نص مسرحي: “مأساة محرِّك الدُّمى”/ تأليف: محمود أبو العباس

اللَّوحة الأولى

(فضاء خالٍ.. من زاوية المسرح اليمنى تنبعث حزمة ضوء.. تلقي بظلٍّ ثقيل على خشبة المسرح.. الظِّل يكبر.. في بقعة ضوء أخرى يدخل (الرَّجل) بملامح جامدة.. يرتدي بنطالًا مهلهلًا.. يبدو من مظهره أنَّه رجل عفا عنه دهره.. وئيد الخطى.. يتقدَّم إلى مقدّمة المسرح.. وبنظرة ثاقبة إلى عمق القاعة.. تراه يتمتم بكلمات غير مفهومة.. يتوقَّف.. يبتسم.. يرفع كتفيه ممتعضًا).

الرَّجل: أستأذنكم..(كأنَّه لم يسمع صوته.. بل يشكُّ أنَّ الآخرين لم يسمعوه).. قلت أستأذنكم.. تلفٌ نمى مع هذا الجسد.. أحسُّ أنَّ هيكلي مفرَّغ من أحشائه.. أحسُّه معبَّأ بالتّبن.. أو بالإسفنج.. شيء ما يتمطَّى في داخلي.. قدماي.. أحسّهما مسمَّرتان على أرض تؤرّخ لصفعات أدمت وجوه محبّيها.. ورأسي مليء بخيالات وأوهام تتدرَّب فيه خيول غير مدجَّنة.. دجَّنونا لزمان أصبحت فيه صفحات عقولنا بيضاء.. لا اختلاف.. ولماذا نختلف؟ فكلّ شيء يساوي صفرًا في المعادلة.. وعلينا أن نسلِّم بأنَّ كسر أذرعنا يعني فيما يعني أنَّه مزحة.. وإنَّ الهامات الَّتي وعدونا أنَّها لا تنحني.. ها هي تُداس بطرق شتَّى.. ارفع يديك لتحيَّة القاتل.. ارفع يديك لضمِّ القاتل.. قبِّله بكلِّ شوق السِّنين.. فالمعادلة تساوي صفرًا.. وطرفا المعادلة واحد.

(موسيقى تصاحب ثلاث بقع ضوئيَّة.. تنتشر على المسرح.. محدثة كماشة.. بثلاث فزَّاعات بشريَّة.. تشبه خيال الظِّل في أرض زراعيَّة.. يمثِّلها ممثِّلون).

فزَّاعة (1): والتقينا ثانية.

فزَّاعة (2): أهلًا.. بك.

فزَّاعة (3): غبت عنَّا كثيرًا.

الرَّجل: ها قد عادت قوى الزَّمان الخفيَّة.

(الرَّجل يفزع من الفزَّاعات ويحاول الهرب.. ولكن تلتقيه فزَّاعة (2)).

فزَّاعة (2): أهلًا.. بك.

(الرَّجل يردُّ عليه بحركة رأسه الخائف).

فزَّاعة (1): متجهِّم الوجه كعادتك.

الرَّجل: فسِّرها.

فزَّاعة (1): عبوس.. وجهك عبوس.. وما تدري أنَّ الوجه العبوس تلدغه الدَّبابير.

الرَّجل: ها.. فهمت.. ولكن ماذا أفعل.. فلا اعتراض على الخالق.

فزَّاعة (2): لِمَ أنت هكذا؟

الرَّجل: ولدت فوجدت هذا الوجه قد لصق بهذا الجسد.. أعترض؟

الثَّلاث: لا اعتراض.

الرَّجل: لا اعتراض.. لا اعتراض.. وكيف لي أن أعترض وقد حوَّلتم فمي إلى.. إلى.. ظهري.

فزَّاعة (3): (يصرخ به) لا تسخر.

الرَّجل: ما عرفت طريق السُّخرية.. بعد أن أصبحت أنا السُّخرية بعينها.

فزَّاعة (2): لم تتَّضح ملامحها في وجهك المغبر.. فنحن نريدك أن تبتسم.

الثَّلاث: أمرنا أن تبتسم.

الرَّجل: معقول!! ما المناسبة؟

فزَّاعة (1): كي تبدو سعيدًا.

الرَّجل: أنا…

الثَّلاث: (بقوَّة) لا تفكِّر.. ابتسم.

الرَّجل: بالأمر؟

الثَّلاث: كي تبدو سعيدًا.

الرَّجل: السَّعادة بالأمر.. حزن.

فزَّاعة (3): تقصد مضحكة.

الرَّجل: (يضحك ببلاهة ثمَّ يتوقَّف على ملامح حزينة) في كلِّ مرَّة يتقلَّص وجهي ضاحكًا.. فيزداد تجهُّمي.. بسبب الأخاديد الكثيرة الَّتي يحفرها الضَّحك في وجهي.. وجهي يتجهَّم من الضَّحك.. تصوَّر.. صدِّقني ستجدون أنفسكم في حبائل مشكلتي إذا ضحكت.

فزَّاعة (1): فيلسوف.

الرَّجل: لا.. لا.. بل غبائي لو وزَّعتموه على مدينة لفاض منه.

(تضحك الفزَّاعات بميكانيكيَّة).

الرَّجل: صدِّقوني.. فحقيقتي…

فزَّاعة (2): أيَّة حقيقة؟ هناك حقيقة واحدة.. هي.. أن نجعلك تبتسم.. ففكِّر معنا بطريقة.

