نقاد يسقطون التراث ويقصون المسرح !! صرخة خامسة في وجه النقد المميت .. / بقلم : يوسف الحمدان
ان استلهام التراث ومسرحته وإسقاطه فكريا، سياسيا، أيديولوجيا، عقائديا، على واقعنا العربي بشتى أصعدته، لعب دورا إفساديا، إقصائيا، لفنية المسرح كضرورة إبداعية تقتضي الذهاب إليها دون حوامل قصدية جاهزية تتبنى المسرح باعتباره منبر خطابة وعظية توعوية جماهيرية مباشرة، لا باعتباره فنا ممارساتيا يتجاوز هذا الخطاب إلى ما هو أرحب وما هو أكثر قدرة على استكناه غير المرئي والمقروء في أفق المخيلة النبؤاتية، بدليل أن الخطاب النقدي ( العربي ) ـ معظمه ـ ظل منذ الستينيات منجذبا إلى تحليل وقراءة المُسقط على الواقع من خلال المسرح، قراءة التراث ومقارنته بالواقع، قراءة الواقع من خلال التراث، قراءة التراث من خلال فكر الكاتب، قراءة مؤثرات التراث على بيئة الكاتب والمجتمع، قراءة المسرح باعتباره موظفا اتصاليا للتراث بمختلف محمولاته وأثقاله، ونادرا ما نجد خطابا نقديا ذهب إلى المسرح وحلل كيفية إثقال كاهله بالتراث وتغييب فنيته وخواصه التقنية والإبداعية بسبب انزحامه بالموروث، بل أن بعض النقاد العرب ذهب إلى رؤية المستقبل من خلال إحياء التراث، وبعضهم ارتأى الاكتفاء بماضوية التراث والانطلاق عبره إلى الحاضر والمستقبل، ويأتي أحد النقاد فيكتشف أن الزير سالم لدى ألفريد فرج يعبر عن هموم التمزق بعد عام 1967 ، ويكتشف آخر بأن الزير سالم جاء انعكاسا لحرب اليمن، وليأتي الزير سالم عند فاروق خورشيد تعبيرا عن هموم التمزق العربي بعد عاصفة الصحراء، وليأتي أبو زيد الهلالي عند يسري الجندي نموذجا لحوار الثقافات بين المجتمعات العربية، وليأتي الزير سالم حسب رأي النقاد عند غنام غنام نموذجا للإنسان العربي غير المتصالح مع مجتمعه وعصره، وبعض النقاد ذهب إلى قراءة هذه الشخصية أو الشخصيات المكتظة فيها من خلال حكاية أو ملحمة الأوديسيا لهوميروس، وبعضهم أخذ يقرأ الزير سالم من خلال شخصية هاملت لشكسبير ، وبعضهم أطلق على أحد الكتاب العرب ” موليير العرب ” ، وبعضهم قرأ مسرحية ( رأس المملوك جابر ) لسعد الله ونوس باعتبارها نموذجا لفساد السياسة العربية، وبعضهم رأى في مسرحية ( عزيزة ويونس ) لبيرم التونسي انعكاسا لما يتهدد الوحدة العربية من معوقات، وبعضهم ذهب إلى أن قائد سفن الغوص ” النوخذه ” في المسرح الخليجي هو نموذجا لجبروت العصر .
إن ذهاب الخطاب النقدي العربي، أو ذهاب هكذا خطاب، إلى تحليل إسقاط التراث على الواقع، يسوغه ضمنيا ذهاب النص أو المؤلف إلى التراث جوهريا، كليا (هامشيا على مستوى المسرح)، بدليل إقرار هؤلاء المؤلفين بصحة ما ذهب إليه هؤلاء النقاد، وإن اختلفوا معهم فيما ذهبوا إليه، ذهبوا إلى تحليل وقراءة فكرتهم أو تراثهم المسقط على الواقع.
إن الشخصيات، الأساطير، المادة التراثية التي استلهمها هؤلاء المؤلفين وذهب إليها قراءة وتحليلا هؤلاء النقاد، قد لا تحتمل هذا العبء الفكري الإسقاطي، وغالبا ما تتورط به، فهي من البساطة والسذاجة أحيانا مما لا تدع مجالا للتفاعل معها باعتبارها خلاف ذلك، وأحيانا تتوفر على عنصر من عناصر الفعل المسرحي يفسده ويقصيه هذا الإسقاط الفكري ” الدسم “، وأحيانا تأتي كمادة مغايرة تماما للمنابع التراثية المفترضة، بمعنى أنك لو غيرت الاسم والبيئة والأحداث لما تغير في الأمر شيء .
وأحيانا يذهب هؤلاء المؤلفين والنقاد إلى تغييب أو إجهاض عنصر المخيلة في هذه المادة التراثية عبر عقلنتهم المغالية لها، وأحيانا يعنيهم من هذه المادة بطلا ما مثلا، فيفرطوا في تضخيمه وتعظيمه وتهويله ويتجاهلون كل ما يحيط به، فينجذب الاهتمام إلى المطلق في البطل ويعزلوا المادة التراثية التي استقوا منها هذه الشخصية.
