عاشق الصمت .. المبدع سعيد سلامه.. / بقلم : يوسف الحمدان
الصمت هو بلاغة المعنى والدلالة في الجسد والإيماءة والحركة، وخاصة ما إذا اتصل هذا الصمت بالمسرح بمختلف فنونه وألوانه وأنواعه، وتعالق مع مختلف القضايا فيها، وتقاطع مع مختلف الرؤى والاتجاهات الحداثوية وما بعد الحداثوية في هذا الكون، وتفاعل مع كافة أنواع التلقي بلغته الاختزالية المعبرة والدالة.
هذا الفن يعتبر واحدا من أصعب الفنون المسرحية والكوروغرافية على الصعيد العالمي والعربي خاصة، ويعتبر الفنان الفلسطيني العربي العالمي المبدع سعيد سلامة الذي سبق وأن شارك بمملكة البحرين بدعوة من برنامج المجتمع بمجلس التنمية الاقتصادية وتنظيم مشترك بينه وبين وزارة التربية والتعليم بتنظيم دورة تدريبية لمدرسي ومدرسات النشاط المسرحي في الفن الصامت (البانتومايم)، يعتبر أحد أهم من تعرش سدة هذا الفن في وطننا العربي، وأهم من تميز فيه وأبدع، وأهم من سجل حضورا دوليا لافتا فيه، بل ويعتبر المؤسس الأول لمهرجان التمثيل الصامت الدولي والذي يديره منذ خمسة عشر عاما، والذي من خلاله وبفضل مؤسسه سعيد سلامه، تعرف كثير من فناني البانتومايم وجمهورهم في وطننا العربي على هذا الفن الصعب الذي لم يكن في وارد تاريخ مسرحنا العربي يوما.
لقد شكل هذا الفنان المبدع، تمثيلا وإخراجا وتأليفا وتدريبا، موقعا مهما لوهج فني نادر وفريد في خارطتنا المسرحية العربية، بزغ فجر جذوره الأولى في منبت رأسه بمدينة شفا عمرو قضاء الناصرة بفلسطين، وانطلقت أفرعه وأجنحته منها لتصبح القضية الفلسطينية مشاهد وشواهد حية ومؤثرة على خشبات المسارح العالمية، وكان معلمه ومنطلقه الأول الذي تأثر به أيما تأثر عملاق مسرح البانتومايم الفرنسي العالمي مارسيل مارسو، ليستمد منه وبعده ضوء الريادة في مسرح البانتومايم في وطننا العربي.
الفنان سعيد سلامة عندما التقيته ذات سانحة في مهرجان الهيئة العربية للمسرح بوهران الجزائر، كنت في حقيقة الأمر أمام كائن هيولي سائل متفلت، اختزل الحياة والطبيعة والقضايا كلها في جسده، فكان كل عضو فيه يحيا بمعان ودلالات متعددة، وكل إيماءة تختزل أجسادا ورؤى وأفكارا، جسده رؤيا البلاغة في الصمت والتعبير من خلاله، جسد مغمور بسيرة الصمت وأحداثها، جسد يصبح المسرود فيه حيا ومجسدا، كما كان الحال في مسرحيته المعدة عن رواية (رجال في الشمس) للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، والتي تطرق أبواب تأثيرات نكبة فلسطين سنة 1948 على الشعب الفلسطيني، والتي تعتبر صرخة صامتة أطلقها عبر كل المسارح التي قدم فيها هذا العرض، وجسدها عبر الموسيقى والرقص التعبيري (الكوروغرافيا).
ومساحات التألق لدى الفنان المبدع سعيد سلامة تتعدد وتتنوع، فقد قدم الأعمال البانتومايمية من خلال الرواية، كذلك قدم أعمالا كوميدية ساخرة تقترب من روح مارسيل مارسو وشارلي شابلن، وأعمالا أخرى للمسنين وللأطفال في المدارس وفي الروضات، بجانب أعمال أخرى قدمت في المكتبات العامة لطلبة المرحلة الابتدائية تحت عنوان (ساعة قصة) كان هدفها تشجيع القراءة وجذب الطلاب للمكتبة والكتاب منذ الصغر.
ونظرا لبراعته وإبداعه في هذا الفن، أصبح سعيد سلامة واحدا من أهم المؤطرين في مجال البانتومايم على الصعيد العالمي، فعلى خشبات مسارح ترونيوم وأوسلو في النرويج وستوكهولم في السويد، نظم ورشا في مجال البانتومايم لممثلي وممثلات «المسرح الأسود» النرويجي Nordik Black Theatre، كما قدم عروضا بمشاركة فنانين من مسرح «سيبيلا» النرويجي مع ممثلين من عدة دول: النرويج، نيوزيلاند، وجورجيا.
وجهود سلامة لم تتوقف عند العروض والورش فحسب، إنما تتجاوزها إلى الاحتفاء بكبار فناني التمثيل الصامت بتنظيم أمسية خاصة؛ تكريما لذكرى أحد كبار فن التمثيل الصامت، الفنان الفرنسي مارسيل مارسو، صاحب إحدى أشهر مدارس التمثيل الإيمائي في العالم، الذي طور فن التمثيل الإيمائي وأوجد بعدا آخر لحركة الجسد.
لقد جعل الفنان سعيد سلامة من منبت رأسه بشفا عمرو بفلسطين واحة عالمية لفن البانتومايم، يقصدها المسرحيون وجمهور البانتومايم من مختلف أصقاع العالم، من مقدونيا وأرمينيا، وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلغاريا، والأراضي الفلسطينية المحتلة.
الفنان سعيد سلامة، طرق أبواب الحكايات السردية الصعبة، روايات وألف ليلة وليلة والقصائد الحداثية، ليهبها روحا لا تقل بلاغة وعمقا بصمتها عن اللغة المسرودة إن لم تتفوق عليها بفعلها وتجسيدها حية ومؤثرة.
إنه عاشق الصمت حقا وبامتياز. وواهب الروح لأجساد حار صمتها على خشبة المسرح .. فما أحوجنا إلى أن نستثمر هذه التجربة الإبداعية الثرية في ورشنا المسرحية في وطننا العربي .