قراءة نقدية عن العرض المسرحي “من زاوية أخرى…”/ عثمان بنحدوا عوالم

من المعلوم بالضرورة أن المسرح لا يخرج عن نطاق المأساة والملهاة، إلا أننا في المقابل نجد زخما كبيرا من حيث التيمات والمواضيع التي يتم طرحها وقولبتها في شكل درامي مشهدي، فهذه ملهاة تناقش قضية ما يغلب عليها طابع التفكه والتهريج بل والسخرية اللاذعة (كوميديا ديلارتي)، وتلك تناقش تيمة إجتماعية تنبني على مادة تراجيدية يحصل بها التطهير عند إثارة عاطفتي الشفق والخوف من لدن المتلقي (أريسطو طاليس)، والعرض المسرحي الذي سنخضعه لميزان النقد ينتمي بشكل كبير الى الصنف الأخير /المأساة/* وهو الموسوم ب “من زاوية أخرى…” لصاحبه المبدع هشام الغفولي تأليفا وإخراجا.

من هذه الزاوية أو من زاوية أخرى..، في الكثير من الأحيان تجدنا نحكم عن الأشياء بأحكام قيمية جاهزة، وبنظرة آحادية جوفاء، دون أن نكلف أنفسنا عناء طرح تساؤلات وفرضيات أخرى قد تحتمل الصواب كما الخطأ، بمعنى آخر فإن لكل مسألة حلولها النسبية، وزواياها المختلفة من حيث إعمال النظر.

لا يتوفر وصف.

ملخص المسرحية:

يعالج العرض المسرحي موضوعا اجتماعيا يتمثل في مرض يعد من الأمراض العصية على التحمل من كلا الجانبين (المريض/ملازمه) والأمر يتعلق بمرض النسيان المزمن Alzheimer ..شخصيات المسرحية ترتكز بالأساس على السيدة فاطنة وهي أم لستة أبناء أربعة من الإناث وإثنان من الذكور، تعاني هاته الأخيرة من مرض آلزيمر مما يجعلها تنسى أقرب الناس إليها وهي ابنتها التي ظلت وفية للإعتناء بها دون كلل..، كما أننا نجد الأب العائد الى أحضان العائلة بعد أن قضى ردحا من الزمن -هاربا- خارجا من البيت.

كانت الأم فاطنة قبل -هروب زوجها- ومرضها تتمتع بحياة هنية ومستقرة حاضنة لأبنائها التي كانت تهتم بهم أشد الإهتمام كما جاء في بوح أحد شخصيات المسرحية، وهو إبنها /المثقف-العميق/ الذي أصبح يحن الى تلك اللحظات الجميلة (لمة العيد_الأكل من طعام كانت تعده أمه بيديها- القُبل التي كانت تجود بها عليه بين الفينة والأخرى- عيادته ليلا حتى تتأكد من إستقرار الغطاء على كامل جسده..)، بعد خروج الأب من البيت دون تعيين أجل محدد للعودة عاشة الأم فاطنة الأمرين، الإنتظار المفتوح لعودة الأب، ثم المسؤولية الثقيلة التي أصبحت تتقلدها في إعالتها لأبنائها، ومع كل هذه المعاناة والتحديات نجد في الضفة الأخرى ذلك المجتمع المريض الذي كانت تعيش داخله هذه الأسرة، بحيث كان لا يتوانا على نسج حكايات ضارية ضد فاطنة؛ فيما معناها أنها هي المسؤولة الوحيدة على هجر رب الأسرة لهم، لسبب أو لآخر ولما لا قد يكون هذا السبب هو”السحر”، تمت مسألة أخرى نجدها متفشية في أوساطنا وهي تقديم يد العون بنية الحصول على المقابل (اللحم) وهذا ما عاشته فاطنة إزاء شغور البيت من ركيزته..

العرض المسرحي يناقش مواضيع أخرى بالموازات مع الموضوع الرئيسي، من بينها الحب الذي كان يجمع كل من فاطنة وزوجها، فما علاقة الحب بشلاضة؟ كما جاء في الحوار الذي جمع كل من البنت وأبيها..أما الخيط الناظم بين عنوان المسرحية والعرض نفسه فقد يتجلى في:

أن لكل من البنت والأب رأيه وموقفه الذي ينظر به من زاويته الخاصة، ومثال على ذلك قضية المرض التي تعيشه الأم:

فمن زاوية البنت أن المرض قد تم تشخيصه بطريقة علمية وبذلك عُلم أن الأم مريضة بداء النسيان المزمن وفي رأيها هذا هو الصواب.. ومن زاوية أخرى نجد الأب له موقف آخر إزاء مرض فاطنة ومَرَده هو العالم السفلي (الجن-الساكن) والحل في نظره هو (الرقية_الزيارة)..ومن الممكن أن يكون العنوان قد قصد به صاحبه إشراك المتلقي الذي ينظر لهذا المرض من زاوية غير صائبة وتصحيحه لتلك المغالطات التي يتبناها..وهذه كلها تبقى فرضيات تحتمل الصحة والخطأ.. وللحديث عن الجوانب الجمالية للعرض نذكر :

لا يتوفر وصف.