الرَّجل: (يكشِّر بافتعال) ها.

فزَّاعة (3): هذه مفتعلة.. يا…

الرَّجل: والحل؟ فليس عندي ما يوافقكم.

(تتبادل الفزَّاعات شفرات صوتيَّة مبهمة فيما بينها).

فزَّاعة (2): نقتطع جزأين من شفتيك.. حتَّى تبتسم بتلقائيَّة ودون افتعال.

الرَّجل: معنى هذا أن أخون ملامحي.

(تضحك الفزَّاعات).

فزَّاعة (1): نحن نقتطع لك الشَّفتين بانتظام.

فزَّاعة (2): ودون خيانة للملامح.

فزَّاعة (3): ولا قطرة دم تسيل.

فزَّاعة (1): ولا…

فزَّاعة (2): ولا…

فزَّاعة (3): ولا…

الرَّجل: ولا هم يحزنون.. (ينزوي جانبًا) لا تحزن يا وجهي.. ولا تتجهَّم.. واصبر وتحلَّى بلبوسك الجديد.

(تُخرِج الفزَّاعات من أكمامها عصي بأطوال متساوية. تتقدَّم وبحركة سريعة قرب وجه الرَّجل، مع مؤثِّر صوت إلكتروني، ثمَّ حزمة ضوء تكشف عن وجه الرَّجل بقناع وكأنَّه بدون شفتين. ابتسامة بوجه حزين باكي).

الرَّجل: هذه أولى بدايات الخيانة.. ها أنت تخون ملامحك يا ابن الــ… (يجهش بالبكاء).

(يدبُّ الذُّعر في الفزَّاعات.. وحركة غير مستقرِّة تشوب الهياكل.. تقترب منه الفزَّاعة (3)).

فزَّاعة (1): ماذا؟

فزَّاعة (2): ماذا؟

فزَّاعة (3): إنَّه.. يبـ… يبـ… يبكي.

الثَّلاث: كيف؟

فزَّاعة (3): لا بُدَّ من تدبير.

فزَّاعة (2): ولكن الوقت.. الوقت.. الوقت غير كافٍ للتَّفكير.

فزَّاعة (1): هذا هو المستحيل بعينه.

فزَّاعة (3): فشلت المحاولة؟

الاثنان: لا.. لا.. لا.

فزَّاعة (3): لا بُدَّ من تلافي الموقف.

فزَّاعة (2): سريعًا.

فزَّاعة (1): سريعًا.

الثَّلاث: (بحزم وبطء) نستأصل غدده الدَّمعيَّة.. فيبتسم.

(تُعاد حركة العصي مرَّة أخرى).

الرَّجل: (يتوقَّف عن البكاء) أوغلت بالخيانة مستسلمًا.. خيانة.. (يصرخ) خيانة.. (يضرب رأسه) خيانة.. خيانة.

(نسمع صوت انفجار عنيف.. تتداخل مساقط الإضاءة.. وهناك ضوء مباغت للجمهور.. وآخر فوقه.. ثمَّ إظلام مفاجئ.. يتغيَّر الصَّوت إلى موسيقى.. تُضاء حزمة ضوئيَّة كأنَّها البلَّور على جبين الرَّجل.. تطير الحزمة إلى أعلى.. والفزَّاعات تطاردها بحركة بطيئة).

الفزَّاعات: (بفزع) ما هذا؟ ما هذا الضَّوء؟

الحزمة: (بنبرة إلكترونيَّة) لا أريد أن أكون كما تريدون.. (تكرِّرها).

(تلتفت الفزَّاعات إلى الرَّجل.. وتصرخ بصوت واحد).

الفزَّاعات: لقد تجهَّم وجه المتجهِّم!(تقترب الفزَّاعات من الرَّجل).

الرَّجل: ماذا أفعل الآن؟

فزَّاعة (1): ما هذا الَّذي طار من رأسك؟

الرَّجل: (خائفًا) الَّذي يملأ رأسي.

فزَّاعة (2): ما هو؟

الرَّجل: طائر ضوء.

فزَّاعة (3): لغز هذا أم ماذا؟

الحزمة: لا أريد أن أكون كما تريدون.. (تختفي).

الفزَّاعات: تكلَّم.

الرَّجل: لقد طار هناك.. فوق.. وأنا هنا.. معكم تحت.

فزَّاعة (1): هناك.. هنا.. فوق.. تحت.. نبرتك تنمُّ عن قلب تقيَّح بالتَّآمر.. أنتمتآمر.

الرَّجل: ماذا؟

فزَّاعة (2): مجرم خطير أنت.. ووجهك موشوم بالقتل.. ربَّما أنتقاتل.

الرَّجل:قا..قا.. قا.. قا.. قاتل!!

فزَّاعة (1): إنَّ مثل هذا الرَّأس الأجوف.. ينمو وينفجر.

فزَّاعة (2): لا بل وينشطر ضوئيًّا.

فزَّاعة (3): لا بُدَّ أنَّه مُخطِّط فاهم.

فزَّاعة (1): يجتاز المصاعب.. ويقتحم النَّفس.

فزَّاعة (2): يصير نصلًا.. يطعن ويغدر.

فزَّاعة (3): يقتل.

فزَّاعة (1): ولا بُدَّ أنَّ كل ضحايا الدُّنيا قد مرَّت أعناقها من تحته.

