أنا على قيد الخشبة/ د. محمود سعيد
لفظ (أنا) صارخ فى أنويته وتعاليه الذاتى، على نحو يتطلب فعل مسرحى ذو توجه خاص ونوعى نحو الاستغراق فى عمق التجربة الذاتية وخفاياها وطبقاتها وظلالها تجربة المسرحى وعلاقته بالخشبه، المسرحى بشكل عام بما يحمل من الحضور الذاتى المباشر والصريح فى منطقة (البوح المسرحى) حيث الانتقال من (فضاء الأنا) إلى فضاء التجربه وما تحققه من المصالحة والمزاوجة والتوافق هى تجربة تخوض فى حياة المغامرة والقائمة على رصد الحراك الذاتى المسرحى ولخشبة المسرح وما تحتويها.
والتى تنهض على أسلوب انتخابى، انتخاب اللحظات المسترجعة من ذاكرة حية واحدة وهى لا تكتفى بحصيلة الاسترجاع وعرضه كما يرد من الممكن من الذاكرة، وإنما الاسترجاع من الرؤى والقيم والأفكار التى تنتشر على مساحة اللقطة بشخصيتها ومضمونها وطاقة تعبيرها وما يحيط بها من سحرالقراءة والأداء والنقد كل ذلك مشروط بالبقاء على قيد الخشبة، على قيد المسرح للولوج إلى ميدان المسرح الواسع بم يقدمه من قناعات ورؤى وقيم .
هى تجربة لأكثر من طرف ارتضى طوعاً أن يمارس إبداعاً متبادلاً.
من ممثل تأتى استنارة الجسد من أنوار مسلطة عليه يكون هو مصدر تلك الإستنارة التى ينرها ويغطى بها المساحة من حوله.
إنها تلك الكلمات التى تشكلها أعضاء ذلك الجسد مجتمعة والتى تمثل الوميض الذى يبرق من حوله ليحيطه بهالة منيرة غير محددة الأبعاد إنها محركات وآليات وأجهزة ذلك الجسد التى تصنع وتنتج من امامنا تلك الكلمات المنطوقة وغير المنطوقة من خلال الباعث النفسى الذى يولد استثارة انفعالية تترجمها العناصر المكونة للمسرح وللجسد بدقة متناهية بالآداء الحركى والتنفسى واللفظى.
هي كلمات غير منطوقة! إنها اقوى الكلمات وأبلغها وأصداها وهى التى نراها قد كُتبت على جسد مؤديها وكأنما أصبح هو غائباً أو ذائباً فى النور المبسوط من أمامنا أو ربما عجزت أعيننا نحن عن ادراك ملامحه لأن الاستنارة كانت سابقة عليها وتركه على قيد الخشبة، قيد الوجود الفعال، قيد مبدع هو مؤلف ومخرج مسرحى ورسام إنه المسرحي لا يتبع الأسلوب التقليدى للكتابة المنمقة التى تسطر العبارات بأسلوب قواعدى رصين يحفظ للجملة عناصرها المنصوص عليها القارئ لا يضع نقطة بنهاية الجملة لتختم المعنى ذلك لأن الجملة تظل منفتحة على العديد من المعانى فالكلمات متشابكة الأحرف متباعدة للغاية بحيث تترك للقارئ مساحة وافية لإبداء تخيله إنه لا يسرد نصاً أدبياً لكى تتفق معه أو تتعارض معه، بل لتعيد كتابته مره أخرى عند كل قراءه جديدة أو عند كل مشاهدة وتأمل جديد، فكلماته وعباراته لوحات قد تقرأ حرفياً او يكون لها عدة تأويلات وفقاً لمتأملها لمتلقى عادى أو ناقد فنى متخصص لتتحول أحرف المسرح لديه إلى الأحرف التى يخطها بريشته يجتهد ليفكهها ويخلطها ببعضها البعض ليبتكر منها أحرفاً جديدة على الأبجدية إنه يحدث فزع وارتباك فى المادة الكلامية أو ربما أراد أن تكون نفس تلك المادة هى التى تحدث لدى القارئ حالة من الفزع الفكرى وارغام الجميع على البقاء على قيد الخشبة.
وقد تكون احدي صور ذلك الفزع مستمرة باستمرار تصفح وقراءة ذلك العمل، فقد يرى القارئ أنه متفق تماماً مع بعض العبارات، وعبارات أخرى قد يرفضها وبعضها لا يجد له رابطاً ظاهرياً بغيرها، فضلاً عما قد يجده غير مألوف بالنسبة له، ذلك أسلوب متعمد من المسرح فهو لا يملى عليك نظريات مسرحية دقيقة لنقرها ولا يسرد لك نصاً منمقاً ينتهى بكلمة خاتمة، ولكنها دعوة لإعمال الفكر فى ثنايا العمل من خلال المسرح الذى أوكل إليه مهمة إحداث تلك الإستنارة الفكرية و المادة الكلامية وعلى إظهار الإنسان خارج الإنسان خارج جسده مضحياً بإنسانيته.
نحن أمام فرضية شديدة الاهمية، هى أنه وجب على كل مسرحى أن يبقى على قيد الخشبة لايغادرها كاتباً أو مخرجاً أو مثلاً أو ناقداً أو سينوغرافى كى تكرمه الخشبة ذاتها لابد له أن يبقى علي قيد حضورها، وعلى قيد وجودها.
إذن العامل الأهم هنا هو عامل الوقت، الوقت الذى يسمح للجميع ويمنحهم فرصة البقاء على قيد الخشبة.
عن: النشرة اليومية للمهرجان القومي للمسرح ال 16، العدد: 6 اليوم: 2023/08/03