نقاد لا يختبرون رؤاهم وقراءاتهم.. الصرخة الثانية عشر في وجه النقد المميت../ يوسف الحمدان
النقد بطبيعته خطابا إشكاليا، ولا أعني هنا بالإشكالية طبعا، المفهوم السلبي السائد لمصطلح الإشكالية الذي يقع في فخاخه وشراكه كثير من النقاد والمنظرين، على أنه مشكلة تصيب الخطاب النقدي بخلل أو بعطب، وإنما أعني بالإشكال هنا، المصطلح التأويلي المولد من رحم التجربة مصطلحات متقاطعة ومتداخلة تفتح أفقا أرحب في مجال النقد وتأويله وتعاطيه على التجربة المنتجة أو المتصدى لها، ذلك أن الخطاب النقدي تكمن إشكاليته الفعلية في كونه خطابا متعدد الخطابات والرؤى، وصادر عن قراءات ومتكآت ذات اندغام إشكالي في صلتها بالمعرفة وبالعلوم الإنسانية وبتطور الاتجاهات نحو البحث في عناصر الرؤية ومنتجاتها وضفافها، إضافة إلى صلتها بالفلسفة كرؤية عميقة للفكر والحياة في فضاءاتها الجدلية والمركبة والإلتباسية، خاصة ما إذا تعالقت هذه الرؤية بعلم الجمال الذي تستمد الفنون منه كينونتها وتجلياتها، ومنها فن المسرح الذي يختزل الفنون كلها ويشكل من خلالها فنونا تقترح رؤى جديدة وتقتضي خطابات نقدية إكتشافية لطبيعة ونوعية هذه الرؤى، ذلك أن فن المسرح فن حي، الكلمة فيه تتجسد، والمكان والزمان لهما فضاءاتهما المتحولة والمتغيرة باستمرار، ومظاهر التلقي لها مكامنها ومولداتها الأنثربولوجية المتصلة بالإرث الإنساني بمختلف إشاراته وإيماءاته التاريخية والجمالية، لذا فإن الخطاب النقدي كما الفعل المسرحي، طبقات أشبه بطبقات الفلسفة الصوفية، تموت طبقة لتحيا طبقة أخرى، ومن هذا المنطلق فإن الخطاب النقدي خطابا إشكاليا بامتياز، ولإنه إشكاليا بامتياز فإنه يتملك قابلية التعدد في التأويل أيضا بامتياز، ولنا في هذا التصور أسوة بالنقاد والمفكرين في حقل التأويل والتفكيك والحفر الأركيولوجي «المعرفي»، من امثال لوران بارت وآن بروسفيلد وياوس وجوليان هيلتون وجاك دريدا وميشيل فوكو وباتريس بافيس وكاتب قصة الفلسفة وول ديورانت الذي قال: «أن في الجمال آراء بقدر ما في العالم من رؤوس»..
فإذا كان الفسح النقدي أمام منتجه وقارئه من خلال النص المكتوب متاحا وواسعا ولا يتوقف نظرا للكم الهائل من المنتج الكتابي الذي تضخه المطابع والمواقع الإلكترونية، فإن هذا الفسح في مجال المسرح مقرون أمره بما ينتج فيه من عروض مسرحية نوعية تستثير قريحة الناقد أو القارئ للعرض المسرحي وتسهم في تشكيل رؤى نقدية باحثة ومغايرة وقادرة على تأسيس خطابات نقدية ذات صلة بالمنتج المعرفي، وذات إمكانية على إثراء التجربة المسرحية التي تتخلق في معمل المسرح، فهل هذا الفسح، الطموح، الحلم، له حضوره الطاغي أو الملحوظ، اليوم في مشهدي النقد و مهرجاناتنا المسرحية العربية، أم تضاءل حضوره حتى بتنا نوشك أن نحضر مهرجانات ولا نرى مسرحا؟ أو نسمع جعجعة ولا نرى طحينا؟ ..
نحاول أن نقترب من تشخيص مشهد هذه المهرجانات أكثر ومدى تأثيرها على الخطاب النقدي أو تأثير هذا الخطاب على ما تنتجه هذه المهرجانات، وأزعم بداية أن الخطاب النقدي ليس في الأساس نتاجا لمهرجانات مسرحية وإنما هو نتاج دراسات وبحوث وقراءات مستفيضة في المسرح بمختلف اتجاهاته ورؤاه، المهرجانات واحدة من البيئات التي يتعاطى الخطاب النقدي وجوده وحضوره فيها، وبما أننا بصدد مشاخصة حالة هذا الخطاب في حيز هذه المهرجانات، سنمعن التشخيص أكثر في كل ما يتصل ويتعالق بمنتج العلاقة بين الخطاب النقدي والعروض المسرحية في هذا الحيز ..
