مسرحية (أنا ماكبث) للكاتب منير راضي..تجلّيات الانفلات من السائد ومحاكمة شكسبير في العالم السُّفلي/ سعدي عبد الكريم
حينما يضطلع الكاتب المسرحيّ بمهمة الانفلات من السائد، ليبحث له عن حيزات مخيالية تحمل الكثير من مواطن الدهشة، وموارد الابتكار، حينها نكون إزاء تمظهرات حداثوية واضحة في تنشيط الفعل الدرامي المغاير في أدب كتابة النصّ المسرحيّ، بوصفه عالما من المتماثلات الصراعية، والقبول بالنتائج النبيلة التي تأخذ على عاتقها الارتقاء بالجامد الغير متحرك، نحو عوالم متحركة مليئة بالصور السحريّة الدالة التي تعتمد على جملة من الركائز في الخلق، معتمدة على وعي الكاتب وقدرته في تشفير موارده الفكرية، وفحواها الدرامية، وبثها كعلامات مُفسّرة، ودلالات خلاقة تبحث لها عن موطن في مصبّات التغيير.
لقد نجح الكاتب المسرحي المبدع (منير راضي العبودي) أيما نجاح في تأسيس الفسحات الدرامية المدهشة لنصّه الفائق الجودة الموسوم (أنا ماكبث) وعرف كيف يؤثث فضاء مشهده المسرحي بدراية الخبير، ومُكْنة الضالع بخفايا كتابة النصّ المسرحي المائز والمُتفرَّد، على ضوء فعالية نجاع التناول وتطويره بما ينسجم مع آفاق التجديد، بداية من اختيار الثيمة، ومرورا بتوزيع جهده المثالي على مراحل تنامي العقدة في مراحلها المتنوعة، وانتهاءً بانتخاب النهاية المؤثرة.
يبدأ المؤلف في تأثيث البيئة، وكأنه يكتب سيناريو تراتبي لأحداث نصّه الحداثوي النزعة، وهو تناول من طراز خاص لتماثل تلك المناخات التاريخية حيث يُصرَّح في التأسيس البيئي الأول:
– لوحات متدلية من أعلى المسرح تحمل صور لشخصيات شكسبيرية.
يوحي لنا المؤلف بأنه سيقوم باستضافة شخصيات مستوحاة من مسرحيات شكسبير، لينشئ محاكمة في العالم السُّفلي يحاكم فيها شكسبير، ليغير موازين نهاياتهم المأساوية من خلال لعبته المسرحية، فهو يضعنا إزاء ظاهرة مثالية يتقلَّد فيها منصب القاضي لمحاكمة شكسبير وتخليص أبطاله من مصائرهم، وهي محاولة للبحث عن المنهل الإنساني المُسبَّب لمآلاتهم الكارثية.
ويظهر جلياً الحاكم اللغوي المسيطر على رمة النصّ، فقد سُطَّر بلغة شعرية عالية تقترب بدرجة التلاقي العصرية مع لغة شكسبير، لتُقرّب الجو العام لفضاء النصّ من تلك الأجواء التاريخية، وهذا التقارب احدث ميول استقبالية عالية لدى المتلقي، لإحساسه بالترف اللغوي، الذي أسس بالمواظبة الراقية للمؤلف على مفاصل النصّ، وتحكمه العالي بموازينه، وصياغة أحداثه بوثوقية العارف المتمكن من إدارة دفة ملهاته، وبطبيعة النسق التجديدي انسحب هذا على الاختيار الموفق لشخوص المسرحية، واستضافتهم من المجاهل (التيماتية) السحيقة المعتمة ليظهرها الى النور لتدين شكسبير على فعلته في صياغة نهاياتها المؤلمة، لا بحسب موارد التاريخ، ونتائجه النبيلة، بل بحسب ما تمليه عليه رغباته الحالمة، ومن بين النتائج الفضلى التي علينا الوقوف إزاءها، والتي أدت إلى صياغة هذا النصّ المغاير بهذا الرونق الحداثوي الرائع، هي ذلك التجلّي في الوعي المسرحي الناهض للمؤلف، بداية من الفكرة باعتبارها الرابط الأصيل بين شكلنة الفحوى، وسير الأحداث، ومرورا بالصراعات المتأججة داخل الفعل الدرامي المتنامي، وانتهاءً بوظيفة الكتابة باعتبارها المنشط الناهض لتدوين تلك الملهمات الدرامية بركوز فعال، والتي أدت وبفعالية عالية الى ضبط سمترية الأحداث.
يصرح وليم شكسبير في إحدى مقولاته قائلا:
*(مداد قلم الكاتب مقدس مثل دم الشهيد).
ان هذا التصريح يجعل من وظيفة الكتابة للمسرح تحديدا، وظيفة مقدسة تتماثل مع دم الشهيد، لأنها تحمل بين طياتها المخبوءة، أو المعلنة تصاريح لمهمة الاحتجاج والمعارضة، وصولا إلى فعل التغيير.
ولعل الذي علينا التأكيد عليه هنا،، أن الكاتب (منير راضي) لم يألو جهدا في المواظبة الفاعلة لتقديم وجبة معافاة من العثرات، وخالية من الهنات، وفي تقديم معالجات فكرية في ضرورة إعادة قراءة التاريخ من مناحي متعدّدة الأوجه، فالتاريخ يكتبه المنتصر في جلّ الأحيان، وفي أحيان كثيرة يكون الخاسر، هو سيد المعركة وبطلها، وهو فعلها النجيب، وشرفها النبيل، لكن التاريخ لم ينصفه، إذن هي دعوة (منيرية) لفعل التغيير، من خلال النظر إلى أحداث التاريخ، وقراءتها على أساس الوعي الكامل، والفهم العاقل، لا بحسابات الانتصار والخسارة، بل بحسابات الفعل الإنساني، والقيم الشريفة، والرصيد الحاكم في العامل الجاذب، وهي دعوة للمتلقي، وهو يقرأ التاريخ ويرصد متغيرات أحداثه، سيكون لزاما عليه معرفة المرجعيات النبيلة لشخصيات التاريخ وأبطاله، بحسب انتمائهم الإنساني والفكري والثوري، لا بحسب النتائج الزائفة المدوّنة في بطونات كتب التاريخ.
الملفت للنظر .. أن هذا النصّ الحداثوي في شكلنته, وسير أحداثه، لا يمت بصلة إلى مسرحية ماكبث لشكسبير، لا من الناحية التناصية، ولا التماثلية, ولا بصغية المحاكاة, فهو يدفع باتجاه ثبات ميوله الفكرية الحصيفة لاستقبالها من قبل العين الناقدة، وبؤرة التلقي، وتقبله وفق منطق رفعته الدرامية، ولغته الشعريّة، وفصول تداوله الحبكي، التي تثري ثنائية (المتعة والمنفعة) باعتباره نصّا ينتمي للمسرح الملحمي, وهي السّمة الفاضلة التي لازمت المؤلف من الوهلة الأولى، في مهمة نبش التاريخ، وإعادة إنتاجه ثانية، وفق منظومة الحقائق وعلى ضوء طرح الأسئلة الكبرى للإجابة عنها، وطرحها على مائدة محاكمة العالم السُّفلي،
لمعرفة توافقها مع الحقيقة، من عدمه، ففي المشهد الاستهلالي يصرَّح المؤلف على لسان إحدى الساحرات:
الساحرة1:- اذن .. عند غبش الصبح سوف ينفجر الفجر راجعا بدورته الضوئية حيث هنا سيكون عرش بداية الحقائق للمغدور ماكبث كما قاله لحكام العالم السفلي والذين لم ينصتوا اليه طوال سجنه في اسفل الدرك من ارض الموتى, ولكنهم اخيرا بعد تدخل كل ضحايا الغدر في الحكايات الاخرى استسلموا لمطلبه وتمت الموافقة له في اقامة جلسة طارئة في ملكوت العالم السفلي وبحضور من له شأن في هذا الأمر.
وهذه الدعوة في تلبية مطلب ماكبث لتبرئة ساحته من القتل، وعدم تلوث يده بالدم، تجيء وفق سياق معرفة الحقيقة، بعيدا عما يسطره التاريخ في سردياته، أو الشعراء في ملاحمهم، كما فعل شكسبير مع ماكبث، واتهمه بالقتل، وهو الفارس النبيل الذي قارع الخطوب، وخاض المعارك الجسام من اجل ترسيخ دعائم المملكة.
وتأتي هذه المشاكسة الدرامية من قبل المؤلف، لترويض فعل الانتقام، ومن ثم اللجوء الى محكمة العالم السُّفلي لتبرئة ساحة ماكبث من القتل، وإظهار الحقيقة، بالاتكاء على نتاج النافع اللغوي بما يحققه من الدهشة عبر الحوارات المكتنزة لغويا (بالرغم من وجود بعض الأخطاء المطبعية التي جاءت في النص الذي وجدته منشورا في احدي المواقع الأدبية) والتي لم تؤثر كثيرا على النص بحكم أنها جاءت عارضة وغير مقصودة.
وفي رأينا النقدي .. إن نصّ (أنا ماكبث) الفاخر في فكرته، وتناوله، ولغته، وتأثيث فضاءه المسرحي، قد جاء تلبية لنداء خفي طارئ، ربما هو الذي ألهم المؤلف في ولوج هذا المعترك المسرحي النبيل، بحس وفكر عالي، وبذات النبرات الصوتية الشكسبيرية التي تعتمد على الشاعرية النبيلة، في كتابة الملاحم الكبيرة, فقد تمكن المؤلف من إحكام سيطرته على مكامن اللغة وتسخريها بشاعرية استثنائية لــ(دايلوكات) أبطاله، محاولا الاقتراب من صومعة المحافظة على جرسية اللغة المستثمرة في النصّ الشكسبيري الأصيل، ومن ثم تطويع لغته لملامح فضاء اشتغالاته الحداثوية، ليتماثلا داخل بوتقة واحدة.
نحن نعتقد بأن (منير راضي) قد كتب نصّ مسرحية (انا ماكبث) بعد ان اضطربت الصراعات داخل توهجاته الفكرية التي أسست لها بواعث نبيلة للولوج الى عوالمه المتأججة أولا، وثانيا لتمكنه من الدخول الى محراب شكسبير الذي شكَّل له رمزا خالدا في المنفعة المسرحية، من خلال ذلك التصوّر الدرامي الأمثل، وهذا البذخ الجمالي في تأسيس ملهمه الفني (النصّ) عبر ذلك التنوّع الأنجع في استضافة شخصيات وأبطال شكسبير ليمثلوا أمام محكمة العالم السُّفلي ويدلوا بأقوالهم، وهذا الترف النوعي داخل النصّ، شكل طرازا خاصا في صيرورة الدهشة, وموردا فريدا للابتكار, وفسحة فاضلة للحداثة.
إن معمارية الأحداث التي شيّدها الكاتب المسرحي المبدع (منير راضي) في مسرحية (أنا ماكبث) تعلن عن مهارته الفائقة في بثّ وتضمين ثوابته الفكرية والأخلاقية والإنسانية، التي جاءت متوافقة مع شعوره الداخلي الذي يبحث عن الخلاص من قيود التاريخ المزيف، لذا لجأ الى مطاردة الأحداث، والتعليق عليها عبر شخوص نصّه وإبطاله، للوصول إلى الحقيقة، وهذا (الدايلوك) الذي جاء على لسان ماكبث في أول ظهور له في النصّ، والذي يؤكد هذا الأجراء الدرامي الذي جنح اليه المؤلف:
ماكبث:- العين السحرية ترصد كل ما طار وحط من الاهوال وشهوة البائسين, ولكنها لا تحفظ عذرية الغدر وخيانة الاحداث, هناك من يتقاسم بكارة الليلة الاولى في اقبية الملوك لان الملوك هم من يصنعون القراصنة, وهناك الغدر في تزييف الحقيقة وتدوير الاحداث حيث ما يشتهيه كرسي الدم وحيث ما تحط خراج الذهب على موائد الشعراء, مئات من السنين والدهور صيروني أنوء بثوب الرذيلة والعهر,(يقف ) هناك من خدع التاريخ بمعول صلد تكسرت عليه آثام الزيف وجعلني مربوط بساقية كلاب جهنم , جعلني كاتب ذاك المسفوح بدم سيده دانكان قاتلا شريرا يزمجر رعبا وفتكا بالملوك , انا المذبوح بحبر القلم وريشة الشمع الاحمر, انا المطعون بزيف قدح الكلمات و صيادي التدوين المارقين, انا الجنرال ماكبث انا فاتح السفوح والجبال , انا صياد المردة والجن الازرق ، انا صائد الذئاب المتخمة والمترفة, في زمني اجتمعت الذئاب والكلاب معا).
إن هذا التصرَّيح الطافح بالأسى والبؤس والشعور بالظلم الذي جاء على لسان ماكبث، يبدو بأنه يأتي متقدما في النصّ، لتعليل الفكرة اللامعة التي ساقت المؤلف لتحويلها الى سلطة جمالية نصّيّة، وجدلية قائمة، تفرض سحر أدائها الفني على مساحة النصّ, ليستدعي بذلك مماثلاتها الجمالية المجاورة كالثيمة والحوار والشخوص والفضاء الزمكاني، لتدعيم المدرك الحسيّ، وإنعاش حيزات المدرك العقلي، وهذان المدركان جاء ضبطها بعناية ليلازما إجراءات محاكمة شكسبير في افاق النصّ، لتطبيقها على عالم الحيوات البشرية, لاستخلاص الحكمة المراد احتضنها عبر هذه المحكمة التي يترأسها الملك لير وبعضوية هاملت وعطيل، باعتبارهم هيئة المحلفين، وبذات الوقت هم الشهود على تزيف الحقائق التاريخية، ليحقق المؤلف بذلك هدفه السامي من خلال المعالجة الفكرية الناهضة، من خلال الأطر الشكلية والموضوعية التي جاءت مسعفة ومعاضدة للنصّ، واختيار المكان والزمان الملائم لإجراء تلك اللعبة المسرحية الذكية التي أوقعنا فيها (منير راضي) بقصدية الفاعل المُجرِّب, لنعاود قراءة النصّ مرة ثانية، واكتشاف خباياه، وما يخفيه من أسرار، لإعادة إنتاجه، وابراز ملامح تشفيراته، وتحويلها الى مرتكزات حياتية صارمة، ومرّنة بذات لحظة تقصي الحقيقة، لإجراء معادلة التفكير لإيجاد الحلول الرصينة في الوصول الى الحقائق المجردة، والخالية من ملغمات التاريخ، وزيف أقلام المُدوّنين.
وفي النهاية .. يجري الحوار التالي بين ماكبث والملك لير وهاملت وشكسبير ليكون الومضة الحقيقة المُشعّة واللامعة في فكر الكاتب (منير راضي) التحريضي الباحث دائما على كشف الحقيقة، ونزع اللثام عبر قصديته الوعيوية الفاخرة في إدانة سرديات التاريخ المزيفة.
ماكبث:- (يخاطب شكسبير) ايها المزور للحقائق ومفرق الأحبة, اي فعل درامي هذا الذي هشم تاجي وكسر سيفي وجعل من اسمي وصمة عار في قاموس الالقاب, وزوجتي الحبيبة جعلتها تنتحر بالجنون, (يصرخ كالمجنون) سأقتلك الان, سأقتلك الان, سأقتلك.
هاملت:- (يقف اما القرار الاخر فهو أخطار يعمم في العالم السفلي وايضا العلوي بأن هناك اقتراح لفتح كل ملفات عوالم مسرحيات الشاعر شكسبير وعددهن 38 حكاية واعادة النظر في مظالم البعض من هم على شاكلة النبيل ماكبث.
الملك لير:- لذا سيبقى باب هذه الجلسة مفتوح لحين الاتفاق على هذا الامر, غصن ولاء النبلاء لا يذبل فيما بينهم ايها الشاعر).
ومن اجل إيجاد الحلول الفضلى لقراءة التاريخ، وعلى ضوء الوقوف على أحداثه المتتالية، من اجل اكتشاف الحقيقة، ومن اجل ان نضع أيدينا على ما هو مزيف زائل، وما هو حقيقي ثابت، لذا مارس المؤلف الوازع الإنساني والثوري ضمن فروض البحث عن ضالته (الحقيقة) فأجرى مباحث مسرحيته الجريئة، والتي كان على رأسها، مهمة إعمال العقل الراكد، واستنهاض الوعي الخامل، لإحداث صدمة تؤدي الى مراجعة فهم التاريخ أثناء عملية الاستقبال لدى المتلقي، ليعيد بعدها قراءته للتاريخ، واثبات الحقيقي منه، وعزل الزائف، ونحن نعتبر ان هذه النهاية المثلى للوقوف على الحل الجذري الأنجع في صيرورة ثيمة النصّ، وفعاليته الباثة، ويأتي هذا الاكتشاف عبر فحص التاريخ بإحداثه الكبرى للخروج بنتائج مرضية وعاقلة، حتى لو كانت بمثابة بصيص الضوء الأول في بحثنا الدائم عن الحقيقة.
وفي مجريات ختام أحداث المسرحية، يتجلّى لنا الإفصاح عن موقف المؤلف بوضوح إزاء هذه اللعبة المسرحية الماتعة، حيث يركَّز على العقدة الرئيسية عبر هذا الحوار بين ماكبث وشكسبير:
ماكبث:- (وهو يحمل تلك العباءة الحمراء وهو يخاطب شكسبير) تتكلم عن الحكمة دائما ولكن لا تبصر ان في اغلب اشكالها سيف ودم (يبتسم ابتسامة عريضة في وجه شكسبير ثم ويخرج وهو يسحب ردائه الاحمر ورائه وكأنه ملك منتصر).
شكسبير:- (وهو ينظر الى ماكبث المبتسم ) المهزوم اذا ابتسم, افقد المنتصر لذة الانتصار, ولكني شكسبير الذي لم ولن يهزم يوما ما (يتحرك ويقف خلف المنصة ويدفع بها الى مقدمة المسرح في مواجهة الجمهور) أخنجر هو ام لساني نصله أأنا شكسبير,,, ام شكسبير انا (يطرق المنصة بالمطرقة ).
