الثقافة والمجتمع… الأثر الثقافي للفنون الإبداعية / د.مدحت الكاشف
لما كانت الفنون الإبداعية بوصفها المعبر عن ثقافة أي مجتمع حيث يناط بها تحقيق صورة الوجود الإنساني، أوبناء نوع من الاتحاد الاجتماعي/الثقافي حول الهموم العامة بين البشر من خلال ما تملكه هذه الفنون من عناصر جمالية Aesthetic elements تعبر عما هو ثقافي اجتماعي، وتسعى إلى تجسيد توازن الفرد مع ثقافته الاجتماعية في لحظة ما، خارج الزمان والمكان، فإن هذه العناصر الجمالية تكمن في حقيقة الموضوعات التي تعالجها هذه الفنون على اختلافها وتنوعها، وكذلك اللغة التي تستخدم للتعبير عن هذه الموضوعات، ومن أجل قيام الفنون بوظيفتها الاجتماعية بغرض إحداث تأثير ثقافي في المجتمع يجب النظر إليها باعتبارها وسيلة لخدمة غاية أو هدف، وذلك على اعتبار أن العمليات الإبداعية التي تكتنف الفنون بكل فعالياتها هي أقرب إلى التأثير المتبادل بين الأوضاع الثقافية والاجتماعية السائدة في المجتمع الذي تتم فيه ممارسة تلك الفنون، وبين التكوين النفسي والوجداني والجمالي للمبدعين ويتم وصف هذه العمليات الإبداعية بأنها: نوع من الصراع بين الأيديولوجيا Ideologyأو (الأفكار) الذاتية والشخصية للمبدع، وبين الأيديولوجيا السائدة في المجتمع، عندئذ تصبح تلك الفنون الإبداعية بمثابة صفقة أيديولوجية فيما بين المبدع والمتلقي، فالأيديولوجيا هي مصدر القدرة المجمعة للمبدعين والمشاهدين وهي تقريباً ما توحد الإحساس، والتذوق الفطري المشترك للمدلولات المستخدمة في أي إبداع فني، وعليه فالأيديولوجيا تقدم الإطار الذي يقوم به الفنانون بتقديم اللغز والشفرة في قالب إبداعي، ويقوم المتلقون بفك رموزها ومعانيها، ومن هنا يمكن القول إن الفن عامة ليس مجرد تعبيراً عن ذوات المبدعين فحسب، ولكنه تعبير بالصور والصيغ (الجمالية) التي ترجع إلى أصل ثقافي/ اجتماعي، ولذا نجد أن تطور البني الفنية في الفنون لم تنفصل عن رؤية مبدعيها للمجتمع الذي يعيشون فيه، وذلك من خلال هذا التأثير المتبادل والمستمر بين الموضوعات التي يقدمها هؤلاء المبدعون، وبين حركة تطور المجتمع، إن هذه البني المتغيرة بتغير المجتمع، ومفاهيمه هي المادة الملموسة التي تقبع في أعماقها رسالة المبدع، متفاعلة مع موضوعه المختار، ولذا فإن البنية تتغير بتغير المتعامل معها، خاصة في مجال المسرح على سبيل المثال باعتباره عملية تفاعل خلاق بين فنون مختلفة، الأمر الذي يتطلب من ذلك المبدع وعياً جمالياً بالقوانين الثقافية والاجتماعية الثابتة أو المتغيرة، التي تشكل حركة تطور مجتمعه، حتى يكون قادراً على تفعيلها، أو مناهضتها وفقاً لموقفه الأيديولوجي، وكما يتعامل الفنان مع الوسائل الجمالية والحرفية، كذلك فإن المتفرجين يتلقون مضمون العرض المسرحي من خلال مجموعة من العمليات التأويلية Hermeneutique التي تحددها هذه القيم المرتبطة بثقافة المجتمع، الأمر الذي يكشف عن حضور المجتمع (وقيمه) بقوة داخل مجتمع العرض المسرحي، وهو ما يؤكد أيضاً عدم إمكانية فصل الخطاب المسرحي للعرض عن الثقافة الاجتماعية التي أفرزته، فهو جزء من جمالياتها، حيث تلعب أشكال الإنتاج الفني المتاحة للفنان دوراً فاعلاً في عملية بناء العمل الفني، وعليه فإن أفكار الفنان وقيمه باعتبارها قد تشكلت اجتماعياً تنتقل من خلال مواضعات ثقافية، وأدبية خاصة بالأسلوب، واللغة، والجنس الأدبي، والمفردات الجمالية، وكما يتعامل الفنان مع خامات وتقنيات الإنتاج الفني فإنه يتعامل أيضاً مع المادة المتاحة من المواصفات والأعراف الجمالية، هذا يعني بالتالي أننا عندما نضطلع بقراءة المنتج الثقافي، فنحن بحاجة إلى فهم منطق البناء الخاص به، ونوعية الشفرات الجمالية التي تتدخل في عملية تشكيله، ومما سبق فإن النظرة التحليلية لموضوع الأبعاد النفسية والاجتماعية للفنون الإبداعية، تتعلق بالأسس التي وضعتها بعض العلوم الإنسانية لتحليل الظاهرة الإبداعية في المجتمعات الإنسانية .