خطاب المعاصرة والتجديد في “انا مكبث” / بقلم: د . سعد عزيز عبد الصاحب
أطل الفنان المسرحي العراقي برأسه من بين حشد هائل من المعالجات والرؤى العالمية ليقرأ نصوص (شكسبير) قراءة تجريبية مبتكرة استندت الى الوقائع الاجتماعية والسياسية وانعكاسها على الخطاب المسرحي، تارة وجدة الشكل الفني ومغايرته للسائد تارة اخرى، اذ عمل الفنان الشامل (سامي عبد الحميد) على بناء كتابة دراماتورجية واخراجية جديدة للمسرح الشكسبيري خارج الاطر والصياغات الكلاسيكية والطرازية التي عهدتها خشباتنا في تجسيد المسرح، بتأويلات جديدة مقترحة وبقراءات افقية لمسرحيات (هاملت ) و(عطيل) و(مكبث) وبعنوانات (هاملت عربيا ) و(عطيل في المطبخ) و(طقوس النوم والدم) تشي بفاعلية تجريبية اصيلة، وقدم المخرج الشكلاني (صلاح القصب) ذخيرة واسعة من العروض المسرحية البصرية المنشقة على السائد المسرحي، فأخرج مسرحيات (هاملت والعاصفة والملك لير ومكبث) بقراءات حداثية اطاحت بالملفوظ الشعري الشكسبيري وحبكاته الدرامية ذات البناء النفسي العمودي مستعيضا عنها بـ(شعرية) الصورة المسرحية، ومن القراءات الاخرى اللافتة اخراج (شفيق المهدي) لمسرحية (مكبث) بمعالجة جديدة لمفهوم (السلطة) وتحويل الهامش الى مركز في ضوء تصدر شخصية (البواب) للفعل الدرامي بقراءة سياسية استشرافية حادة،
ولا يمكن اغفال المعالجات الدرامية المبتكرة لمؤلفينا المسرحيين في التعالق الحاذق مع النصوص الشكسبيرية بوصفها معالجات اتخذت طريقين بنائيين الاول يقوم على الاتيان بحبكة درامية جديدة للنص الاصل وتغيير مسار وفواعل الشخصيات واستبدالها بفواعل وطباع جديدة، كما في نص (دزدمونة) للشاعر (يوسف الصائغ) حين ابتكر حبكة بوليسية مركبة يقوم حدثها الرئيسي على التحقيق في جريمة قتل (عطيل) لزوجته الجميلة (دزدمونة) من قبل محققين معاصرين يتوغلون في الماض، وقام الشاعر (خزعل الماجدي) بمعالجة فنية فريدة لمسرحية (هاملت) باقصاء الشخصية الرئيسية هاملت وجعل المسرحية تدور من دون بطلها التراجيدي الذي جاء خبر موته في بداية المسرحية في استكناه دراماتورجي لغياب الفعل في شخصية الامير الدانماركي قادم من الاصل ليكون عنوان المسرحية (هاملت بلا هاملت). وعلى نفس المسار تداخل المؤلف (جواد الاسدي) مع النص الكلاسيكي (هاملت) بعنوان جديد (انسوا هاملت) وليكون (لايرتس) هو البطل التراجيدي الجديد.
اما المسار الثاني الذي سار عليه المؤلفون والمعدون فهو توظيف بنية كولاجية تحوي اهم مسرحيات شكسبير وابطاله في انتقائية تحمل جدل الاضداد كشر وفساد (الليدي مكبث) و(غرترود) وطهر (اوفيليا) و(دزدمونة) وعفافهما كما في مسرحية (الحريم) للكاتب (علي حسين)، وكذلك نص مسرحية (مكبث عربة للموت) للكاتب (مثال غازي) التي استقى فيها من مسرحية شكسبير ظلال الموت التي تطارد القاتل الطموح مكبث والليدي معا. و(روميو وجوليت في بغداد) اعداد (مناضل داود ) كلها تدخل ضمن المسار الثاني في مفهوم النص (العلائقي) الذي يمتلك مرجعية للحبكة ترتبط بالاصل وتتكأ على مصادر معرفية وتاريخية اخرى لبناء النص الجديد.
في مسرحية (انا مكبث) يعالج الكاتب (منير راضي) مسألة محاكمة شكسبير من قبل شخوصه التي كتبها بمداد دموي قاتل مستنطقا التاريخ ومستحضرا نصوص المؤرخ الانكليزي (روفائيل هولتشيد) ليثبت براءة (مكبث) من جريمة قتل (دنكن)، في ضوء استحضار شخوص مسرحيات (شكسبير) (الملك لير والملك دنكن وهاملت وعطيل وبانكو ومكبث والليدي والساحرات والمؤرخ روفائيل وشكسبير )، نفسه للقبض على الحقيقة الغائبة والتي دلسها وخانها بحوار جدلي متعال عميق وبحبكة تتصاعد عموديا كلما دخل شاهد جديد الى ارض المحكمة. وهي في العرض (العالم السفلي) حيث يجري الحدث، اجرى المخرج (طلال هادي) عدة اجراءات دراماتورجية ذكية لتخليص النص من السرد والاستطراد المونولوجي وتقليل عدد الشخصيات فحذف شخصيات (عطيل وهاملت وبانكو) لعدم تأثيرهم على بنية الصراع بين (شكسبير ومكبث) وطور من وجود (الليدي مكبث) داخل بنية العرض بجعلها روحا هائمة تسيح في الفضاء بأستناده فكريا لحوار
الليدي : انهم جعلوني صحراء خاوية تصفر بها الريح فلا يسمعها احد قيدوني ببيت خنجرك ودفعوا بمقبضه لكلاب الجحيم ، صيروني شبحا ، انتزعوا مني الروح ليوم غير معلوم (ص21)
ووسع من دور الساحرات داخل بنية العرض واعطاهن دورا تقديميا ملحميا أقرب لدور الراوي البريشتي بمحطات ترويحية متفاعلة ومتواصلة مع الجمهور، كسرت يقين السرد المأساوي للشخصيات ، لم تشهد الساحرات في صالح (مكبث) في المحكمة الافتراضية لانهن من خلق شكسبير ولسن من خلق التأريخ. جاء الانشاء السينوغرافي للمخرج موفقا في اقتراح شكل العرض ومكانه (المحكمة) بتوابيتها الجاثمة واطارها المكفن بالشراشف البيضاء و(سايكلوراما) خلفية متحركة تشير الى وجودنا في عالم اخر ملتبس وغرائبي تجول به الكائنات الشبحية والظلال والشياطين، وتقريب الملكين (لير) و(دنكن) من بعضهما ميزانسينيا ولعبهما دور القضاة لكونهما يحملان نفس المصير التراجيدي الذي كتبه لهما شكسبير ، وتوظيف التقنية الضوئية للكشف عن معان ودلالات مضمرة داخل ضمير (مكبث) كالخنجر الذي نفذ بشكل جمالي بارع، والساعة الزمنية التي نزلت من الاعلى مجتزأة الزمن كأنها تعطي دلالة للزمن الافتراضي المتآكل وليس الواقعي وكذلك نزول حرفG باللغة الانجليزية دلالة على علامة البحث غوغل مع حضور شخصية المؤرخ (روفائيل هولتشيد) المنقب والباحث في بطون التأريخ في اشارة معاصرة وحداثية، اضافة الى الحوار المتلفن بين الليدي ومكبث صورنا اياه العرض كأننا في احد السجون الحديثة ودلالة اللون الاحمر في ازياء الشخوص اعطت جوا متوترا وكأنها ملابس الاعدام. مما حفز الزي قدرة الممثلين على التشبث بافاداتهم امام المحكمة لانهم ذاهبون الى الموت.
اما على صعيد الاداء التمثيلي فقد حمل شراسة فنية في التنافس بين الممثلين كل يذود عن شخصيته التي يمثلها، فكان (زمن علي) وهو يصدح بصوته القوي الذي خلا من العي او الضعف في اللفظ بعبارات مسموعة وايقاع ممسوك عبر بجدارة عن لحظات عدم الاستسلام او الخنوع لدى (مكبث) في توصيل براءته للمحكمة، وكذلك الممثل (حميد عباس) الذي اضطلع بأداء دور (شكسبير) بحضور راكز وشبه قريب من الصورة التخيلية للمؤلف الانكليزي وتبأر على الذات بهدأة مبدعة وتمكن من مناطق الحوار وتوصيل معناه، ولم تكن الممثلة (ايمان عبد الحسن) بعيدة عن الابداع في صياغة دورها (الليدي مكبث) فكانت لولب العرض بحركتها الدائبة وتوقيتها الدقيق في الاستلام والتسليم الحواري، ولابد من ذكر استرخاء الممثل (احمد محمد صالح) الذي نهض بدور (الملك دنكن) المقتول وسلاسة حضوره، اما فراشات العرض (الساحرات) (فيروز وتبارك وداليا ) فكن محلقات خارج افق المتوقع في سماء وردية جديدة من التألق والنفاذ الجميل الى قلب الجمهور بحركات سريعة وذكية وحضور خفيف الدم متحفز ومتقن الاداء، وكان السنافر (تراث ومهدي واحمد) ويتقدمهم (عدي عباس) بدور المؤرخ (روفائيل) احد علامات العرض الفارقة في دقة التزامهم وضبطهم الحركي الدقيق وقدرتهم على تلافي الاخطاء ان حدثت اثناء العرض، وفي النهاية لابد من التعريج على اداء الممثل (طلال هادي) ونبوغه التمثيلي بصوته المتهدج الشفيف وهو يضطلع بدور (الملك لير) ويقود العرض الى شاطئ الامان، ومن الجنود المجهولين في العرض لابد من الاشارة الى اضاءة ناظم حسن وسعد الشاهري المتميزة ودقة التنفيذ الصوتي لهمام حسن ومكياج ندى طالب .