مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة من شغف الممارسة إلى صناعة الفرجة / هشام حكام
يعتبر مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة من بين المهرجانات المتألقة في سماء أبي الفنون، فهو مهرجان نابع من رؤية متبصرة لرجل يضع الثقافة الفنية نصب أعينه، إنه فضيلة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الإنسان المثقف والراعي الأول للفنون الدرامية بإمارة الشارقة عاصمة الثقافة والفنون والآداب، وخير دليل على ذلك أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية التي تسهر على تكوين الطاقات الشبابية أكاديميا ومهنيا سواء تعلق الأمر بالتمثيل أو المسرح أو الموسيقى.
إن هذه الإلتفاتة السامية لسمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، تدفع مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة إلى يقظة فنية تستهدف الطاقات المسرحية الواعدة بهدف تفجير مكنوناتها الإبداعية الخلاقة على مستوى الركح، حيث شغف الممارسة الفنية والصناعة الجمالية للفرجة المسرحية، ومن هذا المنطلق عملت إدارة المهرجان على تسطير برامج مكثفة هدفت من وراءها إلى زرع شحنة سحرية في ذهنية الممارسين للفن الدرامي، والمتجلي في تخصيص ورشات تكوينية من قبل مدرسين مختصين في التمثيل والإخراج والسينوغرافيا، ناهيك عن تمكين الطاقات الشبابية من دروس نظرية يتعرفون من خلالها على تاريخ الفن المسرحي وعن مدارسه واتجاهاته عالميا وعربيا ومحليا.
إلى جانب هذه الأمور التي تجعل من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة متفردا ونوعيا تطعيمه بندوات فكرية وجلسات تعقيبية على العروض المسرحية المنجزة، يحضرها نقاد وباحثين مختصين في المسرح من أقطار عربية مختلفة، حيث يتم تبادل الخبرات والأفكار أثناء التعقيب والمناقشة، ومما يزيد الأمر بهاء وجمالا ومعنى وفكرا، حضور فنانين محليين لهم وزن وثقل وقامة فنية عريقة في ممارسة الفن المسرحي بدولة الإمارات، ما يمنح الشباب المسرحي الحس الفني المرهف الذي يستمدونه من الرواد، فيختمر الزاد المعرفي والجمالي في صقل مواهبهم، واستشراف مستقبل الممارسة المسرحية لديهم.
يسعى مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة إلى تحقيق الذائقة الفنية والتربية الجمالية عبر ترسيخ وعي مسرحي لمرتادي دور المسرح، كون أن المهرجان لا يكتفي بمشاهدة العروض من قبل الجمهور فقط، بل يمنح الحس الجمالي للفرجة رؤية أخرى تتحدد فيما بعد العرض، حيث يتم التعقيب على الفرجة من قبل مختصين في المسرح سواء كانوا نقادا أو باحثين أو ممارسين، غايتم إبراز المكونات الجمالية للعرض المسرحي بدء من الاشتغال على النص وخضوعه للكتابة الركحية، ثم الإخراج، فالتمثيل والسينوغرافيا، مبديا تصوره الفكري والجمالي للعرض المشاهد، وهذا ما يرسخ لدى المتلقي ثقافة مسرحية هادفة تجعله يعي ما يشاهد، فالجمهور الذي يقصد المسارح للفرجة، ليس جمهورا ذا رؤية واحدة، بل متعدد ومختلف، فيه المهتم والمتخصص والهاوي، والمتفرج العادي، لذلك فخاصية الجلسات التعقيبية تمنح المهرجان أكثر فاعلية في صناعة الفرجة وتثبيت التربية الجمالية والذائقة الفنية لعشاق الفن الدرامي.
لقد برزت صناعة الذائقة الجمالية لمهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة في دورته العاشرة بشكل كبير حينما تحدت النصوص المحلية والعربية، وانفتحت على النصوص العالمية ذات الاتجاهات المختلفة في تصوراتها الجمالية للكتابة الدرامية، فبدا الاشتغال من قبل الممارسين على هذه النصوص واضحا لدى المختصين، كون أن الأمر لا يبدو بالسهولة الممكنة، فالتعامل مع النص العالمي ومجاورته يتطلب الدراية والفهم العميقين له، حتى يتمكن الممارس من إعادة كتابة النص بتصوره ورؤيته الإخراجية للعرض، وهنا يحضر مفهوم الدراماتورجية الركحية الذي يمنح المشتغل على النص العالمي ميكانيزمات إعداد العرض المسرحي، ولكي يتم الوصول إلى هذا المستوى العالي من الاشتغال، فإن إدارة المهرجان كانت على وعي من ذلك، فسخرت أدواتها المعرفية والمهنية من خلال العمل بالورشات (الإخراج، التمثيل، السينوغرافيا، الدراماتورجيا) التي يشرف عليها مدربون ومدرسون من ذوي الاختصاص.
ومن ثم، جاءت جل العروض المسرحية في الدورة العاشرة محبوكة ذات قصدية واضحة، تتماشى والتوجه الفني المرسوم من قبل إدارة المهرجان الساعية إلى دفع المشاركين إلى “اختبار قدراتهم، وإظهار مهاراتهم الإبداعية، عبر مقاربة ومعاينة التراث المسرحي العالمي، والاشتغال على النصوص القصيرة، والنظريات والتيارات،والمفاهيم، والتجارب المسرحية الرائدة والراسخة“، وقد تبدى هذا التوجه الفني في مختلف العروض المشاركة في المهرجان، ويمكن رصد بعض ملامحها في النقاط التالية:
- الاشتغال على اتجاه العبث بشكل كبير حيث حضور نصوص صمويلبيكيت، وأوجينيونسكو، وجان جنيه، وهو اتجاه مسرحي له خصوصيته الفنية القائمة على اللاجدوى من واقعية العالم الذي دمر الروح النفسية للإنسان الأوربي جراء مخلفات الحرب العالمية الثانية التي أفسدت القيم الروحية والأخلاقية مما جعلها في صراع دائم ومحتدم، لذلك فإن نصوص العبث التي تم عرضها من قبل المشاركين لم تخرج عن هذا السياق الجمالي، ما يفسر الاستيعاب الفني للنص العالمي لهؤلاء الشغوفين، والذي بدا واضحا في العملية الإخراجية، والأداء، والسينوغرفيا.
- الانفتاح على مدارس واتجاهات مسرحية أخرى، من أمريكا، وتركيا، وروسيا، وكلها تعالج قضايا فكرية واجتماعية ذات أبعاد إنسانية مثل الحرب، العلاقات العاطفية الأسرية والعائلية، والفكرية والسياسية، ما يعني أن هناك رؤية جمالية متعددة قاربت الفرجة المسرحية من زوايا نظر مختلفة سماتها الأساس صناعة الفرجة.
- حضور لافت للعب الدرامي على مستوى الركح من خلال توظيف فضاء سينوغرافي ينحو نحو جمالية الفراغ وملأه بجسد الممثل، ناهيك عن دور جمالية الإضاء التي كانت تميل إلى التوظيف الرمزي والإيحائي حسب طبيعة كل حدث على مستوى الركح، كما لعبت الموسيقى في مختلف العروض دورا دراميا كان بمثابة نص موسيقي محبوك يتناغم مع فنية الأداء.
لا يقتصر مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة على صناعة الفرجة وشغف ممارستها من قبل الممارسين الهواة فقط، بل إن مساحة الرؤية تتسع أكثر حينما يتم تخصيص قضية من قضايا المسرح يتم عرضها للتداول والتفكير في الممارسة المسرحية، وتعتبر هذه المسألة من أبرز مخرجات المهرجان، إذ فيه يتم ترسيخ المفاهيم والنظريات والأفكار المتعلقة بأبي الفنون سواء تعلق الأمر بالجماليات المسرحية بصفة عامة، أو تخصيص موضوع يخص طبيعة الدورة للمهرجان، كما هو الحال بخصوص الدورة العاشرة حينما تم التركيز على المسرحيات القصيرة..التجربة العربية وآفاقها، وإلى جانب ذلك يحتفى المهرجان بالمتخرجين الجدد من حملة شهادة الدكتوراه في ملتقى الشارقة للبحث العلمي، من مختلف أقطار الدول العربية، وتعد هذه المسألة ذات أهمية بالغة في الاهتمام بالبحث العلمي الأكاديمي قصد تبادل الرؤى والتصورات لمقاربة الظاهرة المسرحية ببعديها الفكري والجمالي على مستوى الوطن العربي.
عموما، إن مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة في دورته العاشرة، شكل حدثا بارزا في صناعة الفرجة المسرحية بامتياز، والذي من خلاله تفجرت الطاقات الإبداعية للممارسين المسرحين المشاركين في هذه الدورة، لتتحقق الرؤية الفنية التي رسمتها إدارة المهرجان من خلال تجريب النص العالمي، وإخضاعه للكتابة الدراماتورجية لتفكيك شفرات النص، وإبراز مستويات الفرجة إخراجا وأداء وسينوغرافيا، وكل هذا كانت غايته أن يمتلك الشباب الشغوف حرفية الكتابة الدرامية، وممارسة الإخراج بطرق فنية وعلمية تضع نصب أعينها صناعة الفرجة المسرحية بكل مكوناتها الفنية والجمالية.