وإذا سألت بعض المؤلفين حول عدم توجههم لواقعهم أو عصرهم مباشرة إذا كان الغرض من اللجوء إلى التراث هو إسقاطه على واقعهم المعيشي، تكون إجابتهم كالتالي : نحن نذهب إلى الموروث لأن الواقع العربي صعب ولا نستطيع محاورته عبر المسرح، نحن نخشى على نصوصنا من سلطة الرقابة، لذا نلجأ إلى الموروث والتاريخ، وبعضهم يقول : إن التراث خير وسيلة للتعبير عن فكرنا وعن همومنا .
هكذا وكما لو أن هذا التراث وُجد في بيئة غير عربية ، أو كأن التراث توفر في بيئة مفتوحة لم تتوفر في بيئتنا المعاصرة ، وأحيانا تشعر كما لو أن المسرح في أصله خطاب جماهيري مباشر ، بمعنى أن عجز هؤلاء المؤلفين عن مخاطبة جماهيرهم مباشرة يدعوهم إلى اللجوء إلى خطاب التراث الجماهيري ( الشعبوي ) المباشر ، بمعنى أنه ليس للمسرح ـ إزاء ذلك ـ غير ذاكرة معيشة يجب أن يستحث نشاطها كي تلتئم مع فكره وواقعه ، أما عنصر المخيلة أو عضلتها ، عنصر اللعب ، عنصر الرؤية الفنية ، فهو غير وارد في المسرح .
نحن نعرف، وأعوذ بالله من الخطاب العارف، أن كثير من هؤلاء المؤلفين المسرحيين كتبوا نصوصا مسرحية مادتها ليست من التراث المعني، وقد تميزوا وأبدعوا فيها، فلماذا يلجؤوا إلى التراث طالما لا تدعو الأهمية إليه؟ ونحن نعرف أن كثير من الحكايات والأساطير نقلت إلى المسرح، سواء عبر خيال الظل أو الأراجوز أو صندوق الدنيا، واحتفظت بمغازيها وعناصر الفعل المسرحي الجميلة فيها، فلماذا نلجأ إليها بغرض الإسقاط على الواقع طالما نحن لا نستطيع أن نحقق شيئا من مغازيها ومن أفعالها المسرحية؟ أو طالما نحن ندرك بأننا سنمارس تشويها عليها ؟ .
طبعا نحن نعي بأن المؤلف حين يستقي من التراث مادته سيكتبها بلغة عصره، ولكن ـ على الأقل ـ بما تحتمله هذه المادة من إمكانيات فنية إضافية إخصابية، وبما تتوفر عليه من متاحات تخيلية درامية تذهب إلى مناطق أبعد من التحديد والتأطير وبما يضمن بأن هذه المادة إذا عدت بها إلى منابعها سوف تتأجج بعنصري المخيلة والفعل المسرحي، وإذا ذهبت بها بعيدا عن منابعها سوف يتحقق هذان العنصران بنفس القدر وأكثر، ولنا أن نعود إلى ( الآلة الجهنمية ) لجان كوكتو كيف قرأ أسطورة أوديب وأنتيجون وكريون، ولنا حتى من إسقاطه ( مسرحيا ) عبرة .
المؤلم والموجع في الأمر هو أن كثير من نقادنا المسرحيين العرب ( الاشاوس ) يسعى إلى تكريس هذا الموروث بوصفه ذخيرة تاريخية لا غنى للمسرح عنها، لأنها زاد الوعي والمعرفة بالمسرح، وهي طامة كبرى فعلا، لذا نجد كثيرا من العروض المسرحية التي تحفل بهذا الموروث لا تنجاوز حدود طقوس هذا الموروث قيد أنملة، ويأتي في هذا السياق من ينظر لها من النقاد والمنظرين بطرق عدة، تارة بالفرجة وتارة بالاحتفالية وتارة بالطقوس وقس على ذلك.
يقول فريدريك نيتشه : إن الإفراط في التاريخ يضر بالحياة، وبالحاضر، ولهذا يمكن اعتبار تأمّلاته النقدية حول التاريخ دعوة لإعادة اكتشاف ملَكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد والشعب والثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي والحياة من سيطرة الذاكرة.
ومن أهم من تمرد على هذا التاريخ بارثه وقوالبه البالية صوتا وجسدا وروحا مخرجنا فيلسوف مسرح الصورة توفيق الجبالي وذلك من خلال مسرحية الصامتة الصارخة (فهمتلا) والتي تجلت فيها سخريته السياسية، والتي تمرد فيها على الموروث الجسدي والصوتي والروحي والبصري في مسرحنا العربي والتي تسنى لي مشاهدتها في أواخر تسعينيات القرن الماضي بملتقى زيورخ الثقافي، في هذه المسرحية نلحظ الجبالي يحفر في بطن الرؤية وكما لو أنه
يرسم لوحة سيريالية مذهلة يتجرد فيها من الموروث التقليدي بكل أشكاله في مسرحنا العربي..