اروين بسكاتور وثورة التغيير / مجيد عبد الواحد النجار
عندما جاء القرن العشرين احدث ثورة كبيرة في المسرح، موازية للانقلاب الكبير الذي حدث في المسرح بداية القرن السابع عشرن عندما ادخل المسرح الى القاعات المغلقة كانت ثورة القرن العشرين تختلف هذه المرة فهي انتقضت ضد كل ما هو قديم، وصممت على تثوير المسرح، وتغير، السائد فيه، ان كان على خشبة المسرح او في قاعة العرض، لذلك طال التغيير الركائز الاساسية في المسرح المؤلف والمخرج والممثل والجمهور، وقد شق كل مؤلف او مخرج طريقا خاصا به يطرح افكاره بالطريقة التي تمكنه بأحداث ثورة في المسرح.
فقد توجه اروين بسكاتور بتجارب في تحويل خشبة المسرح الى غرفة الية، والقاعة مركز اجتماعات، وحول المسرح الى برلمان، والجمهور الذي يحضر العرض هيئة تشريعية، أراد من خشبة المسرح ان تقدم صور، احصائيات، شعارات تساعد الجمهور البرلمان على اتخاذ قرارات سياسية، وهذا لا يعني ان مسرحه خالي من الهتافات والتصفيق، بل انه أراد ان تكون هناك مناقشة جادة داخل المسرح، وان لا يكتفي بإعطاء الجمهور تجربة فقط، بل ان ينتزع القرارات من صلب حياته العملية، ولذلك اصبح الجانب التقني مهم لديه ومعقد، وبهذا كسر بأفكاره الجديدة كل ما موجود من مفاهيم مسرحية لدى الكاتب المسرحي او لدى الممثل، فوضع من خلال أفكاره اساسية جديدة، فهل تمكن جمهور بسكاتور فعلا من اصدار قرارات سياسية تخدم المجتمع، وهل كانت القاعة العرض تشهد نقاشات وجدالات في امور الدولة والمجتمع، اسئلة من حق القارئ ان يسألها عندما يطلع على هكذا توجه، وعندما يحاول تفكيك نظرية ما من اجل الوصول الى قناعات محددة، تبين له صدق الهدف من النظرية والتغييرات التي ظهرت نتيجة عرضها على المجتمع، اعتقد انه طموح كل مبدع احداث تغيير في المجتمع من خلال تقديم نظرية معينهن يسهر عليها ويبحث من خلالها كل ما هو مفيد ونافع للمجتمع، ولكن لا توجد للأسف احصائيات عند تطبيق هذه التجارب من قبل صاحب النظرية لمعرفة ما مدى تأثيرها على المجتمعين وهل تحقق ما يطمح اليه صاحب النظرية ام لا، اذن تبقى النظرية طموحا مشروعا لصاحبها في تحقيق اهدافه.
لان من يرسم اهدافا للتغيير يجب ان تظهر للوقع ولو بعد حين خصوصا وان بسكاتور في البداية كان مهتما بالأهداف الاجتماعية والسياسية اكثر من اهتمامه بالتقنيات التي أراد إدخالها في مسرحة، فهل تحققت هذه الاهداف التي رسمها وخطط لها في نظريته، ما هو التغيير الذي حصل في المجتمع، من ناحية الوعي، او الاقتصاد ماذا حدث في السياسة، هل تم اصدار قوانين جديدة على ضوء ما قُدّم على خشبة المسرح، واصدرت قوانين تخدم الطبقات الفقيرة، وتستهجن الطبقات البرجوازية مثلا، ام هل عدلت الدولة من سياساتها الداخلية والخارجية، نعم انها اسئلة مشروعة تبحث عن اجابات عدة، فيما اذا عرفنا ان بسكاتور حاول وفي عشرينات القرن العشرين ان يفسر الاحداث السياسية من وجه نظر الشيوعية، ففي البداية حاول ان يجمع المعلومات، والوثائق حول الموضوعات السياسية ويخلق منها سرديات قصصية.
لقد انطلق بسكاتور في مسرحه السياسي من المسرح البروليتاري الذي كان الأساس له، بل يعتبر المسرح السياسي امتداد الى المسرح البروليتاري، وادخل على الأول التعديلات على مستوى الموضوع والشكل، وقد ركز على المواضيع التاريخية لمناقشة مفاهيم سياسية، وركز كذلك على الجداريات التي استخدمها من الفن التشكيلي كالإطارات، ومن ثم اصبح لديه استعراض تاريخي( بانورامي) واستمرت عروضه في أسلوب التقطيع، أي عمل لوحات (فريم) لكل مشهد او لكل حدث، كما استخدم الشرائح الضوئية والسينما، وهذا ما نشاهده في مسرحية (رغم كل شيء) التي استعرض من خلالها الحركات الثورية منذ سبارتا كوس وحتى الثورة البولشفية.
لقد ارتبط التوجه نحو المسرح السياسي في العصر الحديث لحاجة المسرح الغربي الى تجديد، الى مسرح يغير من الواقع شيء ويؤثر بالمتفرج من الجهة الثانية بشيء من الوعي، وكذلك تخصيص المسرح من خصوصية الحضور الى عمومية شمولية. نعم الكل تبث عن التجديد في تجاربها، وتركز على الجمهور في زيادة وعيه، اذن ماذا حصل؟ فهل كان القرن العشرين مثاليا في حياة الشعوب، هل كان هناك استقرار سياسي واجتماعي في الدول الاوربية، هل توقفت الحروب، او الاقتتال بين العصابات والجماعات المتطرفة، هل توقف التهريب والفقر والتشرد والجهل وووووو. ماذا جنينا من التجديد؟ ماذا فعلت لنا التجارب خلال كل هذه السنين؟ اذن تبقى هذه التجارب والنظريات هي طموح صاحبها وطوح من يشتغل في هذا المجال العظيم.
لقد اعتبر بسكاتور ومنذ البداية، رائد للمسرح الوثائقي والتسجيلي واعتبر كذلك الاب للمسرح الملحمي، وقد اعجبت برلين بعروضه التعبيرية، وذلك من خلال استخدامه للآلات المعقدة والمعدات الثقيلة والتقنيات العالية والمتطورة، في تحريك المنصات وتحريك خشبة المسرح التي دائما او في اغلب عروضه يقسمها الى أجزاء، واستخدامه للأضواء الكاشفة وابواق السيارات، واصوات المدافع، والمعدات الثقيلة، والطبول واستخدام المسرح الدوار وارضية شفافة للمسرح واستخدام تقنيات وابتكارات جديدة لم يتعرف عليها المسرح من قبل، كما استخدم الفلم السينمائي وكان يعتقد ان المسرح جزء من وسائل الاعلام وكان جل اهتمامه ينصب نحو التعبير في كل شيء، لخلق مسرح جديد، كما كان مصمما للقضاء على المسرح البرجوازي.
قد جعل المسرح برلمانا والجمهور هيئة تشريعية، يطرح المشاكل والقضاء، ويطلب منهم الحكم ، كما كان يتطلع الى (مسرح جامح) يحتوي على كل ما هو موجود في الحياة الطبيعية، من جسور، والآلات ومكائن ومنصات ذات تقنيات عالية. وهذا ما اقصده بالقول ان المسرح هو تدوير للواقع، اني اقصد ان المسرح لا يمكن ان يبتعد عن الواقع في طرح جميع المواضيع التي يتبناها، وحتى كل ما يستعمله من ادوات والآلات على خشبة المسرح، ولكن هذه الاشياء والمواضيع تقدم حسب ما يراها الكاتب والمخرج، فالكاتب يستمد افكاره من الواقع، ويخلق شخصياته هو ويبنيها هو، ومن ثم يأتي المخرج لفكك النص ويعيد افكاره ويأخذ من الواقع كل ما يحتاجه في طرح أفكاره، ويقدمها بطريقته التي يراها، في سبيل متعة واثارة وتوعية الجمهور.
لقد اخذ بسكاتور موقعه في القمة لما قدمة من تجارب ومحاولات جاده في تغيير ما هو ثابت لذلك فهو يعد الرائد الحقيقي في استعمال مصطلح (المسرح الملحمي) واستخدامه للتقنيات هي ليس من اجل الانهيار، بل من اجل تعديل وظيفة المسرح وتأثيره على المتفرج، وهذه العناصر الملحمية ادخلها على المسرح السياسي الذي كان عاملا به بعد المسرح البروليتارية، وطبعا كان ادخال هذه العناصر على مستوى العرض والنص، مثل تعديل العرض وإدخال عروض سينمائية وشرائح ضوئية وكسر حدة تماسك النص، بإدخال عناصر وظيفية وتفسيرية، والتوجه للجمهور. اعتقد جازما ان كل التغييرات التي اراد المخرجين احداثها في المسرح بدأت بالنص، فلولا احداث التغييرات في كتابة النص من الناحية التقنية، لا يمكن للمخرج ان يفعل فعلته في احداث تغيير على خشبة المسرح، فما كتبة شكسبير لا يمكن تقديمه بطريقة ملحمية ما لم يحصل تغيير او أّعداد للنص من قبل مؤلف او مخرج العرض، فبسكاتور لم يطرح قضايا تتعلق بالشكل (تكنيك المسرح) بل طرح قضايا تهتم بالمضمون أي داخل الشيء وليس خارجه، ولم يحصل مثل ما اراد وذلك لعدم وجود الدعم الكاف من اجل تغيير او فعل ما أراد ، باستثناء عرض مسرحي واحد هو( التمرد) والذي انتجه بتقنيته الخاصة، كما لم يذكر اسم المخرج اثناء العرض.
كان يعتقد ان بسكاتور يقدم عروضا برجوازية، عندما ادخل في عروضه الآلات ومكائن ومنصات ذات تقنيات عالية، وكان هذا يعارض توجه المعارضة حينها التي كانت تعمل لأسقاط البرجوازية، والتي ارادت ان تقدم اعمال تسقط البرجوازية فيها وتحط من قدرها وقيمتها، لذلك لم يقفوا بجانب بسكاتور ويقدموا الدعم الكافي لتجاربه، رغم كل ما قدم من دراسات وبحوث لم يكن يقصد دعم البرجوازية فيها بل اراد ان يقدم مسرحا مختلفا، يرضي به طموح الجمهور ويحدث تغييرا فيه. ومع هذا فقد اتهمه الفتكان باشتراكه في محرقة اليهود، عندما قدم مسرحية (النائب) عام 1963 تأليف (رولف هوكهث)،واخرج بعد ذلك عام 1965مسرحية (التحقيق) تأليف (بيترويس)، وهو ملخص لتجربة كوستشويثر في فرانكفورت، واستخدم لهذا العمل تكنلوجيا حديثة ليعزز من الرسالة السياسية، ثم بعد ذلك اخرج عروضا مسرحية (تسجيلية) يوضح للمتفرجين من خلال التعليق وعرض الأقلام، الاحداث الحقيقية الموازية للمسرحية التي يشاهدها المتفرج تعرض امامه، ومن هذه المسرحيات مسرحية( الجندي شفايك الشجاع) و (الحرب ولسلام) .
لقد أراد بسكاتور من خلال نظرياته في المسرح البروليتاري، والمسرح الطبيعي، والمسرح الملحمي ان يغير من المذهب الطبيعي، وذلك باستخدام الوسائل الفنية والتقنية، وقد كانت عروضه في المسرح السياسي شاهدة على ذلك، لأنه يعتقد ان رسالة المسرح هي التدخل بطريقة إيجابية في مجرى الاحداث المعروضة امام المتفرج المراد تغييره، او تطوير ذهنية وتحويلها الى ذهنية إيجابية عاملة في المجتمع، ومن هذا المنطلق الإنساني أراد كذلك ان يوثق حياة البطولة ويوثق في مواضيع ما يسمى (بالسير الذاتية) لأناس قدموا خدمة للوطن وتركوا اثرا في الحياة الاجتماعية، والسياسية، كما عارض وبشدة ان تعرض الامور الحياتية كما هي، أراد بسكاتور وحسب نظريته ان يستفاد من الأمور الحياتية والتي اعتبرها دروسا تفيد الحاضر، وان لانفهم المسرح على انه مرآة العصر، بل يجب ان نفهمه على انه وسيلة لتمويل العصر بالأفكار والمواعظ والحكم من كل ما يحصل في الزمن الماضي او الحاضر، والاستفادة منها، وان يقدم هذا الى الجمهور بفلسفة تاريخية فلسفية قائمة على الحقيقة التاريخية وحدها، لان الادب اذا أراد ان يكون مرآة للحياة، وجب عليه ان يكون حقيقيا صادقا لدرجة القسوة، بمعنى ان يطرح كل القضايا ويتطرق اليها، ليس من باب التجريح بل من باب المواعظ والعبر.
كما انه لم يؤول جهدا في البحث والتقصي عن مسرح يخدم المجتمع ويطور ذهنيته، ولذلك استطاع ان يجد جذور المسرح البروليتاري في ثلاث حركات سابقة، هي : الطبيعية، والتغييرية، والفن الشعبي، لقد تمكن بسكاتور من جميع تلك الأفكار والنظريات وتحويلها الى ما هو اكثر نفعا واكثر مغزى. وان من اهم الاسس التي سار عليها في المسرح البروليتاري هي :
1. يجب ان تأتي الدراما بالدرجة الثانية في الأهداف الثورية حتى وان أدى ذلك الى احداث تغيير في النص .
2. يجب ان تستخدم تقنيات جديدة لتساعد في نقل المعاني الثورية .
3. يجب ان تمثل النتاجات المسرحية الجهد التعاوني لجميع العمال.
4. يجب ان يكون أسلوب الإنتاج بسيطا ومباشر لكي تبقى المقاصد الثورية واضحة للجميع.
5. يجب ان يجند الممثلون من بين افراد الطبقة العاملة وليس من بين المجموعات المحترفة.
كان بسكاتور من اهم المخرجين اللذين قدموا مسرحا وثائقيا في المسرح الألماني، ولكن هذا المسرح الوثائقي والمسرح التسجيلي كانا مجرد مرحلة في مساره وبوابة و لدخول المسرح الملحمي، فقد انطلق من توجه الموضوعية الجديدة ومن مسرحيات الزمن، لكنه ذهب ابعد من ذلك، لأنه لا يريد لمسرحة ان يقتصر على مواضيع بسيطة ومحددة من الواقع المعايش فقط، بل انطلق الى التاريخ، وما فيه من مواضيع غنية تلبي وتستفز أفكاره، وطرح رسالته الإنسانية، وما استخدامه الوثيقة التاريخية في المسرح السياسي الا من اجل ربط الاحداث القديمة بالحديثة، ومقارنتها والاستفادة منها.
لقد كان بسكاتور رائدا في البحث والتطبيق لكثير من النظريات الجديدة التي اراد من خلالها ان يثور المسرح، فكان يتنقل بأفكاره بين المسرح البروليتاري، والمسرح السياسي والتعليمي، ورائدا متميزا في المسرح الوثائقي والتسجيلي، الذين كانا البوابة الكبيرة التي دخل من خلالها الى المسرح الملحمي، الذي وضع له الاسس والقواعد كاملة، والتي ميزته كثيرا عن المسرح السائد الذي كان يطلق عليه (الكلاسيكي او الارسطي، او الاغريقي).
فهل كانت تجاربه تأخذ مكانتها لدى النقاد والباحثين عن التجديد، ام ان ما قدمه راح باتجاهات مختلفة عن طموحات وافكار زملائه من المسرحيين، الذي كان يعتقد البعض منهم انه كان يدعم البرجوازية لمجرد انه قدم عروضا برجوازية حسب اعتقادهم، مخالفا الكثير في توجهاتهم في محاربة البرجوازية والوقوف مع الطبقة العاملة، متناسين انه اسس من خلال تجاربه التي لم تنقطع، المسرح البروليتاري، وما قدمه من اعمال في هذا المسرح، وتناسوا ايضا المسرح السياسي وكيف كان يطرح افكاره من خلال هذه البوابة الكبير.
ولكن رغم كل هذا يبقى اسم بسكاتور مجددا ومنظرا للكثير من النظريات التي غيرت وجددت في العرض المسرحي ، بدأً من النص ومرورا بالإخراج والتمثيل، وانتهاء بالجمهور.
المصادر:
1/ ينظر : أريك بنتلي ، نظرية المسرح الحديث ، ترجمة : يوسف عبد المسيح ثروت ، ط2 ، ( دار الشؤون الثقافية العمة ، افاق عربية ، بغداد ، 1986).
2/ ينظر : د. سامي عبد الحميد ، ابتكارات في القرن العشرين .
3/ ينظر : جون لينار وماري لوكهارست ، المرجع في فن الدراما ، ترجمة : محمد رفعت ،( المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ،2006 ).
4/ د. ماري الياس ود. حنان قصاب حسن ، المعجم المسرحي ، ( مكتبة لبنان ، بيروت ، 2006).
5/ ينظر: جيمس روس ايفاتز ، المسرح التجريبي : من ستانسلافسكي الى بيتر بروك ، ترجمة : فروق عبد القادر ،(مركز الشارقة للأبداع الفكري ، ب ت ، الشارقة).
6/ ينظر : برتولد برخت ، نظرية المسرح الملحمي ، ترجمة: د. جميل نصيف ،( دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1973).
7/ ينظر : اوديت اصلان ، موسعة فن المسرح، ترجمة: سامي احمد اسعد ، ج2 ، ( دار الطباعة الحديثة )