المفسرة التركيبية بين العرف والتفرد في مسرحية بيت ابو عبدالله / يوسف السياف
ربما يوصف المسرح العربي على إنه متأيقن لاسيما تغطيته التركيبية لشكلين متخالفين, وهذا ما يربك آلية التلقي, رغم حضور المثاقفة وسيولة المجتمعات, فقد بات التباس المعنى واللا تحديد واللا دقة سمة اغلب العروض المسرحية, نعم هي محاولة لمسايرة الجديد وملاحقة العصر, لكن يجب أنْ نعترف بأنَّ لكل مجتمع مرجعيات ثقافية تساهم في رسم العلامة وتشكيل الذائقة, فمن البديهي عن المسرح محاكاته للمجتمع لتحقيق ملكته التواصلية بتعدد اشكالها التي مَيّزت الإنسان عن غيره من الأنظمة البيولوجية الأخرى, وما يميز المسرح طقوسيته وتواصله القريب/ المباشر مع المتلقي بقناتيه السمعية والبصرية سيميائية كانت أم إيقونية, وإعطاء الإذن لعملية التأويل والتفاعل وفق طبيعة المبثوثات ومدى اقترابها من البيئة كعلاقة مترابطة بين أفق الأثر وأفق تلقيه, وهذا لا يعني اننا لا نتواصل مع الآخر ونتبادل المعارف, فلا يمكن وصف التجارب المسرحية المعاصرة بالحُوشية لغرابتها وعدم ملائمتها ونفورها من الموضوع/ المستهل, فدائماً ما يثير اللا متوقع الجدل, لذا نجد أنَّ عرض مسرحية (بيت أبو عبدالله) الحاصل على جائزتي (الإخراج والسينوغرافيا) في (مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الرابعة) قد استفحلت في شكله اللا معتاد المدونات الغنوصية والهرمسية وفق منظومة فلسفية تهدم النسقية والارسطية وحتى الملحمية, وتقوض وتنفي مبادى حدود العقل الساكن, وهذا ما عَقدَ من آلية التلقي والتأويل, انطلاقاً من كراسة الإخراج ومروراً بآلية التنفيذ.
ولا يمكن ترك العنوان أو التهكم عليه إلا بإحالته وفق منظور دستوبي, فعلى الرغم من شفافيته ما أنْ نرصفه ضمن خطاب العرض كحامل مع المحمول/ المستعار له والمستعار منه نجد بانه ينطلق من المحلية/ الشعبوية, ويتعالق مع مبثوثات الخطاب وقدرية المثاقفة ومدلول المكان المفترض, ليتحول من الشفافية الى الخشونة بفساد منظومة بأكملها (بيت ابو عبدالله/ بيت الجحيم), وبذلك لا يمكن ترك العنوان بمفرد, بل جعله عتبة لمسرد الدلالة السيميوزيسية اللا متناهية وأفق التلقي, فهو يعد كمنطلق أول للتأويل, كَوَنَ خطاب العرض بعلاقة ما بين انطلاق التأويل القار والفعل التأويلي المستمر, عكس المتاهة التأويلية المنقطعة التي لا رادع للعلامة فيها.
ولما حققه العرض من تضارب في القبول والرفض بين مؤيد ومعارض نتيجة لمرجعيات المؤول وثقافته الموسوعية أو القاموسية, لاسيما وان استنطاق الفعل التدليلي للخطاب قام على انتاج علامات لا متناهية (سيميوزيسية) تؤثر في ضوء حركتها وانسيابيتها كمعادل موضوعي لإنتاجها باللا استقرار على مؤول مباشر معين, فيمكن قراءة العرض ايقونياً من العنوان على إنه بيت, لا بل يمكن تأويله من خلال المؤول الدينامي على انه مختبر, اشبه بحقل تجارب لفئران, من خلال دالة/ مؤول (الفأر) المبثوث رقمياً على الجدار, بالإضافة الى الجبن الموضوع بصحن فوق مائدة الطعام والحضور الومضي للطبيبة المعالجة, فيما نجد ان الاستنطاق الثالث لحامل الموضوع/ المؤول الاولاني والاحاطة به من منطلق موسوعي, فيقرأ العرض من خلال العنوان على انه مكان اعمق من الحضيض تسكنه عائلة كنموذج لمجتمع يعاني من انتهاكات متعددة, كل من يخترقهم يثلم حدودهم ويستولي على ممتلكاتهم ويطمس هويتهم, وبهذا خضع المؤول لرجة انتشلته من حيز المباشرية والايقونة والمألوف واستضافة عوالم غير متناهية وجعل العلامة سيميوزيسية غير متوقفة, فتوقفها قائم على ثقافة المتواصلين/ المستقبلين, وهذا ما يبرر القبول والرفض. ليؤثث المخرج خطابه البصري من مدونة الإخراج ثلاثية الزوايا, هرم يَتَسيد (المكان) في الزاوية العلوية, يتعكز الهرم على آلية الأداء وتحول التشكيل البصري وتأويل المتلقي, وقد استعان المخرج بخشبة المسرح الوطني وكواليسه ليجمع خشبة المسرح والجمهور بفضاء واحد, وكأن المتلقي هو جزء من المكان والاحداث التي تجري فيه, وهذا ما يبرر وبضعف الحجة سبب تقليص مكان الجمهور الذي ضمت عدد قليل لا يتجاوز (150 متلقي) على الرغم من ان مدى اتساع الرؤية لفضاء العرض تتطابق مع فضاء معمارية خشبة المسرح الايطالية التقليدية, إلا ان إلتساق (المؤدين)(وتقنيات العرض) بان واضحاً لتتطابق الاساليب التقنية بين العناصر الحية وغير الحية في غاياتها, ولخلق ثلاثية الثلاثية, المشفرة, الموضوعة, المصورة, فتارةً نجد حضور تقنية المؤدين (الاشباح) المتحكمين في حجم الرؤية وبقية المؤدين متناغم فكرياً وجمالياً ببولفونية مع تقنيات العرض الأخرى (ديكور/ اكسسوار/ اضاءة/ موسيقا/ مؤثرات صوتية وبصرية), ليأخذ الجسد من كل مسطح شرعيته, ويُكمل فعل المؤدي الحي فعل التقنية البصرية الممزوج مع حركة الاشباح والعكس صحيح,(حركة الفار وادخال رأسه بأنبوب الصرف الصحي وابحار العنكبوت طيرا بالخيوط ورمشة العين/ تقنية رقمية) (حركة المؤدي تسلق الحبل وادخال الرأس بالمرحاض والهلع من الرقيب/ تقنية ادائية حية), بالإضافة الى ائتلاف الفعل الاحتجاجي واشارات الجزع وفقدان الامل مع هيجان الجدران وهجوم الفئران وعزو الخفافيش, فيما نجد ان حركة المخطط الهندسي للمساطر المبثوثة رقمياً توعز للجدران الحية المتحركة مادياً بالتشكيل والتطابق معها لاسيما وان كل ما موجود على ارضية المسرح يتم التحكم به وانشائه من خلال الرقيب والمغتصب/ رقمياً,و هذا ما وازن المعادلة ما بين حضور المبثوث الرقمي والفعل الحركي التشكيلي لمجمل التقنيات للتطابق بذلك الغايات المفاهيمية وتتنافر الاساليب التقنية ما بين ما هو مطروح رقمياً وبين ما هو مؤثث حركياً وأدائياً.
وبفضل مرجعيات المؤدي الأيقونية دخل النشاط الفكري للجسد منطقة التجريد, وانتج عزل العناصر الحسية خارج عملية الادراك وخلط المحسوس البصري مع الخيال, وهذا ما يقود المتلقي لقراءة العرض ادائياً بصورة اعتباطية كنتيجة حتمية لِهُجنة الأداء المتجاور مع ثقافات مختلفة, وانتجت بذلك قراءة محايثة لثقافة جديدة وضعت العرض في مفسرة تركيبية متفردة بسمة السيولة والتخلي عن كل رجاء نقدي. فيما نجد ان حضور المغاير (انس عبد الصمد) بوصفه مؤلفاً ومخرجاً للعرض كان أدائه يقترب (لإرتحالات التماس) كفعل قاد المؤدية (ثريا بوغنامي) لالتماس الجسد, لتضم سرديتهم الأدائية بحسب الموقف إلى منطقة التفاعل بين مجمل مكونات العرض الاخرى, إذ أراد (المخرج) أنْ يبدو الانفعال معلقاً بين أجساد المؤدين وأذهانهم بشكل متوازي يغادر الأداء الانفعالي والتقمصي والعاطفي والمحاكاتي ضمن لقاء انفعالي, إذ جعل علاقة الجسد بالصورة البصرية اقرب للوصف الإيكفراسيسي من خلال تسجيله للصورة الهاربة للتشكيلات الفضائية والأجساد, وانتاج افعال لأدائية حرة بلا انقطاع, ومغادرة التماهي والتمثيل, وهذا ما جعل من بعض الثيم الأدائية تقترب للاسهاب والتشتت بقصد من المخرج لإيصال عدم ثبات علاقة السرد الأدائي مع العلامات باللعب الديالكتيكي للماثول والمؤول بين المعنى وتفكيكه (اكل الجبن/ الحركات المتكررة/ انحسار الجسد/ البحث عن الحرية في فتحت المرحاض/ الضرب للاحتجاج/ تقويض تراتبية المواد/ الانمحاء التجسيدي/ التشبث في حبل المشنقة وكانه المنقذ).
لم تكن اساليب التحرر كافية للسيطرة على الرقيم, فبِحضوره تسكن الضمائر, وبغيابه يثور المؤديين من الداخل, وهو دليل كافي على ادانتهم بالعجز, فلم توجه قبضة اليد نحو الغريب مباشرةً, وهذا ما يمكن عده احتجاج رمزي يَبتَدء من الداخل قبل الخارج, وبإتيان الهيمنة تسكن الثورة وينادي صوت الذات بالخلاص ويهلك, وهذا ما سطح بدخول المؤدي (علاء قحطان) حيز اللعب الأدائي, الغريب المشبه (بالعنكبوت) وخيوطه لم تكن واهنة بل كانت قيود كممت الافواه وقيدت الإرادة, فقد استولت اذرعه على كل شيء حتى حرية النوم, وعندما أراد أحدهم مسك احدى خيوطه والخروج من قعر الالم فشل بذلك. وبعد كل جلسة مائدة يعاد الوجع من جديد وكأنه فعل ديالكتيكي برهنته الحركة اللا مجدية للمؤدي وهو يتصارع مع الحبل بحركة دائرية بائسة تتسبب في قنص الجميع وابادتهم, وببرود الاعصاب واستسهال عملية الدم اقبلت الطبيبة من خارج حدود الفضاء/ جغرافية الوطن لتفحص أسنان الفار الشر وتبيان الضرر نتيجة قضمه للحياة وقرض الذات وكأنه كان في حفلت شواء, لتعاد الكرة وهكذا دواليك, الَّا أنَّ هذه المحاولة تسببت بفقدان الحدود/ الجدران ليخسر المؤدين/ السكان الحقيقيين كل ما يملكونه من معارف وفنون وآداب وثروات, لتنقلب اصواتهم المنادية بالحرية إلى جيش من الفئران والخفافيش, ففي بعض الاحيان يكون الصمت عن الظلم افضل من الكلام, ليعم السكون والالم والسواد, اصوات مؤلمة وحركة موحشة وسكون أدائي محزن, صمت حركي يعم المكان, كل هذا كثف منمفاهيم الغرابة والدوغمائية الجديدة والضياع وانعدام الذات والانتهاك والضيق من اجل الخروج عن المعايير الجمالية الرسمية والذهاب للجماليات المرتحلة وتغدوا السينوغرافيا الفئة المركزية وتوازي فئة الأداء وتتصل مع الكتابة الإخراجية, وهذا ما برر لتحويل المكان من خاص إلى عام, من زاوية الصفر إلى الفرجة الواسعة لاستبعاد المتفرج من فكره القديم بالمنظور احادي البعد وثبات المركز, فيما نجد ان بولفونية الصوت والصورة (التغوط/ اصوت الجرذان/ الموسيقا المصاحبة (ترقب- خوف- خطر)/ التدخين / السكون والحركة / الكتب/ آلة الكيتار/حقيبة كمان/ سكاكين واواني طعام/ كف ملاكمة/ وسادات/ جدران مغلفة متحركة/ كراسي/ عين (رقيب)/ غسالة) كلها مظاهر ساعد (الهابيتوس) بوصله مع الايديولوجية والهوية والجسد.