العروض المسرحية في المهرجانات قاعدة، والنقد فيها استثناء، وما يوازي هذا النقد في استثنائيته هو العرض المسرحي الباحث، وقليلة، بل فريدة جدا هي العروض الاستثنائية الباحثة التي تجد لها حيزا مهما في هذه المهرجانات، إذ أن أغلب العروض المسرحية التي تتمشهد في المهرجانات، عروض مناسباتية، نتاج مقتضيات مهرجانية، وليست مؤسسة على رؤية باحثة واكتشافية تلامس فضاءات الخلق وتثير قلق منتجها وقارئها في الآن نفسه، وإذا كانت هناك ثمة عروض مسرحية توازي في استثنائيتها الخطاب النقدي، فإنها قمينة بأن تكون مجذية ومولدة لقراءات متعددة وتأويلية تذهب بالخطاب النقدي نحو آفاق جديدة وخلاقة ومؤثرة وإشكالية، ولكن هذا الاستثناء في بيئتنا المسرحية العربية ليس مرشحا لأن يراكم ويستمر في تجذيه بحيث يتحول إلى ظاهرة تطغى بحضورها المغاير على مشهد المهرجانات المسرحية العربية، وبالتالي تصبح في موقع التحدي للخطاب النقدي الذي من شأنه أيضا أن يتحول إلى ظاهرة استثارية واستفزازية للمشهد المسرحي النوعي بشكل عام ..
ولو أحصينا نماذج الخلق العرضي الباحث في مشهديات المسرح العربي، لوجدناها فريدة ونادرة ندرة العطر في الزهور .. وهنا أطرق أبواب التعاطي الباحث في مجالي العرض المسرحي والخطاب النقدي، ولا أتحدث عن التعاطي الأفقي غير الباحث والمؤسس على عرض التجربة أو توثيقها أو الاتكاء على معطيات تقليدية غير مؤهلة لأن تكون مكتنزة بقلق البحث والتحليل والتفكيك وطرح رؤية مغايرة تضيف لروح التجربة، عرضا ونقدا، أفقا إشكاليا وجدليا من شأنه أن يسهم في طرح أسئلة جديدة على لغة العرض والخطاب النقدي معا ..
إن مشهد مهرجاناتنا المسرحية توشك أن توميء إلى أننا نحتفل بعرض مسرحي واحد أو عرضين فقط من بين جملة عروض مسرحية كان ينبغي لها أن تكون في موقع الاحتفال والاحتفاء بها، ولعلني ذكرت بعض أسباب المشكلة، ولكن هناك من يرجع المشكلة إلى غياب النقد المختبري الذي يرافق تجربة العرض المسرحي لا الذي يرصدها من بعيد، ولكن هناك مشكلة أخرى ذات فروع في رأيي يوعزها بعض النقاد إلى زملائهم في حقل المسرح وإلى الجهات المعنية بالمهرجانات المسرحية، وهي عدم الاحتفاء بالنقد والناقد في بيئتنا المسرحية، فكيف يمكن لنا أن نطور حالة المهرجانات المسرحية نقديا إذا لم يتم الاحتفاء بالنقد؟ ! ..
الخطاب النقدي تثريه الحوارات والسجالات النقدية المستمرة، فهل هي موجودة في مسرحنا؟ كيف يتعاطى أغلبية مسرحيينا النقد في المهرجانات؟ هل يتقبلونه بصدر رحب؟ هل يحاورونه؟ هل يستجيبون لما يطرح من خلاله وبالتالي ينتقون ما يستحق منه لتطوير التجربة المسرحية؟ هل يستوعبون المسرح بما يكفي كي يستوعبوا ما يقترحه النقد عليهم من أسئلة وقراءات؟
للأسف الشديد، أغلب مسرحيينا ينتظر الناقد الذي يثني ويطبل ويزمر لتجاربهم المسرحية، ينتظر الناقد الذي يكون في موقع أقل من القيمة النقدية ذاتها، بل أقل حتى من مستوى العرض المتورط بمليون مصيبة فنية، ينتظر النموذج الذي يقودهم لتخلف أكثر مما هم عليه وفيه، ولعلني لا أنسى الزوبعة التي أثار غبارها بعض المسرحيين والأكاديميين ومن عازتهم الثقافة المسرحية من الصحافيين العرب ذات مهرجان مسرحي أقيم بالكويت، عندما حاولت الاستشهاد بدالة واحدة من دلالات سيمياء النقد على أحد العروض المسرحية المقدمة في هذا المهرجان، إذ قامت الدنيا ولم تقعد، وتجاوزت حدود اللياقة والأدب لتطال شخصي بدلا من الدالة والعرض والنقد، فهل يمكن لعرض مسرحي أن يتطور إذا كان وراءه مثل هؤلاء؟!
النقد لا ينمو ولا يتشكل إلا في بيئة مسرحية تتملك قابلية الجدل والاختلاف حول ما يقدم فيها من عروض وخطابات نقدية، وأنا ازعم أن بيئتنا المسرحية أصبحت نظرا لتراجع أغلب مستوياتها الفنية، طاردة للجدل والاختلاف، ولا عجب إذا لجأ بعض النقاد إلى الاكتفاء بالتنظير في المسرح وخطاباته وأدبه، نظرا لغياب ظاهرة التخلق في مسرحنا، أو اضطر لأن يقصد بعض المهرجانات والمؤتمرات المسرحية النوعية التي تقام في بعض دول أوربا، كي يكون على تماس حي وساخن مع ما يقلق رأسه في فسح النقد وإشكالياته وتعدد خطاباته، وبالتالي يكون قارئا مميزا لهذه المهرجانات والمؤتمرات، أكثر من كونه مطابقا لما يحياه في تلك البيئة المسرحية الخصبة والخلاقة لعروض مسرحية وخطابات نقدية تنتج في بيئته المسرحية..
قد يطلق بعض النقاد والمسرحيين على هذا النموذج من النقاد بأنه مغتربا ومغربا عن بيئته المسرحية ومتعاليا على ما ينتج فيها، ولكن من حق هذا الناقد أيضا أن يطلق على هذه البيئة بأنها بيئة مسرحية مغتربة عن المسرح ذاته وما يستجد فيه وما يطرحه من أسئلة شائكة وإشكالية ومعاصرة، وأمام هكذا وضع، ليس له سوى هذا الخيار أو التفرغ لدراسة وبحث تجربة أو تجربتين تنتجان في مسرحنا العربي وتتسقان مع ما يدور في رأسه من أسئلة نقدية..
الخطاب النقدي لا يتكئ على الخطاب الأكاديمي ( المسنفر ) الذي يتبين في أغلبه مواطن منظمة ومرتبة ومتفق عليها سلفا في تناول العرض المسرحي، لقد سئم هذا الخطاب الدرس التقليدي للعرض المسرحي، سئم الخطاب العارف الذي لا ينتج أسئلة ولا يصدر عن قلق، سئم المطابقات التي تنطبق في مجملها على أغلب العروض التي يتم التصدي لها أكاديميا وعارفيا..
نحتاج في مهرجاناتنا المسرحية للعروض المسرحية التي تختبر وتبحث بجرأة ومعرفة ودراسة لغة الجسد وتجلياتها واتجاهاتها، والكيروغرافيا التي توشك أن تكون خارج الاهتمام في مسرحنا، والرؤية البصرية بتنويعاتها الجمالية، بحاجة إلى مساحات ذات فسح رؤيوي لقراءة التيارات والرؤى الإشكالية التي تنتجها مابعد الحداثة وما بعد الإنسانية، باستثناء تجارب ابداعية مميزة ومؤثرة كتجارب توفيق الجبالي بتونس ومحمد الحر وأمين ناسور بالمغرب وعبدالله السعداوي بالبحرين، ومهند الهادي من العراق، على سبيل المثال لا الحصر، فهذه ركائز تكاد تكون غائبة ومغيبة في مسرحنا العربي ..
طبعا لا نريد ولا نود أن ينصرف نقادنا إلى التنظير من أجل التنظير بعيدا عن قراءة العرض المسرحي بسبب غياب العروض المسرحية النوعية التي نطمح دائما وأبدا إلى تحققها وتجسدها في فضاءات مسرحنا، فالتنظير لذاته لا يخلق مسرحا، ونماذجنا في ذلك بيانات كثيرة والتي سبقت العرض ولم تتجسد على صعيد واقع المسرح وغيرها من بيانات مسرحية، وما «أشطرنا» في كتابة وصياغة البيانات وتشكيل هيئات وجمعيات النقد في كل مهرجان مسرحي يقام..
والنتيجة طبعا «صفر» .. ونظرا لغياب أو رفض بعض النقاد الدخول في لعبة التنظير على حساب التجربة، أسندت بعض إدارات المهرجانات مهمة النقد والتنظير لبعض المخرجين والمؤلفين والممثلين، فتداخلت بذلك وارتبكت صور كثيرة في المشهد المسرحي وفي الخطاب النقدي، وبتنا لا نعرف إن كنا ما نصغي إليه شهادة تجربة أم قراءة من خارج المسرح أم أن النقد أصبح مستسهلا إلى هذه الدرجة من السذاجة؟ ويبقى السؤال: ما هي الركائز التي تتكيء عليها إدارات المهرجانات لاختيار العروض المسرحية ونقادها كي تؤسس لخطاب نقدي مغاير؟ فالنقد بريء حتى إشعار آخر..