تناصات العبور في الخطاب المسرحي (بغداد والمعيبر عبد) أنموذجاً / يوسف السياف
أغلب الأحيان ترتبك ذاكرة المتلقي (القارئ/ المشاهد) بتشظيها ما بين الآن والمندثر، لما يمتلكه العقل البشري من خاصية التخزين رغم ملكة النسيان، وهنا لا بد من أن يتمكن الخطاب المطروح الولوج لمنطلق العصرنة والتجديد والابتكار والجدة والتلاعب بالذاكرة الداخلية والخارجية والابتعاد عن التناص غير المبرر ليتمكن المنتج من تجريد المستهلك/ المستقبل عن مفهوم الماضي/ السابق/ المتناول/ المطروح، أو الاشتغال على مفهوم الطي الزمكاني أو التنويم اللحظي لخلق الاندماج والتواصلية, فبعد قراءتي لنص مسرحية (المعبير عبد) للكاتب العراقي (حيدر الشطري ) ومشاهدتي للعرض- الذي أخرجه الفنان (عكاب حمدي)- تعالقت ما بين زمن قراءتي للنص وزمن المشاهدة وبين متراكم الذاكرة، وما ذلك إلا دليل على استحضار المؤلف أثار نتاج آخر، فلا يستساغ لكاتب محترف التوارد أو التناص أو الاستعارة من منجز آخر على وجه الاستغراق بقصد، إلا أنني أجد مبررا ربما يكون غير منطقيا إزاء ذلك، فمن المسلمات ملاحقة المشتغلين في الحقل الأدبي والفني الركب العالمي ومعرفة الماضي والتواصل مع الحاضر، ولما تضفيه تلك الملاحقة وزخم القراءة والمشاهدة تتفاقم تلك الفوارز، فعلى من يلج عالم الاحتراف أن يتجنبها، وعليه الإحاطة من الأيقونة والسيمولاكر.
إذ أن عملية حفظ الدماغ وبحسب دراسة العالم (الألماني) (ايبنغاوس) تحت عنوان (منحني النسيان) قد أثبتت في أن النسيان زمنيا تصل فترته إلى أسبوع واحد أو حتى لساعات قليلة اعتمادا على الذاكرة المؤقتة، ولعل هذا يبرر ما اشتملت القراءة للنص الدرامي ونص العرض المشار إليه وتناصه مع نص مسرحية (بغداد) للكاتب (عبد الرحمن جاسم) المنشور في موقع (الحوار المتمدن) الإلكتروني بتاريخ (7/11/2005م)، لا سيما التناص غير مباشر (للحكاية) كأساس أول لكتابة النص رغم بساطة تراكيبها الأدبية، وما أعنيه بالحكاية ليست الحبكة من منطلق العلاقة بينهما (التساؤل/ ماذا حدث بعد ذلك- والسؤال/ لماذا)، وما الفكرة إلا توأم الحكاية التي تكون غايتها توضيح الفكرة المعمقة للحكاية، وقد ارتكز النص الدرامي (للشطري) ونص العرض على تأكيد ما ذهب إليه (انبرتو ايكو) عن مفهوم (النص المثقوب) لتأكيد فكرة سد الفراغات وملء فجوات النص وخلق التساؤلات، وتمييز حبكته بنوعها البسيط في إحكام بناء النص وتكوين الحوادث وتحويل مسار الحكاية وشبك الوقائع وفق منهجية كتابة النص المسرحي الدرامي لا الملحمي.
ونتيجة لإرهاصات التناص لدى النقاد العرب الأوائل الذين أدرجوا المفهوم تحت عدة مسميات على مستوى اللفظ أو المعنى، وكما ورد عن (القيرواني) في (العمدة في صناعة الشعر ونقده) (إن من النقاد من عد (الاستعارة) اقتباسا أو تضمينا وليس سرقة، ومنهم من عد (الانتحال) بنسب الشيء إلى غير صاحبة، ومنهم من عد (الاصطراف) لجلب شيء وصرفه إلى نفسه، ومنهم عد (الاجتلاب) بصرف الشيء على سبيل التمثيل، ومنهم من عد (النسخ) لأخذ المعنى، ومنهم من عد (المسخ) بأخذ المعنى والتصرف فيه أو تشويهه، ومنهم من عد (السلخ) بأخذ المعنى بعد تحريفه أو تحويره). وما تعلق ( الشطري ) بنصه الدرامي (المعبر عبد) مع نص مسرحية (بغداد) وتفاعله على مستوى البنية الدرامية إلا تناص واضح لا يحتاج إلى تفسير وتحليل، لكننا سنبين، فهنالك تناص مكاني وهو (النهر) وضفتيه بالإضافة إلى مفردة المنظر المسرحي (البلم)، على الرغم من أن رؤية المخرج قد أطاحت بهذه الفرضية من خلال جغرافية المكان المفترضة، إذ نجد أن الجرف يحيط بالبلم من أربع جهات، تتعالق فيه الافتراضات (جرف/ جمهور/ سوق/ سجن/ جبهة/ مكان المهندسين/ جسر)، وبحسب متوالية الفعل الأدائي انطلاقا من فعل التجديف الذي ناقض الحوار مرورا برمي الشباك رمزيا ولا أجد مبررا لذلك لواقعية الأحداث ووجود شباك الصيد ضمن سينوغرافيا العرض، وانتهاء بسكون القارب.
فيما نجد أن التناص قد جاء من خلال شخصية (المعبير) في كلا النصين هي منطلق لبث الصراع بين الإنسان ومحيطه وما بينهما وبين وجود الشر والقضاء عليه في نهاية الصراع عبر تلك الشباك بصريا، فضلا عن تشابه الشخصية الرئيسة (المعيبر) في مجمل أبعادها الجسمية والاجتماعية والنفسية وفاعليتها مع النص المشار إليه سلفا، إذ نجد أن الأحداث لكلا النصين تدور حول شخصية (المعيبر) وهو يسعى إلى نقل الناس من ضفة إلى ضفة أخرى.
وهنالك تناص ذاتي يتمحور في بعض الشخصيات الثانوية كتناص شخصية (هولاكو/ نص مسرحية بغداد) مع شخصية (إله البحر: انكي / نص مسرحية المعبر عبد)، وجاء التناص أيضا عبر آلية القتل والاستلاب وانتهاك الحرمات، فيما نجد أن هنالك تناص ذاتي في الواقعة الدرامية لاسيما الثيم الإنسانية للشخصية الرئيسة ( المعبر ) بالإضافة إلى واقعة القتل وانتصار الخير على الشر، فيما نجد أن للتناص الأسلوبي حضور لاسيما في أسلوب التغريب والروي على لسان الشخصية، ناهيك عن تقارب أزمت الشخصيتين.
نعم هنالك نوع من نمو الأحداث وتراكم مضمرات نص مسرحية ( المعيبر عبد) والتي أعطت سمة التميز والنضوج بإسقاط الأحداث السياسية والاجتماعية المواكبة لتمرحلات الزمن والإشارة برمزية عالية للاحداث المأساوية لاسيما أحداث (داعش الإجرامية) التي أكدها الفعل البصري في خطاب العرض، بل لإيكاد مؤلف النص أن يتجرد من الأصل حيث إنه حاكى إشارة صاحب الأصل (بغداد) باستحضار مأثورة الأخ الفنان (سعدون جابر) (يالمعيبر)، إلا أنه قد أخر التنويه عليها في نهاية عرضه للأحداث وتم تغييبها إخراجيا والاستعاضة عنها بأغنية للشاعر(عريان السيد خلف) لحنت من أجل العرض، وهذا ما يحسب للمخرج. وعلى الرغم من دعوة (بأختين) للتجاور بين النصوص وتأكيده على التناص كظاهرة حياتية فمن الواجب التنويه على المنجز المتناص منه.
فيما نجد أن الانطلاقة الثانية لخطاب العرض من زاوية الأداء التمثيلي الذي برع فيه الممثل (عبد الله كريم) كان كلا من جزء وليس العكس، بمعنى القدرة العالية للممثل من إغناء بموجوداته المادية والحسية وتسيده عليها، لا سيما ابتعاده عن المبالغة والتشخيص وقدرته على التحول، مما أعطى الحرية لتقنيات الحركة الجسدية عفوية بارزة في الأداء والمرونة في الصوت، فقد تمكن من الولوج إلى الشخصيات وبيان أبعادها، وبهذا الكلية نجد أن قطع الديكور والمؤثرات الصوتية قد أغنى عنها الممثل وأصبحت لا حاجة لها في مساندة الأداء وكشف البيئة المفترضة، وهذا ما خلق بونا جماليا شاسعا ما بين تقنيات العرض السمعبصرية وتقنيات الممثل رغم جمالية المفردة المنظرية للجسر، وذلك نتيجة سكونها الفكري والدلالي وأحادية الحركة للمعنى، وهذه الانفرادية الجمالية لأداء الممثل كشخصية رئيسة افتقر إليها الممثلين المساندين له، على الرغم من محاولة المخرج جاهدا خلق هارموني أدائي بين الشخصيات وبينهما وبين فضاء العرض، نتيجة اشتراطية جغرافية النص الزمكانية، وهذا ما تطلب وبحسب المعطيات (البساطة والوضوح) في التأثيث، مما أتيح للمخرج مجالا ضيقا لميزانسين العرض وأنتج ذلك برود في الشكل والافتقار إلى التحول والمفاجأة، إلا أن المخرج سعى جاهدا للتخلص من هذه الهوة ومحاولة الاشتغال على عمق الرؤية الإخراجية من خلال الحفر في بواطن الشخصية والاشتغال على الأداء الذي جاء بالضد من المعالجة الإخراجية وتعالى عليها.