“أوكسيجين” (لا أحد يرى الأشجار خلف النافذة) مجموعة نصوص مسرحيّة..) للكاتب الجزائري ..محمد الكامل بن زيد) نصوص متاهة وانتظار – تمظهرات من تجليات الهوى / قراءة :عقيل هاشم
شهدت المناهج النقدية ما بعد البنيوية الاهتمام بالمنهج السيميائي -سيمياء الاهواء الى جانب سيمياء الفعل –لمنظرها غريماس والتي اهتمت بالأهواء والعواطف والرغبات بدل الافعال والعمل، مستحضرا غريماس هذا الجانب الذي أقصته المناهج النصية، وهو ما سنحاول مقاربته في المجموعة المسرحية “اوكسجين” (لا أحد يرى الأشجار خلف النافذة) للكاتب “محمد الكامل بن زيد “والصادرة عن هيئة المسرج الجهوي، فإلى أي حد تحضر الأهواء امام تراجع افعال الشخصيات وتأثيرها دراميا؟ وكيف يمكن للأهواء والعواطف أن تسهم في بناء النص الدرامي؟ تهدف هذا الدراسة النقدية إلى محاولة استقراء الانساق المضمرة والعلامات الإشارية في نصوص اوكسجين وفق مقتضيات، وآليات اتجاه سيميائية الأهواء، الذي ينبثق من فرضيات النظرية السيميائية العامة، المجموعة المسرحية “اوكسجين” (لا أحد يرى الأشجار خلف النافذة) للكاتب “محمد الكامل بن زيد “المجموعة التي تقع في 80 صفحة وتضم مجموعة من المسرحيات هي: “أوكسجين”، و”إنغوما” (ساعة الشيطان الرملية)، و”العظيم”، و”عمواس” (الغراب الذي سرق ظل الشارع)، ينضوي تجت هذا العنوان نصوص تنتمي الى ما يسمّى بــ “مسرح العبث, ان الرؤى الاستعارية في مسرح العبث والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعالم أحلام اليقظة، والنقطة المحورية لهذه الأحلام غالباً ما تكون حيرة الكاتب وارتباكه الذي ينبع من حقيقة أنه لا توجد إجابات لأسئلة وجودية أساسية في الحياة. وخير مثال على ذلك النص المسرحي الأكثر إثارة للجدل، في انتظار غودو- هو ما تتبعه جمع كبير من الكتاب لأعمال هذا الكاتب كونه استشراف لقراءة المستقبل . مسرحية بيكيت «في انتظار غودو»، والتي تدور ثيمتها الرئيسية في انتظار غودو الذي لم يأت ظل الهاجس الحتمي للخلاص الانساني، إن هذا هو وصف دقيق لحالة الإنسان المستلب , بينما حاول جيل الشاب ان يقترب من هذا العالم من خلال ممارسة التجريب حيث عمد الى تقبل هذا النوع من المسرح – مسرح العبث – ومارسه، وقدمه بشكل جديد من شأنه تجاوز القوالب النمطية التقليدية السائدة والتي تعكس فهمهم المتزايد من وجوده.
ان دراما العبث تسخر من أنماط التعبير الجامد، وان اللغة المستخدمة في كثير من الأحيان تثير للسخرية، يشار إلى النص المسرحي إنه مجرد هراء وعبث, لذا فمسرح العبث هو توصيف الحياة الإنسانية والفراغ الذي يعيش فيه وشرطه الوجودي المحكوم باللاجدوى. وفي هذا المعنى يجب على العالم أن ينظر إليها على أن هذه الحياة هراء. وهذا ماجعل من الكتاب المسرحيين يراودهم الإحساس بالقلق والتوتر والحيرة إزاء ما يجري في العالم. وعودة الى المجموعة قيد البحث والدراسة “اوكسجين” تعالج هذه المجموعة مواضيع مختلفة من خلال أحداث تكشف جملة من الانفعالات المتناقضة،حفريات الذات , الذات والاخر , الجندر , الحلم …الخ . اوكسجين” مجموعة نصوص مسرحية حافلة بالانفعالات المتناقضة (الغضب والشك والانفصام والموت والحزن والشفقة…الخ)، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص، وقد استطاع الكاتب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا ويقدمها للقارئ طازجة شهية سهلة الهضم بالرغم من رمزيتها العالية وربما هذا سبب ان تكون مستفزة جدا..