_جانب السينوغرافيا المكونة من بناية داخلية لبيت العائلة، والذي يتضمن طابقا علويا والآخر سفلي، تحيط بها نوافذ شفافة تظهر ما يوجد بالداخل، ثم بهو مفتوح يتكون من أريكة وطاولة وربما كراسي، أما عن لون البناية فهو الأبيض وهنا يمكننا أن نتوقف قليلا لمعرفة السبب الذي جعل ابراهيم بن خدة وهو سينوغراف العرض أن يختار اللون الأبيض دون غيره من الألوان، نجيب ونقول نقلا عن أحد أساتذتي الذي غمرني بمعلومات تخص هذا الجانب وغيره، أما عن إختيار اللون الأبيض فلكونه يمتص الألوان الأخرى ويأخد صبغتها، وأما عن تلك النوافذ فمنذ الوهلة الأولى يُتوقع أنها ستتضمن مشاهد موازية لأحداث العرض، وقد تم كذلك توظيف خصيصة المابينݣ بشكل باهر يختزل من خلاله مراحل حياتية للأم فاطنة.. وإدراج عبارة: “الزآيمر ليس مجرد نسيان”.

_جانب الأحداث فقد تميزت بالموقف والموقف المضاد.. _ جانب الحوارات فقد إرتكزت على خصيصة كسر أفق الإنتظار -التوقع-، كما جاء في ثلاثة مواطن

# أولها: حين كان الجمهور منذمجا مع بوح الإبن توسطته صرخة صاحبة صدرت من الأم..

# ثانيها: إسترسال البنت في قول كلام جعل الأب يغضب ويحمل سكينا مما جعلنا نتيقن أنه سيقدم على إرتكاب جريمة في حق صاحب الدكان التي كانت الأم تقتني منه ما تحتاجه من طعام..، وهنا يكسر توقعنا فيستعمل السكين لتقطيع البطيخ معبرا عن حلاوة مذاقه..

# ثالثها: توقع المتلقي حين رمي الأب لحبة البطيخ أنه قد صدم من كلام إبنته في حين نجده قد صرح قائلا “باغي نتجوج”..

_ جانب المكياج المسرحي فقد إستعل بحرفية وإثقان بالغين، وهذا يبدو واضحا في ملامح الأم فاطنة كشخصية مسرحية، والحال أن الممثلة لازالت شابة..وهذا الأمر يقاس على الشخصيات الأخرى..

_ جانب الأداء كان عالي الدقة من حيث تشخيص الممثلين لأدوارهم، فقد لا تجد بياضا داخل العرض، ولا تجد مجانية، فالحركات والوقفات مضبوطة.

_جانب علاقة الشخصيات ببعضها، فقد كانت جد مشحونة، مع وجود صراعات نفسية داخلية وخارجية..

_جانب الموسيقى كانت تتناغم مع أحداث العرض، ولا أبالغ إن قلت أن لها الدور الكبير في إندماج المتلقي مع العرض ووصول المشاعر والأحاسيس بها..

إستنادا إلى ما ورد أعلاه يمكن أن أعيد العبارة التي ما فتئت أرددها حين مشاهدتي لأي عرض باهر يستحق المشاهدة والتنويه وهي “هذا هو المسرح بقواعده”.

العرض المسرحي كان من توقيع المبدع هشام الغفولي نصا وإخراجا، السينوغرافيا كانت من أشغال الفنان إبراهيم بن خدة، أما عن التشخيص فكانت في شخصية الأم فاطنة الفنانة كنزة فركاك وهي تلك المبدعة الدقيقة في أدائها، أما في شخصية البنت فنجد المبدعة سهام لحلو كما عهدناها في عرض حياة المامون، وفي دور الأب فنكون أمام ذلك الفنان ذو الصوت الجميل والأداء بكاريزما حازمة نعم نتحدث عن سفيان الملولي، ولا ننسى الفنان والمبدع الكوريغرافي سعيد الودغيري المؤدي لشخصية الإبن المثقف/العميق.. كما لا يمكننا أن ننسى جنود الخفاء لهذا العمل الذي صنع بحب..

*هذا العرض المسرحي ينتمي الى صنف الملهات مع تضمينه ببعض الوقفات الكوميدية.

 

 ** عثمان بنحدوا عوالم/ طالب مسرحي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت