروني، فبدت وكأنها الأحزاب التي ظهرت لتطالب بحقوقها – وفق رأي السماوي – تروم الاستيلاء على كلّ شيء بقوتها الحيوانية، أو بقوة السحر الأسود، فما غاب في هذا العالم الحيواني ( عالم الغابة ) رؤية العقل، وظهرت الشهوة والرغبات الأنانية، ووحشية حيوانية (آدمية)، واستعراض للقوة. العرش للجميع، ولكنه يستعصي على الجميع، فحيوانات ( السماوي ) لا تستطيع الجلوس عليه، فمكانها الغابة والأشجار، وأغصانها. ولينتهوا ، إذ ابتدؤوا في ظلمة الغابة، ليدوروا في حلقة عبثية غير منتجة، والكرسي خاوٍ لا يقربه احد، هابطاً من السماء ليرقد على ارض المسرح وحيداً يعترش الفضاء بلونه الأبيض ونجمة داوود مرسومة خلفه، كرسي صهيوني – وفق رؤية السماوي – لا ينفع أحد ولا يستطيع حيوان الجلوس عليه .

يصور العرض في المشهد الأول، منظراً للغابة، قلبت فيه الأشجار لتصبح الجذور إلى الأعلى فيما تتجه الأغصان إلى التربة، ويقطن أسفل كل شجرة راقص بوضع ساكن، فيما عمد مصمم العرض إلى التحكم في البعد البصري للمشهد وذلك بوضعه لشجرة مميزة في العمق – شكلاً وحجماً – عن بقية الأشجار لتشغل عمقاً بصرياً ونقطة جذب إدراكية للمشاهد، ليشكل المشهد كله على هيأة مثلث عمقه المسرح، فيما تتوزع أضلاعه على جانبي المسرح الأيمن والأيسر ، وقاعدته باتجاه الجمهور .

يكون فعل الإدراك البصري للتلقي في ذروته للمشهد الأول من بنية العرض، إذ يكون إدراكاً كلياً، يتعدى التجميع الأولي للجزئيات العرض ( الحبال، الشجرة، الجسد ، … الخ ) ذات الأبعاد المادية الحسية، والتي تأخذ بالتمايز ضمن كلية العرض فيما بعد، لذا فإن قراءة المتلقي الأولى للعرض تدفعه إلى الإحاطة بصرياً بإرساليته الكلية لينتقل إلى القراءة التفصيلية لبنية العرض، فيقرأه قراءة عمودية من الأعلى إلى الأسفل، أي من الحبال المتدلية إلى أسفل المسرح والتي يمثل ( أشجار الغابة ) وينظم هذه القراءة ترتيبها العمودي المتجاور والمستمر، بعدها ينتقل المتلقي إلى الانقياد باتجاه نقطة الجذب المركزية في العمق ( شكل الشجرة المقلوب ). ثمّ إلى قراءة أفقية إلى الأجساد الجاثية تحت الأشجار والتي تتوزع كنقاط عدة متسلسلة، تربط فيما بينها علائق تراكبية تبدو غامضة للوهلة الأولى ليوحي مباشرة إلى الأجساد في التحرك، وعليه فإن إدراك العرض هو إدراكاً كلياً شمولياً وأن هذه الكلية برمتها تختلف عن مجموع بناها الجزئية، فضلاً عن أن العلاقات القائمة بين هذه البنى هي التي تحدد طبيعة الإدراك، بوصفها مكونات أو مؤثرات أو عناصر جمالية، إنّ هذا النمط من الفن يحمل المتلقي على وفق مبدأ نظرية الجشتالت إلى إعادة تنظيم مجاله الإدراكي في وحدة كلية جديدة ليتمكن من تأخير فكرة العرض وتحويلها إلى خبرة جمالية في إطاره الجمالي الخاص، وبالمقابل تكون استجابة المتلقي للعمل استجابة كلية ذلك أنه وحدة كلية، يحلل بنفسه أبعادها الدلالية، ليقتنص المعنى عبر إدراك حدسي مباشر ( استبصار )، إذ يدل المعنى هنا بشاعة الصراع من اجل الغابة، والرغبات الفردية على حساب المجموع، لذا يصبح إدراك المتلقي للعرض متصفاً بالآنية الحدسية لا يخلو من نزعة وجدانية ، وهو رغم ذلك يأتي على مستويات ومراحل عدة وصولاً إلى المعنى .

يبدو بوضوح في هذا العرض اشتغال قانون ( العمق والشكل ) عبر العلاقة الجدلية بين ( الشكل ، والأجساد ، الحبال ، والخلفية ، والشجرة المقلوبة ) أو ( الإمام / الخلف ) والتي اتضحت عبر توظيفات يمكن أن يطبق عليها قوانين ( الصغر ، البساطة ، الانتظام ، التقابل ، الاختلاف .. الخ ) فالأجساد عبر أداءها الحركي المتكرر والمتنوع والذي يتنافذ مع توظيف الحبال على جانبي المسرح تعمل كشكل يدرك على الخلفية التي تتدلى فيها الشجرة المقلوبة والتي تشير إلى رحيل الإناس الأصليين أو انطواءهم في سبات عميق جداً عما يجري من صراع على السلطة ، أما ما يبرز على السطح فهم الحيوانات الغابوية التي تتقاتل دون جدوى على كرسي لم يصمم لهم ، تعمل هذه الوحدتين على تبادل الأدوار بين الشكل والأرضية ، وكذلك الحال في تبادل المواقع المكانية بين الراقصين ، إذ يحتل بعضهم مقدمة المسرح فيما يحتل الآخرين خلفيته ، إذ يستمر هذا التبادل بالتتابع حتى انتهاء المشهد .

لقد كان لاستحضار هيكل الشجرة وقلبها – فضلاً عن البعد الدلالي – دوراً بارزاً في التأكيد على قانون الصغر – رغم كبر حجمها – إذ أنها عملت على جذب انتباه المشاهد باحتلالها لنقطة العمق وفقاً لمنظور ( بصري / خطي ) يمتد من مقدمة المسرح إلى منتصف خلفيته ( العمق ). إذ أمكن لهذا التوظيف إيصال فكرة تبادل المفاهيم والمبادئ بل حتى مواقع الأشياء. أو بمعنى آخر، أمكن لها أن تحمل فكرة العمل وتسميته في آن واحد. فأصبحت بهذا المعنى إحدى محمولات الصراع الفلسفي لفكرة العمل. فيما أتى قانون البساطة ليضفي وضوحاً جمالياً على العرض عبر توظيف فكرة (الكرسي) الذي يحمل (نجمة داود) ليتدلى من أعلى المسرح فيما تتصارع الأجساد تحته، وكذلك توظيف الحبال التي تمثل أشجار الغابة المظلمة التي ينضوي تحتها المتوحشين فضلاً عن الأداء الحركي المحاكي لحركات حيوانية واضحة ( الثعلب، الأفعى، الحمار الوحشي.. الخ) ، إذ أمكن لهذه العناصر أن تتصارع بوضوح لطرح فكرة صراع الأحزاب حول الاستحواذ على مقاعد السلطة بإبرازهم لقواهم المتوحشة في الصراع المستمر فيما بينهم .

لم يشتت كثرة الراقصين انتظامية العمل وتماسكه سواء في تصميم الديكور ( الحبال ) أم الحركات الأدائية والتي تتضمن تنظيماً خطياً على جانبي المسرح حيناً وأفقياً حيناً آخر وتشكل مثلثاً باتجاه العمق في أكثر من موقع، فيما تتشكل البنى الجسدية وتتحرك في تقابل متماثل لتكون تقابلات ثنائية وأحياناً ثلاثية تدرك إدراكاً كلياً ، ثمّ يأخذ التمايز بين دلالات الإيماءة والاشتغال ضمن هذا الكلي، أما قانون الاختلاف فهو ذو اشتغالات واسعة في مجمل العرض، وتحديداً في الأداء الحركي المنوع والأزياء وأماكن أداء الرقصات على خشبة المسرح ، والذي اضفى على العرض تبايناً مشوقاً عبر طرحه احتمالات عدة للمعنى .

إنّ ما يشكل جذب بصري في هذا الاشتغالات هو ذلك التتابع الخطي للعلاقة القائمة بين مجمل بنى العرض والتي تفرز معناً سيمولوجياً مبطن هو حب الاستحواذ على الشيء والذي عادة ما يدفع نحو الاقتتال عليه .

لقد مثل شكل الشجرة المقلوبة التي تحتل عمق المسرح أنموذجاً واضحاً لـ( رسوخ الشكل الجشتالتي ) ونقطة جذب لانتباه المتلقي بوضعه المقلوب الذي يعطي دلالات التبدل الغير طبيعي في القوانين الطبيعية داخل حلقة الفراغ، إذ أنّ غياب ثبات القانون يؤكد بالمقابل على ضياعه والمجتمع الذي يحتكم إليه، أو بمعنى آخر شكل قلب وضع الشجرة تأكيداً على  غياب حضور السلطة القانونية في المشهد والتي كان المفروض أن يمارسه ويعتليه أبناء الشعب وليس غيرهم ممن أتوا من غابات موحشة، لذا يمكن القول أن هذا التبدل أو الغياب هو نقطة انطلاق نحو قراءة جمالية لمعنى التغيب ذاته وبإمكانياته التوالدية كسلسلة معاني لا تبتعد كثيراً من هذا المضمار .

بدى إدراك فضاء العرض، إدراكاً منظماً في مجال كلي، ذلك أن مصمم العرض نجح في إخفاء صفتي أو قانوني ( التنظيم ، والتوضيح ) السابق ذكرهما وفي ذات الوقت استثمار إمكانية توحيد الأداء الحركي في آلية متشابهة غدت أقرب إلى التجمع في وحدة إدراكية متكاملة كما في المشهد الثالث، إذ تتوزع بنى الجسد على جانبي المسرح توزيعاً متشابها على شكل مثلث يمتد رأسه إلى عمق المسرح، فيما يحتل العمق راقص يضاء جسده بإنارة مكانه، وبالمقابل يؤدي الجميع أداءً حركياً متشابهاً ، كذلك الحال في مشهد الصلاة الجماعي الكاذبة التي يؤديها الراقصون، والمشهد الذي يستعرض فيه كل راقص عضلاته وقوته وقدرته في الاستحواذ والسيطرة، ومما تجدر ملاحظته أن اشتغال قانون التشابه هنا لا يكون تشابهاً رتيباً أو مكرراً على الدوام، بل يكسر الراقصون هذه الرتابة وذلك باستفراد أحد الراقصين على الجانب الأيمن من المسرح فيما يشكل البقية سلسلة رقصات تحاكي رقصاته وبهذا الشكل لا يكون الإدراك ثابتاً أو ساكناً على الدوام، بل إدراكاً متزامناً متراكباً ، مولداً للمعنى في آن واحد، بمعنى آخر أمكن لهذا القانون أن يصرح بأن إدراك العرض يفوق في حقيقته مجرد الإدراك البسيط لراقص واحد أو حركة أو عنصراً واحداً ، وأن التشابه التقني يجعل من مكونات العرض وحدة إدراكية واحدة متكاملة تقود إدراك المشاهد دون أن تشتته إذا ما تحولت إلى وحدات متناظرة أو متباعدة بصرياً .

وفي انتقاله سريعة في المشهد الرابع ينتقل الراقصون إلى منتصف المسرح ليشكلوا حلقة دائرية الشكل توسطها راقص يؤدي حركات أدائبة مرنة للغاية، فيما يقف بقية الراقصين في حالة سكون وقتي، إنّ هذا الانتقال التقني يبرز أهمية قانون التقارب الذي على وفقه تتخذ الأشكال وضعاً مميزاً وفقاً للطريقة التي تتقارب فيها، وعلى نحو يسهل معه إدراكها كوحدة واحدة ، يمكن من خلال تفعيل الدوال الجمالية للرقصات.

أما المشهد الخامس فيخرق أفق توقع مشاهده وذلك عبر تنقل الراقصين على جانبي المسرح كمجموعة مغلقة مقابل راقص يؤدي  سلسلة رقصات غير متكاملة الدلالة ولا تغلق بشكل كامل إلاّ بفعل الجهد الإدراكي العقلي من قبل المشاهد ليكمل توالي الحركات التي ينشيء لها معنى، دليله في ذلك التداخل التركيبي مع بعضها البعض (تداخل حركات لحيوانات وأفاعي مختلفة ) تفترض اكتمال الشكل طريقاً للمعنى .

يشكل دخول الراقصين على المسرح في المشهد الثامن، الواحد تلو الآخر نقاط جذب اتصالية تبقى غير مكتملة المعنى إلاّ بدخول الراقص الذي يليه وصولاً إلى المعنى الكلي الذي ينشأ من عملية ربط إرسالية الأجساد المتتالية الدخول يزيد من ذلك قراءة الكرسي المتدلي في أعلى المسرح وهو لا يعمل كعلامة أيقونية للمقعد بقدر ما هو علامة رمزية جشتالتية يمثل الصراع حول دفة القيادة التي لا زالت بعيدة المنال.

تشكل بنية الحوار في المشهد قبل الأخير قانوناً شمولياً يحتوي فكرة العمل ويوضحها عبر عبارات إعلانية إشهارية، يراد بها المطالبة بمطالب شتى تعمل سوية على تأكيد المعنى الذي قد لا يكمل المشاهد بنائه، فيما اتضح قانون التماثل في أكثر من مشهد واحد في العرض، وتحديداً في الحركات الأدائية التي توحي بصراع الراقصين مع بعضهم وصولاً إلى تجانس وتماثل كلي يوصل المعنى ولا يصغى بالدور الخبرة السابقة من أثر فعال في قراءة تطبيقات هذه القوانين واشتقاقها للمعنى .

يعمل العمل على التأكيد على أهمية الترابط والتوازن الداخلي لبنى العرض مع قانون الإدراك الذي يحكمها دون إقصاءه لأهمية وضوح وهدف التعبير وذلك بتوظيف الإمكانات الجسدية والحالات السيكولوجية ودلالات الانشقاق الجمالية، إذ عملت بمجموعها كمنبه إثرائي إدراكي يثير الاهتمام بفكرة العمل المطروحة والتي تتدخل قوى إدراكية عدة في قراءتها وفهمها وتفسيرها، كما وأن للحركات الراقصة والإيضاح النفسية التي تفصح عنها دوراً هاماً في نقل الإحساس يبتاعه الصراع والاقتتال إلى المتلقي دون الاكتراث بالضحايا .

يشير العرض بإرساليته الجشتالتية ملكة الإدراك الجمالي لدى المشاهد عبر كشفه عن ذاك النزاع النفسي المقام بين مستوياتها الثلاثة .. أي ملكة الإدراك الجمالي، إذ يمثل المستوى الأول، ذلك الأداء الحركي المرن للراقصين، والذي يكشف عن عمق العلاقة الانعكاسية بين الذات واعتدادها بجسدها، أما المستوى الثاني فيمثل ذلك التبادل المتعدي بين حوارية الذات مع موضوعها والذي يوطد تكامليته في الإعلاء من شعاراتها المتعلقة بموضوع صراعاتها في المشهد ما قبل الأخير في العرض، وأخيراً المستوى الإدراكي المتبادل بين ذوات الراقصين والمشاهدين الذين يفكون شفرة العرض، ويؤكدون حضور المعنى المغيب فيه عن طريق عمليات ثلاث هي حضور الموضوع وتمثله وتأمله.

لقد اشتغلت وحدات العمل كعوامل خارجية مؤثرة في الإدراك ، من خلال عناصر (التغير والحركة، الشدة والتضاد، العدد والترتيب والتنظيم ) ونشطت في جذب ميول المشاهد مراعية عامل الخبرة السابقة لديه، دون إلغاء ذلك الخرق لأفق توقعه لتراتبية إرسالية العرض، التي يمكن أن تقرأ قراءة جشتالتية؛ منذ بدأ العرض، إذ نجد في المشهد الأول أن البنى الجسدية قد وزعت أسفل الأشجار وهي ساكنة دون حراك، فبدت نقاط جذب بصري عدة، تقع على مستوى أفقي واحد من البصر، يوحي باستمراريتها وانسياقها في مصير واحد، لتبدو بهذا الوصف متشابهة إدراكياً في كلّ جشتالتي يجمعه مصير واحد. وما يدعم هذه القراءة هو ذلك المؤثر الصوتي المتراتب على إيقاع واحد متكرر في المشهد، ولا يبدأ في التنوع إلاّ في لحظة بدأ اشتغال الجسد بحركات متراقصة الواحدة تلو الأخرى، تكشف بمجملها عن إيماءات حيوانية غريزية تعبر عن الهدوء الذي يسبق نشاطها الحيوي .

يخيم صمت غريب على المسرح في المشهد التاسع ، يصاحبه إيقاع حركي هادئ نسبياً متماثل شكلياً فيما عدى راقص واحد في العمق يبقى ساكناً ليحمل إدراك المشاهد على البحث عن العلاقة التي تربطه ببقية الراقصين الآخرين اللذين توحي رقصاتهم بجشتالت حركي واحد، يتبادل فيه الراقصون دور القيادة عبر أداءه لرقصات تميزه عن المجموعة، يضاء المسرح بعدها على جسد راقص يتعد عن المجموعة في العمق ( قانون الصغر ) لا يتقاتل معهم ولا يشترك في المنافسة على السلطة، إنه يتفرج فقط، ليبتدئ من حيث ما انتهوا بعد انزلاقهم في صراع طويل، وبذلهم لجهد كبير، تزداد حدته عند أسفل الكرسي، بعدها يتبادل الراقصون الأداء وعلى نحو تعمل معه البنى الجسدية الراقصة بالتلاعب ببصر المشاهد باستمرار، من يمين إلى يسار العمق وهكذا وصولاً إلى تكاملية الإدراك الذي تلتحم به بنى الأجساد مع بنى الشجار والكرسي .

يستمر الأداء الحركي الراقص بالتكرار والتنقل والتشكل على الدوام في طرفي وعمق المسرح للتأكيد على لا نهائية المعنى وتعدده وفقاً لتعدد أنماط الصراع وتوجهاته عبر تحريك التشكلات الجسدية على المسرح ، وشيئاً فشيئاً ينبري الراقصون حولها بحركات توحي بالطبخ، للتعبير مجازياً عن طبخ المؤمرات والصبر على استواءها، بدت أيضاً كأنها طقس سحري اسود، وفي حركات بطيئة يختفي الراقصون ليبدو المشهد خالياً إلاّ من الأشجار ، والكرسي وراقص واحد يدور حول الشجرة، ليضاء المسرح بعدها مع دخول مجموعة يؤدون حركات دائرية في دلالة عن الحدث التأزم التي تشابه الموت في أداءها .

يتابع العرض استمراريته في الأداء وبتوزيعات جسدية محورية حيناً وانتشارية حيناً آخر، يتشابه حيناً ويختلف حيناً ، وتتبادل مراحل الحركة والسكون في انتظام كلي لا يشتت البصر بل يعمل على توجيهه حول نقطة الجذب الرئيسة (العمق، الشجرة). وفي الوقت الذي تستمر فيه التشكلات الجسدية بالتتابع الحري يهبط الكرسي ببطء شيئاً فشيئاً إلى أسفل المسرح، فيما يمضي الراقصون عنه بعيداً ، إلى جذورهم أو إلى الأشجار التي أتوا منها ذلك أنه لا يصلح لاحتواء أي واحد منهم وليس أمامهم من شيء إلاّ أن يعودوا إلى حيث أتوا ليمارسوا صراعاتهم واقتتالهم هناك .

يمكن لصاحب المقال أن يطابق في قراءته للعرض بين مجمل إرساليته وبين أنموذج الهيكل الذي وضع لتفسير آلية الإدراك، إذ يفترض أن الصور والدلالات البصرية لإرسالية العرض ( الراقص ) تكون مطابقة لأنماط مثيراتها ( مرجعية الراقصات ) ليتمكن المشاهد من المطابقة بين هذه الصورة وما يتجسد أمامه، كما يمكن له أن يطابق تحليله للعرض مع أنموذج التركيب البنائي السابق الذكر، والذي يحتكم المشاهد فيه إلى التمثلات الذاتية للعرض ( صورة الدلالية ) والتي تقوم أساساَ على وفق الخواص التنظيمية له، ثمّ يعمد إلى تكوين افتراضات قائمة على توقعات لما ينبغي أن يكون عليه المعنى وبمساندة القوانين البصرية ( التشابه ، الاختلاف ، الاكمال ، … الخ ) . وبالارتكاز إلى عامل الخبرة السابقة .. دون إلغاء عوامله التنظيمية للعرض بكليته ودون استثناء لأنماط الحركية ( حركة بطيئة ، حركة سريعة ، حركة إيقاعية … الخ ) .

كما نستنتج من قراءة تجربة ( السماوي ) إن قراءة وتذوق عروض الرقص الدرامي ما هو إلاّ تنظيماً لآلية الإدراك داخل الأطر الجمالية التي يحملها الأفراد في مجالهم النفسي .تجاوز فن الرقص الدرامي مسألة التفسير الذاتي فحسب ، بل تسامى ليصبح فناً معرفياً يعمق الإحساس بالقضايا الوجودية في الحياة ، وهو بهذا المعنى لا يصف خاصية مفردة تتصل بطرح معين أو لغة معينة ، بل قضية تتجسد في حدث يتولد المعنى فيه من خلال عملية طرح تساؤلات حادة ، جريئة ، عبر دوال حركية متناسقة متناغمة ، تقدم نفسها بوصفها جشتالت دالاً .

*د. أحمد محمد عبد الامير ( باحث وفنان ايمائي) / العراق ـ بابل

(*): طلعت السماوي : مواليد محافظة بابل / الحلة ( 1969 ) مغترب في السويد ، مصمم رقصات (كوريوكراف )، أسس فرقتين للرقص الدرامي ( مردوخ ، وأكيتو ) ، يعد رائد الرقص الدرامي في العراق، من اعماله : خطوات انسان ، ندى المطر ، الهروب إلى لا اين .

(*): الجشتالت : مفردة ألمانية (  Gestalt ) تعني الشكل أو الهيأة ، وهي من النظريات الجمالية ، وضع أسسها ( كوهلر ، كوكفا ، كيلر ، فرتهايمر ، وآخرون )، قدموا مبدأ أو افتراضاً مفاده أن السلوك وحدة كلية متكاملة ، نظراً لتواجد الذات في موقف معين ذو ميزة وخصائص تؤثر فيها فتجعله غير قابل للتجزئة وهو ( كل ) سواء كان سلوكاً عاماً أو خاصاً ، وإن خاصية الكلية هي التي يتميز بها السلوك حسب الموقف الذي يحدث فيه . ومن فرضياتها : جدلية الكل والاجزاء ، الشكل والارضية ، رسوخ الشكل ، والادراك: يمثل ( التنظيم والتوضيح ، قانون التشابه ، التقارب ، الاغلاق ، الامتداد ، الشمول ، التماثل ) .

 

لا يتوفر وصف.

طلعت السماوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت