المسرح من أجل الإنسانية / د. مدحت الكاشف

إن الموضوع الإنساني والإنسانية جزء أصيل في الفن المسرحي منذ نشأته وحتى الآن، وإذا اقتفينا أثر جذور نشأة الدراما نجد أنها كانت حاضرة في الحضارة الإغريقية، بوصفها واحدة من منجزاتها الثقافية، بل لقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، نحو الجذور التاريخية الموغلة في القدم قدم الانسان على وجه الأرض، حيث الإنسان الأول وعلاقته بكل مظاهر الوجود من حوله، وبخاصة الظواهر الطبيعية منها، والتي سعى إلى فهمها والسيطرة عليها، وعليه يرجع ظهور فن المسرح إلى مجموعة من العوامل الاجتماعية، والفلسفية، والنفسية، حيث ارتبطت نشأته بحاجة الإنسان للتعبير عن آلامه، وآماله، وصراعاته مع كل الموجودات من حوله، فقد وجد الإنسان الأول في فن المسرح تجسيداً لكافة الظواهر الطبيعية التي يسعى إلى فهمها، والسيطرة عليها، إذ أتاح له فن المسرح فرصة التفكير فيها، وتفسيرها، وكشف له عن مكنوناتها بشكل حسي، وجمالي، الأمر الذي أضفى على الفن المسرحي منذ البداية ذلك الطابع الاجتماعي في جوهره، ووظيفته، عندما ساعد الإنسان في تحويل الحياة التي يعيشها إلى فن، وذلك عن طريق المحاكاة التي اعتبرها أرسطو 384- 322 غريزة متأصلة في البشر، ومن ثم رأي أن هذه المحاكاة: ليست للإنسان فقط، ولكن للفعل والحياة، أو للعواطف البشرية التي هي أشكال هذا الفعل، وما أن تصل فكرة الدراما إلى الحضارة الإغريقية، وتتبلور بشكلي علاقة ثنائية مع المعتقد الديني، وتأخذ النهج الميثولوجي، حتى يتضح الدور الاجتماعي والإنساني للدراما المسرحية وذلك بعلاقتها الجدلية مع المتلقى في العملية الإبداعية للمسرح، حيث كان ظهور الدراما كجزء من الاحتفالات، والطقوس الدينية بمثابة حلقة الوصل بينها وبين التجربة الدينية للمتفرج.. حيث عبر المسرح الإغريقي عن مفهوم الديمقراطية الأثينية، وحرية التعبير التي أفرزت أعمال كتاب المسرح الأولين من أمثال اسخيلوس، سوفوكليس، يوربيدس، وأرستوفانيس. وأعمالهم التي كان لها عظيم الأثر في خلق مسرح تفاعل مع المجتمع اليوناني الذي كان يعتبر ذهاب المواطنين إلى المسرح التزاماً وطنياً وإنسانياً، وانطلاقاً من ذلك ظلت المفاهيم والقضايا الإنسانية تتسلل باضطراد مستمر إلى الدراما المسرحية، فكلما ازدادت مشاكل الإنسان، وتعقدت علاقاته الإنسانية، ازداد المسرح اهتماماً ورعاية بالإنسان وقضاياه، حتى حينما انهارت الحضارة الأغريقية، وبزغ شمس الحضارة الرومانية، لم تغادر هذه المفاهيم والقضايا النص المسرحي، ولا خشبة المسرح. حيث ظلت هي السؤال الأكبر في دراما والعصور التالية: الحضارة الرومانية، وبعدها المسرح الديني في العصور الوسطى، ثم عصر النهضة وإحياء الدراما الكلاسيكية، حتى تجليات الدراما في ظل الثورة الصناعية، والدراما في ظل الات والإمبراطوريات الاستبدادية، ثم الدراما في ظل انهيار الأمبراطوريات الكبرىوما أن نصل إلى القرن العشرين حتى تدخل هذه الدراما فجيعة الإنسان والإنسانية، وعن أزماته وإشكالياته فيظل عقلية عسكرية وسياسية استعمارية / إمبريالية هدفها سحق الإنسان، وسحق مفاهيمه الإنسانية في ظل أوضاع مركبة من هذا النوع، شديدة التعقيد، وشديدة الأزمات. كونها خلقت إنساناً مأزوماً، وإنسانية هشة مدمرة، وواقعاً مأزوماً تتصارع فيه الإرادات والأيديولوجيات على نحو طالت فيه الهويات والحريات والحقوق المدنية والدستورية للإنسان…وكان من الطبيعي أن تلتفت الدراما الحديثة والدراما المعاصرة، كتاباً ومخرجون إلى جوهر الأسئلة الإنسانية الكبرى، وتعبر بخطاباتها الفنية والإبداعية عن جوهر عذابات الإنسان وقضايا الإنسانية، فبرزت أسماء عالمية في مجال الدراما المسرحية، كان لها الأثر الكبير في الانتصار لصالح الإنسان وقضاياه، وتعرية أنظمة القتل والفساد والتدمير والتعذيب، وبخاصة الأنظمة الديكتاتورية منها، والأنظمة الصانعة للحروب سماء جعلت من المسرح أداة تنوير لعقلية الإنسان، وأداة دفاع عن قضاياه وإشكالياته، مستندة في ذلك إلى المفاهيم الراسخة للإنسانية قبل ميلاد المنظمات والهيئات الإنسانية العالمية، ومن ثم استندت إلى نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق الدولي لحقوق الإنسان، ومختلف المنظمات الإنسانية المدنية والحقوقية المدافعة عن الإنسان في كل البلدان والقارات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت