سردية الجسد في ترنيمة الانتظار / د. ايمان الكبيسي
تتجسد وظيفة العرض المسرحي في انتاجية دلالة تواصلية متواصلة تعتمدفرضية ان المتلقي شريك اساس في عملية الابداع الفني المسرحي عبر وسائل اتصالية منها ما هو لفظي واخر يتعداه الى غير اللفظي عبر ايماءات وحركات جسدية واشياء وابعاد لها تعاطيها الخاص مع المنظومة البصرية ضمن تداول مفاهيمي يوفر للاتصال قيمته ويصل به الى الهدف. فبعد ان كانت السيادة المسرحية للكلمة والنص الملفوظ غابت شمس الحوارية في ظل مسرح ما بعد الحداثة عبر التشجيع على التجريب وتوظيف جسد الممثل والفضاء وباقي مفردات العرض مشهديا بغية التعبير عن تلك الرسالة وايصالها بطرق يجد فيها اكثر بلاغة وامتاع، وما نلحظه في مسرحية “ترنيمة الانتظار” ما هو الى جزء من ذلك التجريب الذي اطاح بالكلمة على حساب لغة اخرى مرئية .”ترنيمة الانتظار” هو نص معد من النص المسرحي “في انتظار فلاديمير” للكاتب العراقي (د. مثال غازي) في تناص مع مسرحية “في انتظار غودو” لصمؤيلبيكت، من انتاج الفرقة الوطنية للتمثيل / دائرة السينما والمسرح، تم عرضه على خشبة المسرح الوطني في مرتين المرة الاولى كعرض منفرد والمرة الثانية ضمن فعاليات افتتاح مهرجان بغداد المسرحي بدورته (4).
من العتبة الاول للنص متمثلا بالعنوان نلمح فكرة الانتظار والملخص ضمن ترنيمة منضبطة الايقاع في مسارين متساويين الحضور احدهما افقي والاخر عمودي، وكأن معد او مخرج العمل اراد القول انكم ايها الجمهور امام انشودة فيها القرار والجواب معا، انشودة تكاد تكون خالية من النشاز. على مستوى النص قدم فيها (غازي) شخصيتين تمثلت بـ(ستراكون والرجل) الذي يظهر فيما بعد انه (بيكت)، الشخصيتان في حالة انتظار لقدوم فلاديمير وبعد تُكشف الكثير من المعلومات عن تلك الشخصيتين تدخل في تجاذبات وصراعات حتى تصل الى اتفاق ينص على قتل فلاديمير في منحى الى اسقاط فكرة الانتظار وضرب قدسية المنتظر في تماهي مع فلسفة ما بعد الحداثة. وهنا نجد (مثال غازي) قد ذهب في معالجته لنص الاصل الى مغايرة جمالية نحو زاوية اخرى غير منظورة وهو كعادته صاحب التقاطات ذكية احترافية على مستوى الكتابة. هذه المغايرة لم تتوقف عند حدود النص المكتوب بل انزاحت نحو فضاءات العرض على مستوى الطرح والية الطرح، اذ استعاض (على حبيب/مخرج العمل ) عن الملفوظ الحواري واللغة المنطوقة الى لغة مرئية تمثلت بدلالات وعلامات عبرت عنها لغة الجسد للشخصيات الرئيسة والساندة التي مثلتها المجموعة، فضلا عن المغايرة في استعراض الشخصيات الرئيسة عبر مرورها على فكرة الانتظار تاريخيا للحضارات والديانات المتعاقبة في لوحات جسدتها المجموعة الكيروكرافية لطقوس بوذية وزرادشتية ومسيحية واسلامية وغيرها، هذه اللوحات كانت مفاتيحلفك مغاليق العرض المسرحي الذي جسدته شخصيتين متحررتين من كل القيود الا قيد الفكر العقائدي الذي ربطهم بانتظار شخصية مقيدة في الاصل وغير قادرة على تحرير ذاتها جسدها المخرج في شخصية المنتظر المقيد اعلى المسرح، فهذا المنتظر الذي له القدرة على تحريك الجميع من خلال اسطرة وجوده في وقت يكون هو عاجز عن تحريك ذاته، كون قضية الانتظار والمخلص لا تقتصر على فكر ومذهب او عقيدة معينة بل هي سائدة لكن بترجمات متنوعة. وبعد ذلك الاستعراض التاريخي تصل الشخصيات الى قناعة مفادها الخلاص من المنتظر ومن فكرة انتظاره عبر تحطيم الاشجار دلالة على تحطيم مرتكزات الواقع المعيش والانتقال الى بناء مرتكزات لحياة اخرى اكثر واقعية وتحرر؛ جسّدها مخرج العمل عبر توظيف مشهد الفتاتين في صراعهما مع المنتظر والخلاص منه اعلى المسرح في دلالة لحضور المرأة المُعزز بالأمل والبناء والحياة الجديدة التي تنزاح عن الاتكالية والضعف نحو الارادة النتشوية في تقرير المصير وتغيير الاحوال.
ان التعبير الجسدي طريقة مغايرة عن التعبير عن التعبير الادبي وهذا التعبير افعال ينبغي ان ينصب نحو معنى محدد ويقيني بل في احيان كثيرة نجد في التعبير الجسدي بلاغة اكبر في ايصال معنى تعجز عنه الكلمات الجسد، فعلى مستوى خطاب العرض والية تعاطي الممثل والمجموعة مع السينوغرافيا بكل تمثلاتها (السمعية والبصرية) فقد تمحور في اكثر من مرحلة شكل الزمن حضورا ضاغطا فيه عبر اكثر من علامة تمثلت في اصوات اميال الساعة وحركة الممثلين باتجاه عقارب الساعة في اكثر من لوحة مشهدية.
استأنفها مخرج العمل بوضع سينوغرافيا متكونة من انابيب سحب الهواء المعلقة في الاعلى مع حضور الدخان واصوات الاجراس الكنائسية او ربما اصوات دقات الساعة وسحب تلك الانابيب في اشارة الى مشهد ولادة سواء على المستوى الفعلي او الفكري الذي يحيل الى التحول الدائم وعدم الثبات؛ فالحياة في ديناميكية مستمرة، اراد مخرج العمل من خلالها استعراض آلية ولادة فكرة الانتظار ومن ثم توظيف ستارة القماش المثقب لغرض اختراق اجساد المجموعة له في حركات متعاقد عليها عرفيا تحيل الى الزمن وايقاعه الثابت فضلا عن فكرة اختراق الفكر السائد في تلك الازمنة التي وضعها العرض ضمن الفكر الرجعي المؤمن بغيبيات تستلب الوعي وتعمل على تغييبه، وتكرار تلك الصورة المشهدية في قصدية مغايرة تنحو نحو الهروب والتخلص من ذلك الاستلاب وتفكيكه من الداخل عبر التبئير؛ لتبدأ حياة اخرى بوعي مغاير وفكر حر، كما وظف الحبال بشكل يتماهى ونسقية العرض.
وهنا نجد ان مخرج العمل نجح في اتخاذ مسارين متعامدين في العرض المسرحي احدهما افقي ترجم سياحة جمالية لفكرة الانتظار لدى الشعوب والحضارات واخر عمودي انطلق نحو ولادة الفكر ومراحله وتداعياته وقد ابلى حسنا في مسك زمام هذين المسارين، اما مايؤخذ على العرض فهو التكرار المشهدي وعبثية الحركات في احيان كثيرة وهو ما يشتت التلقي ويجعل الرسائل ضبابية وهذه قضية لاتؤخذ فقط على ترنيمة الانتظار بل على اغلب عروض الجسد التي تعاني من التناصات الكثيرة والضبابية والثرثرة الحركية.
على مستوى الاداء فقد كان الممثلون على مستوى عال من الاحترافية والالتزام لاسيما الفتاتين (عراق، وغفران )اللاتي ابدين تفوقا ادائيا ومرونة عالية. كان للتوظيف الموسيقي امتيازا عاليا مع تشكيل اللوحات.
وعودة على بدأ وكون المسرح رسالة تستوجب حضور الطرفين (المرسل والمستقبل) مع تعاقد عرفي لأليات الرسالة وحروفها، وهذا التعاقد يُلزم المرسل بإيصال رسالته الى المتلقي والا فان الارسال فاشل، هنا يتبادر اكثر سؤال الى الاذهان منها:
هل كانت ترنيمة الانتظار رسائل مفهومة للمتلقي سواء كان اكاديميا ام غير ذلك لردم الهوة بين المسرح العراقي والتلقي؟
هل وجد المخرج في تحييد النص الملفوظ ضرورة تغني العرض وتزيد من جماليته؟ ام هو مجرد سير على خطى (ارتوا) الذي ضاق ذرعا بالنص وبالكلمات، وجعل جل اهتمامه وتركيزه على العناصر المشهدية (جسدية وصوتية ولونية وتشكيلية ومعه بدا الاهتمام بأهمية الاداء الجسدي؟