الخيار الأخير، أم الخيار الوحيد../ نسرين نور
العرض الفائز بجائزة افضل عمل جماعي من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح الجامعي في دورته الخامسة..
عُرض ضمن فعليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح الجامعي في دورته الخامسة والتي تمت مؤخرا من 21 إلى 26 اكتوبر 2023 وحاز على العديد من الجوائز، جائزة أفضل عمل جماعي وجائزة أفضل إضاءة كما رشح لجائزة أفضل ممثل دور ثان.
في النشرة الدعائية للعرض المسرحي “الخيار الأخير” مكتوب أنه مستوحى من رواية “وليمة للغربان” للكاتب جورج.أر.مارتن وهي احدى أجزاء روايته الأشهر”النار والجليد” التي اخذ عنها مسلسل “صراع العروش”.
الاستلهام من الرواية جاء في أوضح صوره عن طريق الشخصيات النمطية التي يمكن اختزالها في كلمة واحدة والتي تمثل النخبة في مجتمع متحلل أخلاقيا وهم البخيل والسكير والغبي و الشرير و المثقف والعاهرة والحامل الأبدية… إلخ
الشخصيات جميعا لا تحمل اسماء ولكن صفات، وإحداثيات الزمان والمكان مجهولة تماما ولا ينم عنها الديكور أو الحوار أو الملابس، بما خدم الموضوع ومنحه خصال عالمية حيث يمكن أن يحدث في أي زمان ومكان.،كما خفف من حدة التناول الشخصي للأحداث إذا ما تم تخصيصها عن بلد أو مجتمع بعينه ..
_القصة:
كما هو واضح من الاسم هناك وليمة، والوليمة تحتاج منضدة حيث يجتمع آل سنتراك أو الشماليًن أو كما يطلق عليهم أهل الجنوب “الغربان” حول منضدة عليها وليمة كبيرة أعدت لهم بغرض التخلص منهم جميعا. تلك أحداث الرواية مؤامرة دبرها أهل الجنوب للتخلص من أعدائهم في الشمال دفعة واحدة. أما في العرض المسرحي فقد تم استلهام بعض مفردات المشهد “المنضدة، اجتماع أهل الحل والعقد، التشاور، المؤامرات التي تدور في الخفاء (تحت المنضدة) وأخيرا الدخيل أو الأجنبي”.
_تحت المنضدة:
في مصر هناك تعبير دارج يستخدم حين الحديث عن اتفاقات خفيه _تٌكمل أو تناقض _ أخرى معلن عنها
وهذا التعبير هو “تحت الترابيزة” فماذا يتم تحت “ترابيزة” أو منضدة اجتماعات النخبة؟! باستخدام ذكي للعرائس حيث يرتدي كل ممثل إثنان من وجوه العرائس ويتحدث ويتحرك بأصوات تعبر عن تلك الوجوه باستخدام طبقات صوتيه مختلفة خاصة بكل شخصية من تلك العرائس مع استخدام الركبة والساق لتحريك العروس وبمساعدة الإضاءة التي تركزت على الحدث تحت المنضدة وجعلت من فوق المنضدة ينعم بالظلام.
ما يحدث تحت المنضدة لا يختلف في مضمونه عن ما يحدث فوقها، فكلاهما يطرح حلولا تبدو سطحية وتافهة تختلف في طريقة تعاطي الشخصيات الرئيسية معها، فكل لديه مجموعة يحركها ويتحكم بها لتخدم مصالحه الشخصية الضيقه. إذن مجتمع متحلل من أعلاه وأسفله على السواء. مجتمع جاهز للحلول الخارجية والتدخل الأجنبي الذي سيحدث بعد قليل..
_ لكن ..من هو الأجنبي؟
لا يحدد العرض هوية هذا الدخيل القادم من خارج خشبة المسرح من صالة العرض وسط مجموعة من الأتباع. وما تنم الصورة والحركة عنه هو دورهم كلاعب أساسي في الدعاية لهذا الدخيل واحاطته بهالة من التفخيم وإضفاء أهمية كبرى على شخصيته كما تؤخذ تصريحاته مأخذ الجد. كما مثلت لحظة ظهوره نقطة فارقة ومفصلية في صراع دائر منذ بداية العرض ومحتدم بين النخبة. ظاهره المصلحة العامة وباطنه المنفعة الشخصية لكل فرد من تلك الشبكة المعقدة.
_ما هو الخيار الأخير؟
يظهر الأجنبي متجاهلا ما يدور حوله الخلاف الأساسي ويقترح حلا. بل ويأتي بهذا الحل معه وهو ببساطة مرحاض، وبعد أن يمتص الجميع الصدمة يبدأ في إجلاسهم فردا فردا عليه، موضحا مدى فائدته بكلمات دعائية لا تخلو من مبالغة. باستخدام الحركة استطاع المخرج أن يخدم الفكرة الرئيسية وهي قدرة هذا الدخيل على التأثير في متخذي القرار واجلس الجميع تباعا على”كرسي الحمام” مما يبرز كيف تلاعب بعقولهم ومشاعرهم في سرعة البرق.
اختيار الدراماتورج والمخرج “عبد الله آل علي” المرحاض يحمل عدة دلالات جعلت كل فرد من النظارة يفسر تفسيرا مختلفا خاصا به،مردود إلى ما يحمله هذا الرمز وما يستدعيه في ذاكرته الشخصية في هذا الجزء الأكثر حميمية ومدعاه للتخفي آلا وهو المرحاض.،ولكن اتفق الجميع على شيئان: التقزز و إدراك مدى تفاهة النخبة مع التأكيد على استخفاف الدخيل الأجنبي بالجميع. وهذا ما رمى إليه الدراماتورج والمخرج من استخدامه لهذا الرمز.
_كل شئ مقبول إلا هذا:
يًحكى أن نابليون حين أراد استماله المصريين أشهر إسلامه، وقرب إليه علماء الأزهر ومشايخه _ذلك قبل ثورة القاهرة الأولى ودخوله للأزهر بالخيول_ وبعدها بسنوات عديدة سرت إشاعة أن هتلر أشهر إسلامه وصار يسمى الحاج محمد هتلر. لا يخلو التاريخ من أمثلة لا تخص مصر وحدها بل العالم العربي كله. عن مغامرين أرادوا إستغلال ثروات المسلمين ومواردهم باستخدام الدين. لذا حين أعلن الدخيل عن أن المرحاض به عيب واحد هو عدم وجود “شطافه” ثار الجميع تقززا ونفورا، وكانت صرختهم الرافضة نهاية مشهد مما ضاعف تأثيرها. ذلك على الرغم من أن العرض لا يصرح بدين أو مذهب تلك النخبة مع تجاهل تام لزمن أو مكان الحدث كما أسلفنا لكن الوعي الجمعي لجمهور النظارة لا يجد مردودا لما يحدث على المسرح غير خلفياته الدينية والتاريخية.
_لكن ازدواجية التفكير سمة المجتمعات المغلقة:
كما كانت المعارضة شديدة لعدم وجود “شطاف” كانت المبادرة الفردية سريعة، حيث سعى كل فرد من تلك النخبة_”الرافضة بشدة” لمرحاض دون شطاف_ بشكل سري وفردي لسرقة الحمام والانفراد به. يظهر كل منهم متلصصا على الآخرين، ساعيا بجد لاقتناص الفرصة لسرقة الحمام. برزت في تلك اللحظة الفروق الفردية السطحية بين الشخصيات، فالمضمون واحد وهو الآنانية والجشع الاختلاف فقط في التفاصيل التي تظهر في تعاطي كلا منهم مع الحدث وطريقة تفكيره في حل يجعل منه المستحوذ الوحيد على الخيار الأخير وهو المرحاض.
_ أنا ومن بعدي الطوفان. كيف عبرت الصورة عن آنانية وتفاهة هؤلاء؟
لتتبع ما أحدثت الصورة من تأثير كان موصلا جيدا لأفكار أراد المخرج إبرازها. علينا أن نحلل عناصر الصورة ولنبدأ الشكل العام الذي برز كلوحة العشاء الأخير لليناردو دافنشي وما تحمله من دلالات تستدعي للذهن خيانة يهوذا للمسيح. ولعبت الإضاءة والملابس دورا كبيرا حيث استوحت الصورة بشكل كبير.
حاز حميد العسيري على جائزة أفضل إضاءة، وقد لعبت الإضاءة في هذا العرض دورا تحكي به الصورة الحكاية وتشارك في الحدث “بإفكتات” تنتجها الإضاءة كرد فعل على ما يحدث على المسرح وتكرر ذلك مرتان.
المرتان متتاليتان وتؤكد الأخيرة على الأولى حتى ينتبه من لم ينتبه أن إضاءة الصالة أثناء العرض لم تكن خطأ في التنفيذ. بل رد تلعب فيه الإضاءة مكان الكلمة التي لا يستطيع جمهور النظارة قولها حين يتعلق النقاش الدائر بين النخبة على المسرح في أدق تفاصيل الحياة اليومية بل ما يتعلق برزق وقوت الشعب وأمنه الغذائي، ذلك بدعوتهم تخفيض النفقات وتبني سياسة تقشفيه، تخفض الدعم أو تلغيه ويتم ذلك باقتراحات كاركاتيريه مبالغ فيها لتصل حد لا يصبح معه استمرار الحياة ممكننا، فلا يمكن أن يعيش إنسان بالغ على وجبة واحدة وشربة ماء وحين كان يتم ذلك على مرأى ومسمع من الجمهور والكلام موجهله والقرارت تؤثر فيه هو فيأتي الرد بإنارة الصالة لثواني وإرتعاش الضوء فيما يشبه الموافقة أو الدهشة أو الرفض ….
أما الملابس فثيمة واحدة مع اختلاف الألوان. رداء الحمام للجميع. لكل لونه الصريح الذي يتسق إلى حد ما مع التنميط. فللعاهرة اللون الأحمر وللسكير لونا سماويا وللمحايد أو الذي لا ميول واضحة لديه فهو مع الرائج فقط لونا رماديا ….إلخ
وعنصر آخر هام يحكي حكايته الخاصة ويساهم في التغريب أو كسر الإيهام وهو الموسيقى،حيث بدأت بتأثيرها على الأوراق التي تطايرت من منضدة الاجتماعات. كما شكلت خلفية للخطة البديلة التي أتى بها الأجنبي من الخارج على إيقاعات الراب المرتبط في أذهاننا بالسود الأمريكان، أو بأمريكا بشكل عام. وحين عرض عليهم مرحاض بلا شطاف ثاروا عليه وطردوه، وفي الخفاء حرص كل منهم على الاستيلاء على الحمام بعد أن صار رمزا للتمدن والسيطرة والانتماء لطبقة إجتماعية رفيعة، حين عاد الأجنبي مجددا بعد تلك المتغيرات ظهر من جديد ومعه مناديل ورقيه يعمي بها عين النخبة واحدا واحدا ويكبلهم على موسيقى إحدى القداديس الكنسية.
لغة الحوار:
استخدم العرض اللغة الفصحى للتعبير عن أفكاره مع صبغة إسلامية واضحة _استخدمتها كل الشخصيات تقريبا_ ظهرت في جمل وتعبيرات تخص المسلمين مثل “بلغت القلوب الحناجر، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، أيها الناس…الخ” مما لا شك فيه أن ثقافتنا جميعا إسلامية،لكن حين تستخدم بعض الألفاظ التي لا تحتمل الشك أو التأويل في الخلفية الثقافية والدينية لقائلها في عرض اعتمد بالأساس على تحييد الزمان والمكان وما يرتبط بهما من أيدلوجية أو ديانة وما إلى ذلك أمر يستحق إعادة النظر.
العرض المسرحي الخيار الأخير: تمثيل ماجد المازمي، نصر الدين عبيدي، عبدالله الشعسعاني، راشد الزرعوني ،سيدرا الزول، حليمة عيساوي. تصميم وتنفيذ إضاءة: حميد العسيري. ديكور: ماجد المازمي. إعداد وإخراج: عبدالله محمد آل علي.