يوتوبية الأرض في مسرحية (في انتظار فلاديمير) / يوسف السياف

للديمومة والاستمرار معنيين مهمين في تشكيل الزمن كظاهرة مطلقة، على الرغم من هروب وحدة قياسه من الدائرة المغلقة في بعض الطروحات المفاهيمية، رغم أن خطاب العرض المسرحي يمكن قراءته كبنية زمنية مركبة، لذا جاء تصميم فولدر عرض مسرحية (في انتظار فلاديمير) للمخرج (سجاد حسين) بالضد من فلسفة الانتظار الذي استَبعَدَ من خلاله الكاتب العراقي الدكتور (مثال غازي) هيمنة الزمن بظاهره وقياسه لخطوط الطول والعرض رغم عودته إليه، تلك الخطوط المتناقضة مع مفهوم الانتظار، وهذا ما أكده الشخص ذو الملامح اليائسة وهو يحمل جزء من الساعة التي هيمنت على فضاء الفولدر، مع تحفظي لعد احتوائه على ذكر المتناصة من مسرحية (في انتظار كودو) للكاتب (الأيرلندي)(صمويل بيكيت).

وانطلاقاً من عتبة العنوان أؤثث قراءتي لخطاب العرض، فما العنوان إلى محاكاة لمسرحية (في انتظار كودو)، رغم خلو عنونة النص من حرف الـ(في) وبتصرف من المخرج الذي استعاض عنه المؤلف بحرف الـ(ب) من أجل الاستغناء عن الظرفية الزمكانية، إلَّا أنَّ المخرج قد نسف هذا المفهوم بفلسفة الانتظار السلبية وهيمنة المكان للتمرد على الثيم القارة باستحضار (فلاديمير)- في العنوان فقط كشخصية منتظِرة في النص الأصل لـ(بيكيت)- بدلا من (كودو) يوازي بالحضور المفاهيمي لكلمة (الانتظار) ليتمحور السؤال الأول الذي لا يمكن تركه بلا جواب، (لماذا غيب (كودو) وتشوه المكان، وأقتُرنَ (الانتظار) بـ(فلاديمير))؟، وبالتأكيد أجاب الخطاب في متون معالجته، إذ نجد أن هذا المتناص ما هو إلا إعادة كتابة (الانتظار) بحله معاصرة, وعلى ان الخلاص في يد الإنسان وليس بالقوة الخفية/ كودو، لذلك انقلبت المعادلة باتجاه الإيمان بقدرة الإنسان على التحكم بمصيره ومغادرة الزمكان.

لا يتوفر وصف.

جاءت محاذاة خطاب العرض لدائرة (بيكيت) بفعل نظرية التفكيك، لولادة خطاب جديد يعيد رسم الانتظار بمتناصة اتخذت مضمون وهيئة مغايرة عن الأصل، وما محاكاة الثيمة / الانتظار إلا إشارة لما أشير إليه مرات عدة عبر تمرحلات الزمن انطلاقاً من شرعنة موضوعة (الانتظار) كطرس قائد للمعنى المستهلك والبحث عن الافتراضات والاستفهامات، والامتصاص والتحويل قد أفسد تلقيم (الانتظار) في امتزاج معناه بين النصين، وهذا ما يعطي سمة المحاولة والتجديد للخطاب المطروح في متون العرض.

فيما نجد أن استهلالية العرض قد انطلقت من خلال بحث (إستراغون) عن رفيق المحنة (فلاديمير) عن طريق الثقب الضيق في القبعة الغربية، فقد أراد المخرج أنْ يؤثث لفعل بصري فأبدع في توظيف ضوء الليزر اليدوي ليضيف بعداً جمالي غني بالعلامات لا سيما وان ذلك الضوء المخترق لثقب القبعة قد انشطر وانعكس على جدران خشبة المسرح وكون بذلك صورة فيزيائية اغنت الحدث، ولما حققه المشهد الاستهلالي من أهمية في تهميش فكرة الانتظار بضيق حجم رؤية البحث الموازي لحجم ثقيب القبعة وسراب المبحوث عنه إلا انطلاقة لخط الفعل الرئيس بقيادة الممثلين كمنظومة أدائية شملت الصوت والحركة لترسيخ الاواصر في رسم تقنيات الممثلين الذين اصبحوا منسجمين مع فضاء العرض.

لا يتوفر وصف.

وصف المخرج الواقع المرير ليس بصورته المفرطة وذلك خلال المبثوث الرقمي المتخيل, لكسب الفضاء المسرحي قوته البصرية وبعده الجمالي، لذا حققت الصورة البصرية متعة الإثارة وتحريك خيال المتلقي، فقد ترجم المخرج الحدث عبر لغة بصرية تتمحور حول جوهر الفعل الدرامي، لذا جاءت إنشائية المكان المتأثثة لمجمل المفردات النظرية وفق حط سير الأحداث، فلا يوجد في المسرح من مفردات قارة سوى مكعبين وأربع إطارات حديدية معلقة في الفضاء وتكوين يرمز لشجرة بيكيت، إلى أن هذا التأثيث كان مدروس من قبل المخرج لاسيما في الاشتغال على التحول الدلالي ومغادرة السكون، فتارة نجد تلك الإطارات عبارة عن قيود، وتارة أخرى نجدها توحي لنظارتين يبصر من خلالها الشخوص، فيما نجد أن الأشرطة الحمراء قد قرئت على أنها أغصان شجرة وفي أوقات أخرى قرئت على أنها حبال تحول الفضاء إلى حلبة صراع، فقد كانت (الأشرطة/ أغصان الشجر) أشبه بعصى الساحر، احاطت المسرح، وكانت خير دليل على بوس مفهوم الانتظار بهيمنتها على المنتظرين (تكميم الافواه/ تقييد الايادي والارجل/ حجب الرؤية)، فيما نجد ان توظيف الوسيط التكنلوجي للداتاشو جاء مكملا للفكرة، فقد اباح الكثير لا سيما المسكوت عنه، وطرحت تطور الآخر باستمرارية الحركة، بالإضافة إلى المقاربة المفاهيمية بين جرائم الماضي والحاضر، لا سيما تشبيه جرائم (نيرون) بالأحداث الدموية التي عصفت بأبناء سومر (الاحتلال، الطائفية، التهجير، احداث تشرين، هدم المعالم الثقافية والدينية) برمزية (القيثارة/ بوابة بابل) بتشكيل جمالي مبهر، بالإضافة الى طرح مقارنة بصرية ما بين المنتظرين ونقيضهم في المادة الفيلمية الاخيرة، على الرغم من اعتراضي على تلك الإحالة الرمزية التي ترجمت تخلف الطائفة المنتظرة مقابل تطور الآخر، فلا يمكن التعميم بالانتظار على أنه سلبي فقط، فيما نجد للزي كان حضور لافت في التشكيل البصري، على الرغم من أنَّ زي (استراغون وبيكيت) لم يبتعد كثيرا عن شكل الازياء في اغلب العروض التي تناولت مسرحية (في انتظار كودو)، فيما نجد أنَّ ازياء بقية الممثلين كانت اضافة رائعة للشكل الايقوني لتلك الازياء، إلا أنَّ الشخصيات المساندة كان لها حضور لا يمكن للفكرة أنْ تكتمل دونها كما الموسيقا التي جاءت كقيمة حسية مفسرة في العرض.

لا يتوفر وصف.

تمكن المخرج من حرف مسار الاحداث وفق معالجة اخراجي بصرية يعتمد الأداء التمثيلي الموازي لمنظومة السينوغرافيا، فقد عمل على قلب المعادلة وجعل (بيكيت) في دائرة الاتهام ومن ثم الاطاحة بفكرة (الانتظار) بانتظاره أيضاً، وهي استمرار للفكرة وتكرار عبثي، لينهي العرض مفاهيمياً من حيث من ابتدأ (بيكيت) وافتراض مسافة زمنية لاحقة لزمن الاحداث السابقة بطي زمني غادر المكان من خلال ضهور الشخصيات بعمر أكبر، وكأننا ندور في حلقة ما أنْ ننطلق حتى نصل إلى نفس النقطة، لينقلب العرض من والى نفس الحيرة بعد كبح الارادة بالأشرطة الحمراء، بمساهمة حركة الضوء المنبعث من جهاز موضوع في وسط وسط المسرح ضمن موجودات التكوين الذي يرمز لشجرة تتوسط المسرح, حركة ضوئية عكس عقرب الساعة حولت الاحداث من زمان إلى زمن آخر, وبذا تمكن المخرج من استنباط قيم الجوهر، واستثمار التحول الزمكاني كارتباط اساسي في تحويل المفاهيم وتأكيد هيمنة الانتظار حتى بعد رفضها وفق لحظة قياس الحدث, لينهي العرض بصرخة ترجمها الفعل الادائي للشخصيات الصامتة من خلال استخدام أداوت لمكافحة المبيدات لتطهير فكرة الانتظار السلبي الذي شمل خشبة المسرح بموجوداته المادية والحسية والصالة, فكلنا ضمن هذه الدائرة, وان اردنا الاستمرار فلابد ان نتطهر من الانتظار السلبي وملاحقة العالم.

 

لا يتوفر وصف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت