نقاد الترويض واللجم .. صرخة سادسة في وجه النقد المميت/ بقلم : يوسف الحمدان
اعتادت ” العادة ” الأخلاقية السائدة في المجتمعات العربية الترويض منذ زمن بعيد جدا حتى صار أحد اهم ” ركائزها ” و ” ضروراتها ” الاجتماعية والرياضية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية، فالخيل الجامحة ” تُعسف “حتى لا تودي بمضمرها إلى مصاب جلل أو إلى الهلاك وحتى لا تنحرف عن مسارها في مضمار السباق، وأحيانا يتعرض ذكر الخيل إلى الإخصاء أو يُخصى إن صح التعبير حتى لا تستهلك طاقته إحدى الإناث الجميلات أو اللعوبات في الإصطبل أو في مضمار السباق، أو حتى لا يتشوه نسله جراء ” تحرشه ” بإحدى إناث الخيل المنحدرة من سلالة ” العوام “، والطفل المشاكس الشقي وبالذات كثير الأسئلة والحركة ” يُروض” سلوكه وتُروض طاقته حتى لا يسيء الأدب إلى أهله وصحبه والمدرسة والأقارب والدين والصحابة وغيرهم، وحتى لا يعرض الأقربين إلى حرج وحتى لا تطال أسئلته المقدسات والذات الإلهية، وحتى يحترم أولو الأمر والآخرون ” استكانته ” والتزامه بالسائد من الأعراف والتقاليد والعادات .
كذلك الاقتصادي الذي تكشف ” حساباته الجانحة ” ما دخل من المال على أهله وما صُرف بدقة متناهية ” يُروض ” حتى لا يعرض أهل المصلحة لمساءلات عسيرة وحتى لا يفشي بحذقه بؤر الفساد وأسباب الكساد وحتى لا يتعرض مستقبله لنهاية لا تُحمد عقباها، والحال ينطبق أيضا على السياسي النابه، فإنه ” يُروض ” حتى لا تنفضح أمور “المتآمرين” على مصالح وخيرات العامة وحتى تنطلي الخدع والأكاذيب والدسائس والتخرصات عليها وحتى لا يثير البلبلة والاضطراب والفتن في البلد، وحتى لا يفقد منصبا قد يتبوأ به مكانة رفيعة في المستقبل.
والحال نفسه ينطبق على العالِم الشغوف، فإنه يُروض حتى لا تقوده أهواؤه الفاحصة المجنونة إلى علم لا يعلمه بعد الله ورسله والملائكة والأولياء إلا هو، وفيه ما يثير الريبة ضده ويحفز العامة على الشك فيمن يتستر على أمر يعني عقولهم ورؤاهم ونظراتهم وحتى لا تنسب براءة اكتشافه واختراعه وابتكاره إلى غيره .
وكذلك الفيلسوف، وهو المستعصي على الترويض برؤاه الذاهبة نحو قراءة الوجود والتشكيك في واجده ومكونه، تُنصب له وفي دروبه أشد الفخاخ قسوة حتى يقبل طائعا بالترويض .
كذلك اللغة ” الفاضحة ” تُروض حتى لا تذهب في مسالكها إلى التحريض والتأليب والشطوح بالمخيلة إلى مدى يستفز أهل الوصاية على الحرف والكلمة والإعراب والتشكيل والقواعد والنحو والحركة والنقطة، وحتى ” يستقيم ” مراد ” لسان ” العرب ويستقيم معه مداد أهل اللغة والتاريخ وفق ذاك الهوى .
ولأن عادة الترويض تضمن للمروض الاستقرار والاستمرار و” ثبات ” الحال والمحال، فإنه لا ضير في أن يتخلى “المُروَّض” عن ذاكرته وطاقته ومخيلته، ولا بأس إن كان هو أحد المتخلين عن التفكير في الترويض والعسف والجموح معا .
كل هذا الركام من الترويض الإخصائي الفظيع والشنيع والبشع يقع بأقصى أثقاله وأحماله على المسرح بفضل من رسموا طرق التواصل معه وهندسوا بقسرية مرعبة طاقة ومخيلة من انتموا إليه حبا في أغلب معاهدنا وأكاديمياتنا المسرحية العربية، لذا لا غرابة في أن يكون الطريق الغالب في مسارحنا العربية يشبه بعضه، سواء كان في التنظير أو التطبيق، ولا غرابة أيضا في أن تقف أغلب تجاربنا المسرحية عند نقطة قهرية لا يمكن تجاوز حدودها وأسوارها وعواقبها، فمتى ينفض هذا المسرح هذا الركام الثقيل من الكوابح الترويضية والقهرية عن عاتقه ؟ متى تكون خيل المسرح في مقدمة العربة لا خلفها ؟ متى يتخلص هذا المسرح المرهَق من هذه الدروس التكبيلية الخانقة لطاقته ومخيلته؟ متى يحسم أمر حريته بعيدا عن مخازن السحل والإخصاء؟ متى يصبح المسرح أول أسئلة الحرية في الكون وأكثرها إشكالية؟
الحرية ألا تخجل من نفسك حين تواجه قيودك، حينها تكون جديرا لأن تصبح ذلك الحصان الذي يصعب أن يروضه أحد وهو ينطلق في مضمار المسرح دون لجام ..
وفي ساحتنا المسرحية العربية لاحظت كثيرا من النقاد يمارس هذا الترويض واللجم للطاقات المسرحية الخلاقة والمشاكسة عبر وقوفه بتعنت وصرامة في وجهها مفصلا بملاحظاته العقيمة العرض الذي ينبغي أن يكون في طليعة العروض على مقاسه الشخصي الهزيل ، رافضا أي تجاوز له .
فخشية على المسرح من هؤلاء المتناقدين المروضين اللجامين ينبغي مواجهتهم بالحرية الخلاقة، فالمسرح هو الإبن الشرعي للحرية إن لم يكن هو نفسها،، ففيه تلتقي كل الفنون والعلوم والرؤى وفق شروطه هو، شروط الحرية التي لا تعلو عليها شروط ..
إنه كمجنون توفيق الجبالي ذلك الكائن الحصان الذي يرتقي حلكة الظلام ليفسح ضوءا فريدا في هذا الكون ..