إن هذه المحاورة الكاشفة عن المضمر في متبنيات المؤلف المسرحية التي تتّسم بالحثّ الفكري، من خلال نتاج البثّ الحواري المركز لإنعاش مهمته الغنية بمنهجه الدلالي الذي يحث على التغيير، ومذهبه الملحمي، على صعيد تنامي الصراع والاقتراب من الذروة التي تفضي الى النهايات عبر السياق الدرامي، وبالتالي فأن ماكبث يلعب لعبته الكاشفة لنوايا شكسبير التي أنجبت مسرحيته (ماكبث) وتلاعب من خلالها بمصير البطل، حتى لوث يده بالدم، طلبا للكرسي، بدلالة المعنى الموجز في حواره حيث يصرح (تتكلم عن الحكمة دائما ولكن لا تبصر ان في اغلب اشكالها سيف ودم) وهذا الدايلوك يدين شكسبير بوضوح على اعتباره المُتسيّد على مصائر أبطاله، حتى إذا اقتضت الضرورة الدرامية في عصره، على المراوغة وتغيير تلك المصائر، ليرد عليه شكسبير بمقولته الشهيرة (المهزوم إذا ابتسم، افقد المنتصر لذة الانتصار) وهذه علامة كبرى يشير لها المؤلف بعناية فائقة لتعلن انتصار المهزوم في الواقعة على المنتصر حينما يبتسم، ومدلول الابتسامة هذه، هي ان التاريخ مهما طال مكوث الوهن بين طياته، بغية نكران الحقيقة، والنظر إليها بعيون مغمضة، لكنها سترى النور في أزمنة لاحقة، يكتبها المتسلحون بالوعي لصالح ملحمة التغيير، ويعلنها الشرفاء الذين يحملون قيم النبل البشري، والحسّ الثوري النجيب.
لقد تمظهرت قوة شخصية ماكبث في نصّ مسرحية (انا ماكبث) في قدرتها العالية بالثبات على الموقف عبر الوازع الموضوعي والدلالي لتبرئة نفسه من عملية القتل تلك، فقد كشف لنا المؤلف المبدع (منير راضي) عن خفايا الحقيقة التي لم يذكرها شكسبير في مسرحيته فجعل ماكبث قاتلا, باحثا عن السلطة، ليثبت العكس وأنه الفارس النبيل الذي لا يمكن له القتل غيلة، وهو الذي لقى حتفه في أحدى المعارك الكبيرة الحاسمة, وكانت هيئة المحلفين الذي شكلها المؤلف استكمالا للعبته المسرحية الفاخرة، والتي تألفت من الملك لير وعطيل وهاملت وهم إبطال مسرحيات شكسبير، الذين ربما نالهم من مخيال شكسبير ما نال ماكبث من التزييف في حقيقة موتهم، لذا جاء مخيال المؤلف وافرا وخصبا ليعقد هذه المحكمة في العالم السُّفلي.
وأخيراً .. سيبقى نصّ مسرحية (انا ماكبث) للكاتب المسرحي المبدع (منير راضي) من النصوص الحداثية المُجدّدة، والتي سجلت لها حضورا فاعلا على خارطة كتابة النصّ المسرحي العراقي، لما يحمله من مفارقات شكَّلت امتيازا فاخرا على صعيد نضوج المستوى الفني والجمالي والملحمي وفق خاصية اللعب الحرّ داخل آفاقه الدرامية التي اشتغلت على مناطق مغادرة السائد والمألوف في كتابة النصّ المسرحي، وعلى طرح جملة من الأسئلة الكبرى التي استدعت المعالجة الفكرية والحسيّة لثيمة النصّ عبر معطيات التفرّد في إيجاد الحلول الناجعة لإعادة كتابة التاريخ وفق معايير واعية للفهم التناولي لاستدعاء مهمة قراءة الأحداث بعيون أكثر اتساعا، وبوعي تشاركي استثنائي بين الكاتب من جهة، وبين المتلقي من جهة ثانية، ونحن شخصيا بانتظار المشاكسة المسرحية التالية التي تفضي لذات النسق الملهم في مسرحية (أنا ماكبث) لمعرفة ما تحمله لنا ذاكرة الكاتب (منير راضي) ومخياله الخصب المُتجدّد عبر متبنيات الحداثة في فن كتابة النصّ المسرحي العراقي.
سعدي عبد الكريم/ ناقد مسرحي عراقي