النص الاول: اوكسجين العنوان هو العتبة النصية الاولى وقد توسم بها الواجهة الاشهارية الرئيسية – اوكسجين يهيمن على النص ابعاد وتأثيرات الاوبئة على الانسان وهذا ما جعل العنوان –جدل ثنائية “الحياة/الموت” حاول الكاتب تاريخيا من قراءة حادثة تاريخية ظهور الطاعون في احدى مدن فلسطين –عمواس- زمن الخليفة عمر بن الخطاب وراح ضحيتها الكثير من السكان , وحاول الكاتب اسقاط هذا الحدث على الحاضر بوباء كورونا ودائما الانسان هو مادة المحرقة ووقودها، وما صاحب ذلك من مشاعر كارثية داخل الفرد/المجتمع , نمت شيئا فشيئا نتيجة الصدمات النفسية والتي أصبح عليها الإنسان كئيب وحزين. حتى أصبح الحدث تربة خصبة لسرديات الكراهية والعنف والموت، غضب مضمر وقد تجلى في تناصات من التاريخ والاساطير , وربما استفاد الكاتب من تلك التناصات مع الكتاب المقدس – مقتطفات من سور القران لتحقيق المصداقية لدى المتلقي الباحث عن الحقيقة. بالإضافة الى حضور مكملات للشخصيات الرئيسية لها ذات التأثير مثل : الشارع والمطر والعصافير والعش واعمدة الانارة والغراب …الخ – كلها جعلها الكاتب حاضرة في ثنايا الخطاب “الانساني- الديني للنصوص. وهكذا يغدو الرمز الديني بحمولته الإيحائية دلالة على الحدث المضمر في الوجدان من سوء أوضاع الإنسان –التي لاتنتهي -، إحساس نما في منطقة الغياب اللاشعور، ليتحول إلى منطقة الحضور الشعور، وباصرار.. انعكست تلك التداعيات على احلام البشر وترهل العلاقات الإنسانية بينهم التي أثارت حنق جمعي، هكذا يغدو الغضب والرفض موقفا من العالم، وهو اخر أسلحة الكاتب لمواجهة قبح العالم الجديد. اعود الى نص-أوكسجين إذ يختار المؤلف المكان المتكون من غرفة في مشفى مع مجموعة من المرضى الذين ضاقت بهم السبل وتعسر عليهم المكان ليكونوا ضمن ثلة يكاد الاوكسجين ينقطع عنهم وتضيق بهم الحياة وهو صورة للموت _ ومن المفترض المستشفيات هي– مكاناً للشفاء والتعافي تصبح اداة للموت والقمع . الشخصيات: ( الممرض، سائق سيارة الاسعاف، مريض 1، مريض 2، طبيب.” واخيرا ان الصراع الدرامي المتمثل في خلق حوار عبثي بين المرضى والعاملين في المشفى ولعدم انقاذهم هذه الاعداد المهولة تسبب اختناقا لعدم تقبل ما يجري، الكاتب جعل من المرضي الضحية امام الجزارين، بمعنى اراد ان يخبرنا ان المستشفيات هي اماكن للقتل. ليعالج جدلية الضحية والجلاد في عمليات التعذيب النفسي، وفي ظل الحضور الطاغي للعنف وهي كلها أماكن رمزية بامتياز عن القمع، الغرائبية واللامنطقي، والحرب.
النص الثاني انقوما “ساعة الشيطان رملية : مثال آخر عن الصور الرمزية في نصوص العبث نرى في النص لقاء بين رجل اول يقابله رجل ثان المسافة بينهما مسافة الرصيف في اخر الليل وهذا ما يجعل الحدث شبيهاً بالأحلام والكوابيس ومن طبيعة الأحلام والصور الشعرية أن تكون غامضة وأن تحمل في نفس الوقت حشداً من المعاني ومن ثم فإن من العبث أن نسأل ما الذي ترمز إليه صورة صندوق الساعات هذه الة الزمن تثير في النفس المبرر لأخطاء سابقة، أو لرمز شر ما يتقيح ويزداد سوءاً مع مرور الأيام. ويمكن أن ترمز الصورة لفكرة واحدة من هذه الأفكار العبثية التي تمتلكها من غير شك.
انقوما “ساعة الشيطان رملية.. ربما النص مستل من هواجس الفزع الدرامي, حكاية الشيطان مع الاخر كونه ايقونة اسطورية, هي من سرديات الهامش وخرافته, حيت المكان والزمن خارج منطقة الامان. الزمن الذي يجعل هذا الوقت المحدد من الليل يثير كل هذا القدر من الخوف والافتتان والحماس داخل نفوس البعض, زمن تحدث فيه أغلب الظواهر الخارقة, ما يسمى “ساعة الشر”، وتحكي الأسطورة عن روح شريرة تطارد المتجولين ليلاً، خاصة إذا كانوا وحيدين، حيث يتمثل لهم الشيطان. شخصيات العمل –الاول –الثاني, مع اكسسوارات صندوق عليه مجموعة من الساعات بالإضافة الى صقر معصوب العينين وايضا باب يفتح ويغلق باستمرار. معطف معلق ومطرية دلالة للانتظار والخشية من البلل.
لقد استطاع الكاتب في نصه ان يسترق لب القارئ، ويدخله في عبثية الواقع، ليؤكد لنا أننا امام جدل حوار فلسفي عن مفهوم الانتظار ودلالة الطريق، وليس هذا فحسب، بل انه يجعل القارئ يتعاطف ويشعر بالحنين إلي الماضي ونبذ الحاضر،
النص الثالث: العظيم فان نص العظيم يتحدث عن ثيمة الحلم واي حلم اعرج برجل معاقة, الممثل الحالم حين يجد نفسه في فضاء غرائبي , حيث الكوابيس والهلوسة سيدة الموقف, الشخصية الرئيسية تعاني الانفصام الذي أصبح خاصية الوجود الإنساني، وهو لا يتحدث عن ذلك من خلال محتوى النص فقط، بل ومن خلال لغته. فالنص يزاوج بين لغة الأدب ولغة الواقع بالشكل الذي يعبّر عن هذا الانفصام، وبقدم لغة الواقع على أنها الأقدر على التواصل ونقل حقيقة العالم وتراجيديا الحياة. لغة الحوار هي لغة تقول كل شيء، وتنتهك لغة المقبول والمستحسن، لغة تتعرّى وتنزع الأقنعة عن الوجوه التي تدّعي العفّة والطهرانية،
النص الرابع: عمواس-الغراب الذي سرق ظل الشارع الشخصية الرئيسية ذات 1-ذات2 , رجل وامرأة تسكن عمارة فارغة من سكانها طبيعة العلاقة قائمة على المصلحة –اخذ وعطاء ,هو يفتح كتاب يقرا به ويشغل نفسه بالنظر الى التلفزيون وسماع الاخبار والتدخين وهكذا.. والحديث عن السيارة المعطوبة وخلو المكان من بقية السكان ,ايضا يعود الغراب للظهور ثانية , واضح النص قائم على عطب العلاقة الزوجية وصعب استمرارها بسبب انه لا يوجد افق يلوح من استمرار الحياة ونجاحها في ظرف مضطرب. المخرج الوحيد الخروج الى الشارع ,لينتهي الحل الى خروج راس المرأة من النافذة حيث الحرية مع النظر الى سرب الطيور . ربما هذ الفشل في العلاقة الزوجية تعود إلى الخطيئة الأصلية، وخيانة العهد الذي قطعه الإنسان على نفسه والذي شغل الرجل بالحفاظ عليه، بينما دفع المرأة شغفها بالتفاصيل الحسية إلى الحنث به. فالخيانة بالمعنى المجرد والفلسفي، وليس بالمعنى الأخلاقي البسيط، جزء أساسي من أجزاء هذه اللعبة المستمرة والمقدسة. يحرص الكاتب على لفت انتباه قارئه إلى هذا البعد الفكري أو الفلسفي للحوار الذكوري من خلال تصديره بمقتطف استهلالي دال من حوار يتداخل فيه الفلسفة والتصوف .
في هذه المجموعة المتميزة. يجب ان نعي أن لكل حاسة من الحواس الإنسانية ثقافتها أو تدريبها الضروري اللازم لما في الحياة من قسوة السمع والبصر , المرأة في هذا النص هي تجل من تجليات المرأة المتعددة التي تتجسد في النص المحوري في هذه المجموعة “اوكسجين”. وهي هنا ظلت ترزح تحت هاجس الكينونة والهوية الملتبسة هواجس الزمن والشوق إلى التحقق المستحيل. فما أن نكمل قراءة المجموعة حتى نكتشف أنها تتغلغل كذلك في أكثر من نص وكأنها المعادل الموضوعي لخذلان العلاقة بين طرفين احدهما خاسر دائما. اذن هذا النص قبل هذا كله هو حكاية الفرق الجوهري بين الرجل والمرأة، او القدر المحكم الذي يربط مصير كل منهما بالآخر، ويربط وعي كل منهما بالآخر. وهي التي تصوغ شروط العلاقة الحتمية بينهما. وهي علاقة تبدو لنا في هذا النص وكأنها علاقة مجردة، ولكنها ليست مفصولة بأي حال من الأحوال عن السياق الاجتماعي الذي تدور فيه. من ناحية، كل هذه الحواس الإنسانية في العلاقة بين الطرفين ضرورية قبل الشروع في الفعل الدرامي ذاته الذي يتطلب بالتالي من قارئه تدريبا مماثلا لفك شفراته. وهذا الذي يعي عمل الحواس داخل الحدث الدرامي هو الذي يتيح للقارئ أن يدرك ما تضمره نصوص هذه المجموعة.
نصوص المجموعة تلك هي استقصاء بصري بالغ الرهافة والشاعرية. يعيشها كل فرد في هذا الزمن الردئ. وأن هذا الاستقصاء مشغول بهاجسين أساسيين: أولهما هو هاجس الكينونة الزمن/الموت، وثانيهما هو الهاجس الوجودي الإنساني ذاته، وهما هاجسان مترابطان ومتداخلان في عدد من نصوص هذه المجموعة بحيث يصعب الفصل بينهما في كثير من الأحيان. لأن الزمن الذي يتحقق عبره الوجود هو الوجه الآخر للزمن الذي يفضي إلى الموت.
وإجمالا، إن هدف الكتابة عند الكاتب هو أن يقول هذه البنى اللامنطقية المشروخة لوضع إنساني يخلق الإحساس بالقلق نحو الوجود: شخصيات تخفي التمزق والانقسام، أحداث لامعقولة، فضاءات اجتماعية ونفسية لا تعرف التناسق والانسجام …والكتابة تقول ذلك كلّه بسخرية سوداء تحطّم اسوار المحظور، وتفجّر منطقه الزائف ومعقوليته المصطنعة، وتكشف النقاب عن المضمر .
فان نصوص اوكسجين تقول مصير الإنسان وتصويره بخيبة امام ما يجري، حين يجد نفسه وجها لوجه مع الانتظار غير المجدي، ويجعله يعيش الألم بشكل يوميّ فظيع، عالم مخيف ومرعب وغير منطقي، يفقده هيبته ومكانته في الوجود، ويجعله يحسّ بعزلة قاسية وغربة أكثر إيلاما. ومن خلال هذه النصوص تتأسس كتابة تتجاوز مسألة الذاتي والموضوعي، الكاتب وشخصياته المتخيّلة، تقدّم أشكالا تعاني انفصام نفسيا، تبدو كأنها أكثر غرائبية ومليئة بالتناقضات والمفارقات واللامعقول، واقع افتراضيا وان بدا واقعا حيّا فانه يخفي موتا مرعبا ولأننا هنا بإزاء عالم غرائبي يساوي فيه ما حدث ما لم يحدث، ويعادل فيه النفي الإثبات، واليقين فقدان اليقين.
فلابد للقارئ أن يدرك كنه المضمر والمسكوت عنه، ويعي ما تريده كل شخصية ويدرك مقاصدها. وأن للالتباس نفس بهاء الوضوح، فالكتابة الجديدة قد طرحت عن أفقها بالشك والالتباس. وفن الكتابة لم تعد كتابة تقلد الواقع، ولكنها تستبقه،.إنها كتابة تحرص على ألا تفسد التباسات الواقع المغوية، وتعول على الوعي المضمر كثيرا، وتنأى عن الإفصاح عن هذا المضمر حتى يبقى سادرا في التباساته. لأنها لا تسعى لهدهدة القارئ أو إراحته، وإنما تود أن تقلقه وتحثه على التفكير. والكاتب هنا يعي هذا الدور المقلق للكتابة الجديدة..