فزَّاعة (2): وكل الصُّدور المهشَّمة اخترقته.

الفزَّاعات: انهض.

فزَّاعة (3): يا.. قاتل.

الرَّجل: (مرعوبًا) قا.. قا.. قاتل!!

(الفزَّاعات تُشكِّل العصي سجنًا).

الرَّجل: القتل.. وأنا! عجائب.. أنا.. أنا.. مرَّة واحدة شهدت فيها القتل.

فزَّاعة (2): أين؟

الرَّجل: (يصرخ متذكِّرًا) في السُّوق.

فزَّاعة (3): كيف؟

(أثناء حوار الرَّجل.. الفزَّاعتان (2،1) تجسِّدان الحدث بأداء إيقاعي).

الرَّجل: شهدت القتل.. حينما هوى رجل بفأسه على جسد امرأة وقطَّعها إربًا إربا.. ثمَّ صاح بأعلى صوت…

فزَّاعة (2): (بصوت ممطوط) لقد غسلت عاري.

الرَّجل: همَّ النَّاس لتقبيله.. (تتحرَّك الفزَّاعة (3) للتَّقبيل).. وهم يتصايحون..

فزَّاعة (3): بارك الله فيك.. بارك الله فيك.

(تشارك الفزَّاعتان (1،3) وكذلك الرَّجل في لعبة التَّقبيل).

الجميع: بارك الله فيك.

الرَّجل: حتَّى ظننت أنَّ هذا هو القتل الَّذي يبارك الله فيه.. وأنا ما عندي امرأة أمارس معها هذا الطَّقس.. فكيف أكون قاتلًا.

(الفزَّاعات ترفع العصي لضرب الرَّجل. الرَّجل يخاف).

الرَّجل: لا.. سأعترف.. أنا تملَّكتني حاجة القتل مرَّة واحدة.

الفزَّاعات: متى؟

الرَّجل: حينما أهانني رجل في حافلة.. قلت أقتله.

الفزَّاعات: اقتله.

الرَّجل: لكنَّه نزل في منطقة قريبة.

الفزَّاعات: نَزلت؟

الرَّجل: لا.. اكتفيت بالنَّظر شزرًا إليه.

الفزَّاعات: حسنًا فعلت.

الرَّجل: وأعتقد.. أعتقد.. أنَّه بصق باتِّجاهي.

الفزَّاعات: ها!! اقتله.

الرَّجل: ولكنِّي أشحت بوجهي جانبًا.. حتَّى لا يظن الرُّكَّاب بأنَّه يقصدني.

(تضحك الفزَّاعات بميكانيكيَّة).

الفزَّاعات: جبان.

الرَّجل: لا.. ولكنَّه كان مكرش.

الفزَّاعات: ماذا؟

الرَّجل: له كرش كبير.. أحسست به.. وكأنَّه قد ابتلع أناس كُثر.. وأغلبهم من الفقراء.

فزَّاعة (1): إنَّه يفكِّر.

الرَّجل:و…

فزَّاعة (2): اخرس.

الرَّجل: ولكن أنا…

فزَّاعة (3): قلنا اخرس.

فزَّاعة (1): تشيح بوجهك الكئيب عن مهينك.

فزَّاعة (2): وتضرب بهذا مثلًا للاستسلام.

فزَّاعة (3): تظن بأنَّ المحكمة غافلة عن تبريراتك السَّخيفة.

فزَّاعة (1): نظرت إليه شزرًا.

فزَّاعة (2): وأشحت بوجهك.

فزَّاعة (3): أخذتك الطِّيبة.. ها؟

فزَّاعة (1): أخذتك أسهل العملات في عالم اشتدَّ فيه القحط والتَّشقّق.

فزَّاعة (2): وتنسى أنَّك القاتل.

فزَّاعة (3): والجبان.

الرَّجل: أليست معادلة صعبة.. أن نلبس الجبن والقتل جسدًا واحدًا؟

فزَّاعة (1): هذا لأنَّك وجه لكلِّ الشَّائعات.

(الرَّجل يتنقَّل بين الفزَّاعات.. يبحث عن مهرب).

الفزَّاعات: عمَّ تبحث؟

الرَّجل: أي مأزق هذا الَّذي أنا فيه.

الفزَّاعات: نحن مأزق؟

الرَّجل: كلَّا.. ولكن ثمَّة تشويش.. هنا في دماغي.. كلّ ما أراه أصبح مثل خيال مرَّ بي.. إحساس بأنَّ ما أراه كان قد حدث لي فيما مضى.. هاجس يأتيني بخيالات وأفكار.. أقلّها الخوف.

الفزَّاعات: وأعظمها؟

الرَّجل: الفجيعة.. الَّتي أنتظرها.. وقد غرسوها.. هنا.. هنا.. هنا.. في رأسي.. (يضرب رأسه).

الفزَّاعات: (تمسك بيده) كفى.. كفى.

فزَّاعة (1): ما بك؟

الرَّجل: أخاف.

الفزَّاعات: منَّا؟

الرَّجل: من كلِّ شيء.. هذه ليست المرَّة الأولى الَّتي أشعر فيها بالخوف.. فهو يلازمني كظلِّي.. هناك.. وهناك.. لا.. هنا.. وهنا وهنا.. ظلال.. ظل.. هنا مسؤول عن تصرُّفي.. وآخر يقتطع لي تذكرة ويجلس قربي.. وظل يُطعمني كطفل مدلَّل.. حتَّى بتُّ لا أميِّز بين النَّاس.. فأحسّهم جميعًا ظلالًا.

فزَّاعة (2): تحسّ جميع النَّاس ظلالًا؟

الرَّجل: مجنون.

(تجتمع الفزَّاعات في الخلف لتكوِّن مع العصي طائرًا مكسور الجناح.. ويدور الرَّجل في مكانه).

الفزَّاعات: (تردِّد) مجنون.. مجنون.. مجنون.

الرَّجل: (ينفرد في بقعة ضوء).. مجنون.. مجنون.. سيسير بي حتفي لأفقأ العيون.. وأستل خنجرًا ظلَّ يلوح لي متّجه المقبض نحو يدي.. وأهيم في ليل معربد أتزوَّد بغضبه.. وأشدّ الرَّحيل عن رأسي.. وأصنع من أمعائي مشنقة.. مجنون.. سأخذل ساقي.. وأقف طويلًا.. حتَّى تعشِّش الغربان فوق رأسي.. أرقب مَن؟ إيهٍ يا جنوني.. خذني إليك.. لفّني بردائك.. فأنت أشدّ القساة عليَّ.. وستحني هامتي للسَّحق والرَّكل.

(تضاء القاعة.. ثمَّ إظلام.. ويضاء المسرح مرَّة أخرى.. نجد الممثِّلين الَّذين يمثِّلون الفزَّاعات الثَّلاث.. وقد بدأوا بخلع ملابس التَّمثيل.. ورموها على الرَّجل.. حيث يظهرون بملابسهم العصريَّة.. ثمَّ يرتدون أحذيتهم الَّتي وُضعت جانبًا.. كل هذا يتمُّ خلال الحوار في المشهد التَّالي.. نجد الرَّجل منكفئ على وجهه).

الأوَّل: انهض.. (يعطيه الملابس) خذ.. (يغادر المسرح من خلال الجمهور).

الرَّجل: إلى أين؟؟

الأوَّل: لا عليك.

الرَّجل: لا عليَّ.. كيف؟ (يرتطم بالثَّاني).

الثَّاني: أخذت منَّا ما تريد.. ولم نجني من أفكارك إلَّا هراء.. تلقِّننا سمومًا.. بحجَّة أنَّها مسرح لا ضحالة فيه.

الأوَّل: جاد.. جاد.

الرَّجل: كل ذلك صار بموافقتكم.. فما الَّذي حدث؟

الثَّالث: ولكنَّك قلبت المفاهيم غمًّا بعبراتك الملغومة.. هل هذا هو المسرح الَّذي تبتغيه؟

الأوَّل: ماذا يقول عنَّا النُّقَّاد.. ها؟

الثَّاني: لقد اعتدت أن ترضي غرورك أوَّلًا.

الثَّالث: أيَّة نزوة رعناء حرَّكت فيك كل هذا الهوس المجنون.. والسَّوداويَّة القاتلة.. ها؟

الأوَّل: إنَّكم تقتلون المسرح بمثل هذه الأفكار.. الــ…

الثَّلاثة: تكلَّم.

الرَّجل: الصَّمت خير لي حتَّى تنهون كلامكم.

الثَّاني: تكلَّم أنت.

الرَّجل: ما قدَّمناه هو الاستهلال.. و…

الثَّالث: إذا كان استهلالك قد استهلك فينا كل بارقة أمل.. فحتمًا ستكون نهايتنا في صناديق القمامة.

الأوَّل: أنت خطير.. وعلينا أن نتفحَّص كل جملة تقولها.. وكل حركة.

الثَّاني: أنت قاتل ماهر لأفكار النَّاس.

الثَّالث: تضحك على ذقوننا.. الحق مع النَّاس تهجر مسرحًا مثل هذا.. هيَّا يا شباب.

الاثنان: هيَّا.

الرَّجل: اذهبوا فأنتم أحرار.

الأوَّل: لا نطلب الحرِّيَّة من رجل يخاف ظلّه.. ويكتفي بالنَّظر إلى مهينه.

الرَّجل: وماذا بعد؟

الثَّاني: لا شيء.. لا شيء.. (يوجِّه كلامه لمن في القاعة) سوى أنَّ من يحترم هذا المكان.. فليغادر القاعة.

(يرمون ما بأيديهم في وجهه ويغادرون.. يمكن الاتِّفاق مع بعض الجمهور حول مغادرة القاعة).

الرَّجل: المعذرة.. حتَّى هنا لا يمكن الدِّفاع عن النَّفس.. لم يتركوني أتفوَّه بكلمة واحدة.. يبدو أنَّ الفهم أصبح مقصورًا على التَّهرُّب من كلِّ ما هو صادق.. خلطة عجيبة هذه الدُّنيا.. وخسارتنا فيها أنَّها ليست للأبرياء.. بل للأغبياء.. عسى أن تكون قلوبنا محلّ وجوهنا لتظهر حقيقة كل منَّا.

(إظـــــــــــــــــــــــــلام).

 

(اللَّوحة الثَّانية)

(في الفراغ أيضًا.. مخزن الدُّمى.. على مقعد صغير.. ينام الحارس الصَّغير.. وثمَّة دمى بشريَّة.. وأخرى من صنع الخيال).

الرَّجل: كعادته.. يرخي لجفونه العنان.. ويسلِّم النَّفس إلى نوم عميق.. يا.. أو.. دعه ينام.. (يتحرَّك خارجًا).

الحارس: (يفيق من النَّوم متكاسلًا) مَن؟

الرَّجل: يبدو أنَّ النَّوم قد أجهز على ذاكرتك.

الحارس: بل النَّوم.. نعمة لا تعادلها نعمة.. وأعظم أفضالها.. أنَّها تدخلك في عالم النِّسيان.

الرَّجل: لم تضف لما قلته.. كيف ستتذكَّرني.

الحارس: بل أنت أكثر النَّاس.. تزورني في المنام.

الرَّجل: وتعرفني.

الحارس: ومن ينسى العم هدهد.. صانع الدُّمى ومحرِّكها.

الرَّجل: (يضحك) ها.. أنت تعرفني.

الحارس: وكيف أنساك.. ودُماك أمام عيني في هذا المخزن الَّذي يشكو من قلَّة التَّنظيف والزِّيارات.

الرَّجل: فهو مهمل مثلي.

الحارس: لا تشكُ الذَّاكرة من إهمالك.. وأنت موقظها.

الرَّجل: حتَّى خشبات المسرح الصَّغير.. أصبحت طعمًا للنّثار.

الحارس: بقليل من الصَّبر نصلحه ونعيد إليه عافيته.

الرَّجل: ما هذا الحماس.

الحارس: بل قل هربًا من النَّوم والكسل.. فالعمل مسرَّة كما يقولون.

(يذهب الرَّجل والحارس لجمع الخشب والقماش لإصلاح مسرح الدُّمى أثناء هذا الإنشاد).

نبني هنا عالمنا الصَّغير

من خشب مسرحنا الصَّغير

ينعم بالحكايا

ويكشف الخبايا

في العالم المحيِّر الخطير

نبني هنا مسرحنا الصَّغير

 

(بعد الانتهاء من الإنشاد.. يقوم الحارس بدفع الرَّجل للدُّخول إلى غرفة الدُّمى الَّتي تمثِّل مجموعة بقع ضوئيَّة على دمى مختلفة الأحجام.. بعد تمنُّع.. نسمع صوت صرير باب.. يدخل الرَّجل حيث تقف دمية كبيرة الحجم بالنِّسبة للرَّجل.. تخفي داخلها ممثِّل يؤدِّي شخصيَّة الدُّمية الكبيرة).

دمية كبيرة: (كأنَّها تنهض بعد فترة ليست بالقليلة.. وياحبَّذا لو يصاحب الحركة غبار ينتشر في الجو). أواه.. أواه.. أواه.

الرَّجل: (يتقدَّم ببطء) أقف خجلًا أمامكِ.. بل أمامكم.. ماذا أفعل.. لم تأت الرِّياح.

(تشيح الدمية الكبيرة بوجهها عن الرَّجل).

الرَّجل: من حقِّكِ أن ترفضيني.. فلقد تماديت بالفراق حتَّى أصبح يسري في دمي سريان المرض.

دمية كبيرة: اعترف بذنبك.

الرَّجل: بل وأنحني.

دمية كبيرة: ولك أن تجلد دماغك المحشو بال…

الرَّجل: بعد كل هذا الفراق.. لا بُدَّ من عفو.. أليس البعاد علاج النِّسيان؟

دمية كبيرة: لو أنَّ كل كائن ينسى بالبعاد لأصبحت الدُّنيا تنزف التَّاريخ مثل نزيف دماء المحكوم عليه بموت مجَّاني.

الرَّجل: العزلة لقَّنتكِ أمثالًا تبعث على الغثيان.

دمية كبيرة: ومنذ متى تداهمك مثل هذه المشاعر!!

الرَّجل: دعينا ننسى الماضي.

دمية كبيرة: (تصرخ بقوَّة) كيف أنسى خرافاتك الَّتي كادت أن تودي بي إلى الهاوية؟

الرَّجل: لا ترفعي صوتكِ.

دمية كبيرة: جبان مثلك لا يقوى على ردّ مهينه.

الرَّجل: ها!! أنا من صنعكِ من قطع خشب وأسمال ملابس.. جبان؟؟

دمية كبيرة: جعلتني قبض ريح.. لم أسلم من اتِّهامك لي.. وخيانتك في أوَّل اختبار لشجاعتك.

الرَّجل: ومن أين تأتي الشَّجاعة.. وقد اعترفتِ أمامهم بأنَّ السَّبب على الَّذي يُحرِّك لا على الَّذي يتحرَّك.

دمية كبيرة: لأنَّك كنت دمية أكثر من الدُّمى.

الرَّجل: أنتِ تنصَّلتِ منِّي كما يفعل البشر في لحظة جبن أو خيانة.. كنت أظن.. وبعد يأسي من البشر.. أنَّ الدُّمى لا يهمّها نائبة.. وإذا بكِ تبيعيني بثمن لا يساوي.

دمية كبيرة: أنا أرفضك.

الرَّجل: وأنا لا أطمع فيكِ أملًا في نقل أفكاري.. اذهبي وارجعي إلى مكانكِ.. فخير لمهزوم مثلي.. أن يبرح أرضًا رخوة.. إلى أرض أشدّ قسوة.. حتَّى أقف ممدود القامة.

(الدُّمية الكبيرة تعود إلى مكانها).

الرَّجل: حتَّى دماي باتت ترفضني.

(يتحرَّك الرَّجل باتِّجاه دميتين صغيرتين.. يتوقَّف قليلًا.. ثمَّ تدبُّ الحركة بالدُّميتين.. الرَّجل يراقب من على بعد).

(موسيقى).

 

(اللَّوحة الثَّالثة)

(في بقعة نسمع صوت نباح الدُّمية (1).. كأنَّها تمثِّل دور كلب.. بقرب دمية (2)).

دمية (1): هو.. هو.. هو.

دمية (2): ما بك.. أيُّها الكلب؟

دمية (1): أنا تعيس.

دمية (2): لماذا أنتتعيس؟

دمية (1): لأنِّي جائع.. فالأرض عندنا.. خراب.. مقفرة.. فلا غلَّة فيها ولا لحوم.. هو.. هو.. هو.

دمية (2): ويقول تعيس.

دمية (1): وأنت سعيد؟

دمية (2): طبعًا.. لا.. أنا أيضًا تعيس.

دمية (1): جائع؟

دمية (2): ولكن بطريقة أخرى.

دمية (1): عجبًا.. وما سبب تعاستك؟

دمية (2): أنا الَّذي أتعجب كيف تكون تعيسًا.. وأنت تنبح بأعلى صوتك.

دمية (1): هو.. هو.. أنت جائع مثلي؟

دمية (2): لا.. لا.. إنَّما كنت أتمنَّى وأرغب أن أهوهو.. أي أنبح بحرِّيَّتي ولو ليوم واحد.

دمية (1): إذن المشكلة واحدة.

دمية (2): والمهم.. أنت جائع بطريقة.. وأنا جائع بطريقة.

دمية (1): ما فائدة أن تنبح دون أن تأكل!

دمية (2): وما فائدة أن تأكل دون أن تنبح!

الدُّميتان: مشكلة.. هو.. هو.. هو.

(الدُّميتان تنبحان.. وترقصان.. وترفعان لافتة كُتب عليها: هو.. هو.. هو).

الرَّجل: أنا سعيد بكما وبهذا المشهد الجميل الرَّائع.

الدُّميتان: عم هدهد.

الرَّجل: مع إنِّي كنت أتمنَّى أن يكون المشهد أكثر ميلًا للهدوء.. وأكثر ابتعادًا عن الإثارة.

الدُّميتان: عم هدهد.. أنتالآخر ابتلعت صوتك.

الرَّجل: وما فائدة هذا التَّقاطع؟ نحن نحتاج إلى الأُلفة.. المحبَّة.. الــ…

(الدُّميتان تجلسان بوضع الانحناء.. ويحاول الرَّجل تعديلهما).

الرَّجل: لا.. نعود مرَّة أخرى إلى عروضنا القديمة.

الدُّميتان: القديمة أيضًا.

الرَّجل: ما فاضت به قرائح الأجداد.

الدُّميتان: نرجع لها مرَّة أخرى.

الرَّجل: أفضل.. فهي تعوِّضنا عن صداع الأفكار المزمن.

الدُّميتان: نريد أن نقدِّم مسرحًا.

الرَّجل: لأطفالنا الكبار.. تعالا.. وانظرا ما عندي.

(يذهب الجميع إلى المسرح الصَّغير للاختفاء.. بينما يظهر وجه وصدر الرَّجل وهو يروي حكاية؟؟ ويلبس الدُّمى القفَّازيَّة. وهي (ولد) و(فراشة) و(شجرة ورد)).

الرَّجل: (يردِّد بغنائيَّة) كان الولد…

مجموعة: كان.. وكان…

الرَّجل: يركض خلف فراشة تطير…

مجموعة: فراشة صغيرة…

(إمَّا أن تُقدَّم المسرحيَّة بأسلوب الدُّمى.. أو أن تُشخَّص بواسطة ممثِّلين).

الولد: توقَّفي يا فراشة.

الفراشة: ماذا تريد؟

الولد:أ…أ…أ… أنتِ جميلة.

الفراشة: كل كائن جميل بعمله.

الولد: وأنا.. وأنا.. أتمنَّى أن أبقى صديقًا لكِ.

الفراشة: وأنا أقبل الصَّداقة.

الولد: ولكن…

الفراشة: أراك تصمت.. هل تظن أنَّ للصَّداقة شروطًا؟

الولد: لا.. لا.. ولكن أنا.. ولشدَّة تعلُّقي بكِ.. أريد أن أضعكِ في بيتي.. أليس من الأفضل أن يكون لكِ بيت تسكنينه؟

الفراشة: أنا بيتي الحدائق.

(في كلِّ هذا الحوار هناك حركة سريعة للفراشة ويتبعها الولد).

الولد: توقَّفي.. لقد تعبت.

الفراشة: أولى شروط صداقتي.. أن يكون الصَّديق محبًّا للحركة.

الولد: وأنا أريدكِ أن تقفي.. تتجمَّدي.. تتحنَّطي.

الفراشة: الآن فهمت القصد.. أنتمن هواة التَّحنيط.

الولد: نعم.. نعم.. وأحتفظ بالكثير من الفراشات والحشرات.. و…

الفراشة: وجئتني لأكون من ممتلكاتك؟

الولد: أجعلكِ فراشة مجفَّفة.. جميلة.

الفراشة: وهل تسمح لي أن أجفِّفك؟

الولد: طبعًا لا.. فأنا إنسان.

الفراشة: وأنا كائن حي.. أحب الحياة والعمل.. والحركة.. (تذهب مسرعة ومندفعة).

الولد: لن تفلتي من يدي.

(تدخل شجرة الورد.. تترنَّم).

الشَّجرة:لالالا.. لالالا.. لالالا.

الولد: يا شجرة الورد.. يا وردة الورود.

الشَّجرة: نعم يا صديقي.

الولد: هل لي أن أحصل على وردة من كنز ورودكِ؟

الشَّجرة: وماذا تفعل بالوردة؟

الولد: أقطفها.. أرفعها عاليًا.. حتَّى تقف فراشة تطير.. أمسكها.. أجفِّفها.. لتعيش معي في بيتي.

الشَّجرة: الورد لا يصنع المكائد للآخرين.

الولد: هي مساعدة.

الشَّجرة: بل مكيدة.

الولد: وإذن ترفضين طلبي؟

الشَّجرة: نعم.. نعم.

(الولد يهجم على الشَّجرة ويتصارع معها).

الولد: (يصرخ بقوَّة) آخخخخخ..

الشَّجرة: هذا جزاء من يحب العنف.. (تغادر).

الولد: آخ.. إصبعي.. شوكة وخزت إصبعي.

(تدخل الفراشة).

الفراشة: ها.. ما بك يا صديقي؟

الولد: آخ ساعديني.. ساعديني.

الفراشة: ولكنِّي أخاف منك.. أخاف أن توقع بي.

الولد: وهل أستطيع أن أتحرَّك لأوقع بكِ!!

(تقترب منه الفراشة بحذر).

الولد: ما بكِ! هيَّا تعالي بسرعة.. فقد اشتدَّ بي الألم.

الفراشة: ولكن أفكارك.. تحجب عنك ثقة الآخرين.

الولد: جرِّبي وسترين أنِّي أمتثل لما تقولين.

(تقترب الفراشة من الولد وتخلِّصه من الشَّوكة).

الولد: آه.. أشكركِ يا فراشة.

الفراشة: وهذا دليل على حبِّي الشَّديد لمساعدة الآخرين.. مع السَّلامة يا صديقي.

الولد: مع السَّلامة يا رقيقة.. فراشة رقيقة.. تحب الحديقة والنَّسمات.. تطير بين الأزهار والوردات.. عاشت الفراشات.

مجموعة: (بحماس) عاشت الفراشات.. عاشت الفراشات.. (يخفت الحماس) عاشت الفراشات.. عاشت..

الرَّجل: عاشت الفراشات.. عاشت.. عاشت.

(يعمّ الصَّمت.. ويتبادل الجميع النَّظرات.. المجموعة تهجم على الرَّجل.. ويرفعونه عن الأرض).

الرَّجل: أنزلوني.

الأوَّل: وبعد أن تعيش الفراشات.. ماذا؟

الرَّجل: هي محاولة لإعادة ثقة افتقدناها.. الطِّفل.

الثَّاني: تتمادى في ميوعتك.. وتتراقص بين الورد والفراشات وكل شيء مهدَّد بالانقراض.

الثَّالث: مسرحيَّة أطفال.. فيها ما يوحي.. وبرسائل ملغومة.. أنَّ الأمر لا يخلو من دفع الطِّفل باتِّجاه تسفيه عقله.

الأوَّل: تريد إنجاب جيل من الرَّاضخين.. الخائفين.

الرَّجل: على مهلكم ما كل هذا التَّعقيد والمسرحيَّة لا تتعدَّى كونها تسوية لما قدَّمناه في البداية.

الثَّاني: سئمنا التَّسويات.

الثَّالث: احترت معكم.

الأوَّل: ولِمَ الحيرة؟

الرَّجل: أظن أنَّكم تريدونها عراكًا ولغة عضلات.

الأوَّل: مسرحيَّاتك فاشلة.. ومجنونة.

الثَّاني: وأنت فعلًا مجنون.

المجموعة: مجنون.. مجنون.. مجنون.

(يرمون الرَّجل بالحجارة.. ويتوقَّف حائرًا.. لا يحرِّك ساكنًا).

الرَّجل: قالتها الفزَّاعات وصدَّقها البشر.

الحارس: لقد تسبَّبت لك بعناء مضاف.

الرَّجل: لا بأس.. سأجمع أخشابي وأرحل.

الحارس: قبل رحيلك.. لا بُدَّ لي من أن أعيد على مسامعك.. حكاية.. سردتها لي من قبل.

الرَّجل: زمن الحكايات الجميلة ولَّى.. وعلينا حرق كل المخلَّفات.. كل ما أعددناه للآتي.. لأنَّ ما نحتاجه سيأتي جاهزًا.. وما علينا إلَّا أن نرضى بما تجود به أكفّ الكرام.

الحارس: دع عنك هذا.. فقد تحوَّلت سُلطة المخرج إليَّ.. وما عليك إلَّا الطَّاعة.

الرَّجل: حاضر.

الحارس: اسمع يا عم.. يا هدهد..

الرَّجل: قصر لسانك.. يا ولد.

الحارس: أنا الآن أمارس سلطتي.. وأنت ممثِّل عندي.. بل قل المشاهد الوحيد.

الرَّجل: اقمعني كما تشاء.. ولكن برفق.

الحارس: وافقناك الرَّأي.

الرَّجل: تفضَّل.

(إظلام في القاعة).

الحارس: ما هذا؟

الرَّجل: منفِّذ الإضاءة ينذرنا بالإسراع.

الحارس: يا أخ.. ممكن إضاءة المكان لدقائق قليلة.

منفِّذ الإضاءة: ولكن بسرعة.

(يتقدَّم الرَّجل بهدوء).

الرَّجل: ما الحكاية..

الحارس: أعطني من صبرك حقِّي.

الرَّجل: لك ما تريد.

(الحارس يؤدِّي الحوار مع تشكيل جسد الرَّجل كتمثال).

الحارس: أراد نحَّات أن يصنع تمثالًا كبيرًا لرجل لا يعرفه.. هذا الرَّجل نشفت بئره فما ارتوى.. رفضته حتَّى ثيابه.. فقرَّر النَّحَّات حمل الحجر على ظهره.

الرَّجل: هل يريد قصم ظهره!

الحارس: بل أراد أن ينعش ذاكرته بقسوة الحجر.. المهم.. جاء بالحجر وصفَّ حجارة فوق حجارة.. حجارة فوق حجارة.. شمخ الحجر وصار بشرًا.. شمخ التِّمثال وتضاءل جسم النَّحَّات قياسًا للتِّمثال.. نظر النَّحات إلى التِّمثال فرحًا.

(يتمايل الرَّجل التِّمثال).

الحارس: (يتوقَّف عن فرحه).. ها.. ها!! ما هذا؟؟ التِّمثال يتمايل!! ما الَّذي حدث؟ لا بُدَّ من أن أتسلَّق التِّمثال.

(الحارس يتسلَّق الرَّجل التِّمثال حتَّى يصل إلى الرَّأس).

الحارس: ما هذا.. الخلل هنا.. الخلل هنا.. الخلل هنا.. ثمَّة فجوة هنا في الرَّأس لم تُملأ بعد.. فجوة في الرَّأس لم تُملأ بعد.. لا بُدَّ من شيء يملأ الرَّأس.. سأحاول.. (يمدّ يده إلى الأرض لمسك حجارة وهميَّة).. لو أمسكت بالحجر.. ماذا سأفعل؟

(يتمايل الرَّجل التِّمثال).

الرجل: للمرَّة الثَّانية سأحاول.. (تزل قدمه فيسقط على الأرض).. آه.. آه.. آه..

الرَّجل: سقط النَّحَّات على الأرض ولم يملأ تلك الفجوة.

الحارس: صدِّقني يا عم هدهد.. بعد كلّ هذا العمل والمغامرة.. الرَّجل كان يحلم.

الرَّجل: كل هذا والرَّجل كان يحلم!

الحارس: (يبتسم) يحلم.

الرَّجل: (تتغيَّر ملامحه ونبرته).. ما به؟

الحارس: (يضحك) يحلم.

الرَّجل: من هذا الحالم؟ ولماذا يحلم؟

(الرَّجل يتقدَّم كتمثال باتِّجاه الحارس).

الحارس: (خائفًا) هي حكاية.

الرَّجل: من سمح لك بسردها؟ (يتقدَّم).

الحارس: (يتراجع) قلت أزيل عنك الهمّ قليلًا.

الرَّجل: ومن هو المهموم؟ (يتقدَّم).

الرَّجل: (يتراجع بين الجمهور) أليس أنتيا عم هدهد؟

الرَّجل: (يتبعه) من قال لك أنِّي مهموم؟ أنتمدسوس.

(يتراجع الحارس.. ويتبعه الرَّجل التِّمثال).

الحارس: عم هدهد.

الرَّجل: وربَّما تكون قاتلًا.

الحارس: ماذا؟

الرَّجل: لِمَ وجهك متجهِّم هكذا؟

الحارس: ما بك يا عم؟

الرَّجل: عليك أن تبتسم.. سنقتطع جزأين من شفتيك.. حتَّى تبدو سعيدًا مبتسمًا.. ونستأصل غددك الدَّمعيَّة.. حتَّى لا تبكي.. أنتقاتل.. أو جبان.. لماذا تخاف وأنت آمن؟ تشيح بوجهك عن مهينك.. إنَّ مثل هذا الرَّأس الأجوف.. ينمو وينفجر.. لا بل وينشطر ضوئيًّا.. لا بُدَّ أنَّه مخطِّط فاهم.. يجتاز المصاعب.. ويقتحم النَّفس يصير نصلًا.. يطعن ويغدر.. يقتل.. ولا بُدَّ أنَّ كل ضحايا الدُّنيا قد مرَّت أعناقها من تحته.. وكل الصُّدور المهشَّمة اخترقته.

(يهرب الحارس).

الرَّجل: (يصرخ) تعال.. تعال.

(إظلام في القاعة).

الرَّجل: (يصرخ) إضاءة.. إضاءة.. إضاءة.

(موسيقى النِّهاية).

 

ّ* محمود أبو العباس (1979م. بغداد)

 

ملاحظة جد هامة: 

كل من يتصدى لإخراج هذا النص يجب ان يحصل  على موافقة الموقع في شخص مديرته (بشرى عمور) تحديدا

فالرجاء الاتصال على:

الهاتف/ الواتساب: 00212665069189

الأيميل: alfurja.com@gmail.com

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت